انتقال غير عادل
الطاقة والإمبريالية والنمط الاستخراجي في الصحراء الغربية المُحتلة
جوانا آلان، حمزة لكحل، محمود لمعدل
9 ديسمبر 2021
إنّ الأزمات الإيكولوجية المتعدّدة التي تتسبّب فيها الأنشطة البشرية متصّلة بعضها ببعض وتؤدّي إلى تفاقم التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأخرى التي تواجه شمال أفريقيا1. وفي الصحراء الغربية، تتشكّل هذه التحدّيات والأزمات انطلاقاً من وضعية الصحراء المستمرّة بصفتها خاضعة للاستعمار. يهدف هذا التقرير إلى الإسهام في المناقشات حول الانتقال العادل، أي الانتقال نحو «اقتصادات مزدهرة توفّر سُبل معيشة حافظة للكرامة ومُنتجة ومستدامة إيكولوجيًا، وحكم ديمقراطي، وقدرة النُظم البيئية على الصمود» في الصحراء الغربية2.ويتحرّى المؤلّفون في هذا الصدد تسليط الضوء على أداء النمط الاستخراجي حالياً في الجزء الذي يحتلّه المغرب من الصحراء الغربية. يركّز التحليل على التطورات الخاصة بالطاقة المتجددة؛ إذ يُحتَفى على الساحة الدولية بالمغرب فيما يخصّ التزامه بما يُدعَى «الانتقال نحو الطاقة الخضراء».3 القصة المروية هنا – والتي تهدف إلى تسليط الضوء على أصوات الصحراويين الذين يُعَدُّون السكّان الأصليين للصحراء الغربية – هي قصة مختلفة. انطلاقاً من فكرة أنّ التطورات بمجال الطاقة المتجدّدة تقوّض حق تقرير المصير الصحراوي وتزيد من أوْجُه اللامساواة (الواقعة والمُتَصَوَّرة) بين الصحراويين والمغاربة؛ فهي إذًا تطوّرات تقوّض الانتقال العادل.
فيما يلي، وبعد إطلالة تاريخية موجزة على نزاع الصحراء الغربية، يتناول المؤلّفون أولاً أشكال النمط الاستخراجي التي تُمارس في الصحراء الغربية المحتلة، ويضعون خارطة المساهمين فيها، والأرباح المتولّدة عنها، والصناعات الاستخراجية القائمة هناك. ولئن ركّز التقرير بالأساس على التطورات بمجال الطاقة، فإنّه يسلّط الضوء أيضاً على أشكال النمط الاستخراجي ذات الصلة، بما يشمل استخراج الفوسفاط والصيد والرمال والصناعات الزراعية. و يُمَوْضِع المؤلّفون بحثهم في مجال الاستخراجية بالصحراء الغربية في نطاق المناقشات الأكاديمية والناشطية الأوسَع حول الطاقة والإمبريالية على المستوى العالمي. وبالإضافة إلى ذلك، يقدم التقرير الحجج والأسباب التي يجب، من خلالها، اعتبار التطورات الخاصة بالطاقة المتجددة في الأراضي المحتلة من أشكال الاستخراجية.
ثانياً، يُحاجج المؤلفون بأنّ الطاقة (الممكنة) المُنتَجة في الصحراء الغربية المحتلة تُسهم في دبلوماسية النظام المغربي على المستوى الدولي، بما يقوي سيطرة نظامه الاستعماري على الصحراء الغربية المحتلة.
وأخيراً، يطرح التقرير سؤالاً حول ماهية الانتقال العادل من المنظور الصحراوي. وللإجابة عن هذا السؤال، يلتفت المؤلفون ‒ بحثا عن نماذج ملهمة ‒ إلى مخيمات اللاجئين الصحراويين وحكومتهم في المنفى قرب تندوف بالجزائر. وفي التقرير أيضا تحليل لعينة صغيرة من المبادرات الصحراوية ومدى ارتباطها بالانتقال العادل (كإطار ورؤية بديلة) وكيف يمكن أن تُجَسِّدَهُ على أرض الواقع.
تاريخ موجز لنزاع الصحراء الغربية
بدأ الاستعمار الإسباني للصحراء الغربية في عام 1884، بعد مؤتمر برلين، وفيه قسّمت الدول الأوروبية أفريقيا فيما بينها، مع تخصيص الصحراء الغربية كحيازة إسبانية. في البداية، اقتصر الوجود الإسباني فيما كان يُدْعَى «الصحراء الإسبانية» على الصيد في المياه الإقليمية والتجارة مع القبائل الصحراوية. لكنّ اكتشاف الفوسفاط والنفط والمخزونات المعدنية الأخرى في الأربعينيات من القرن العشرين شجّع إسبانيا على توسيع سيطرتها على الصحراء سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.4
وفي بداية الستينيات، بدأ عهدٌ جديد من مقاومة الاستعمار مع إعلان منح الاستقلال للدول والشعوب المُستعمَرة، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1960 5. وأدرجت الصحراء الإسبانية (الصحراء الغربية) سنة 1963 في قائمة الأمم المتحدة للأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والتي ينبغي إنهاء الاستعمار فيها. وفي تلك الفترة، ظهرت حركات شعبية مُنَظَّمَة تطالب بالاستقلال الصحراوي، وكانت أوَّلُها المنظمة الطليعية لتحرير الصحراء، التي شكّلها محمد سيدي إبراهيم بصيري عام 1968. إثر ذلك، بعدما أخفت إسبانيا بصيري6، قامت مجموعة من الطلاب الشباب وأ أعضاء من المنظمة الطليعية بتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو) في 1973. وفي العام نفسه أطلقوا نضالاً مسلّحاً ضدّ الإسبان.7
ومنذ استقلال المغرب في 1956، وفي ظلّ طموحات النظام المغربي التوسّعية، عبّر الأخير عن حلمه بـ «المغرب الكبير»، الذي يشمل الصحراء الغربية وموريتانيا وأجزاء من الجزائر ومالي8. من ثمّ، بدأت إسبانيا تنفيذ خطتها بعقد استفتاء للحكم الذاتي للصحراويين في 1974. ومرّة أخرى تقدّم المغرب وموريتانيا بمطالب السيادة الإقليمية على الصحراء الغربية. ادّعت الدولتان أنّ الصحراء الغربية – قبل الاستعمار الإسباني – كانت تنتمي للمغرب الكبير وموريتانيا الكبرى، ولقد تمّ النظر في هذه المطالبات أمام محكمة العدل الدولية. رفضت المحكمة هذه المطالبات في رأيِ استشاريِّ أدْلَت به وطالبت بتطبيق قرار الأمم المتحدة 1514 (XV)، الذي يسمح للصحراويين بحقهم في تقرير مصيرهم9. إلا أنّ إسبانيا وقّعت اتفاقاً ثلاثياً غير قانوني مع كُلٍ من المغرب وموريتانيا تمّ بموجبه تقسيم الصحراء الغربية بين البلدين الأفريقيَّيْن ومنحُ إسبانيا 35 بالمئة من أرباح مخزون فوسفاط الصحراء الغربية، فضلاً عن ضمان وصولها المستمر إلى مصائد الصحراء الغربية السمكية10.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 1975 قام كُلٌ من موريتانيا والمغرب بغزو الصحراء الغربية.11 وفي عام 1976، أعلنت البوليساريو من مخيمات اللجوء قيام الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية في المنفى. وكان هذا معقلُ نضال البوليساريو المُسَلَّح ضدّ المغرب وموريتانيا إلى أنْ وقع اتفاق وقف إطلاق النار بوساطة من الأمم المتحدة عام 1991، وقد تم الاتفاق عليه بناءً على وعدٍ بإجراء استفتاء لتقرير المصير حول استقلال الصحراء الغربية. لم ينعقد هذا الاستفتاء قَطُّ، ما أدّى إلى عملية دبلوماسية راكدة امتدَّت حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2020 (أنظر أدناه).
انسحبت موريتانيا من الحرب في عام 1979، عندما وقّعت معاهدة سلام مع البوليساريو. أمّا المغرب، فقد استمرّ تواجد قوّاته المحتلة في الصحراء الغربية. ودَعَت الجمعية العامة للأمم المتحدة «المغرب إلى الانضمام إلى عملية السلام وإنهاء احتلاله لإقليم الصحراء الغربية»12. تسيطر البوليساريو حالياً على نحو رُبع مساحة الصحراء الغربية الواقعة شرق الجدار الرملي المغربي، الذي يُعَدُّ «أكبر جدار عسكري قائم حالياً على مستوى العالم».13
هناك في الوقت الحالي نحو 180 ألف لاجئ صحراوي يعيشون على المساعدات الإنسانية الدولية في مخيمات اللاجئين في الجزائر، في حين يستمر المغرب في سياسات الاستعمار الاستيطاني في الصحراء الغربية المحتلة. تتراوح هذه السياسات من الإخفاء القسري والتعذيب لسجناء الضمير14 إلى نقل عدد كبير من المستوطنين المغاربة إلى الأراضي الصحراوية (ليس هناك بيانات موثوق بها حول نسبة أعداد المستوطنين مقارنة مع الصحراويين، لكنّ الإجماع ينعقد على أنّ المستوطنين يفوقون حاليًا عدد الصحراويين) إضافة إلى الهيمنة الثقافية المغربية على المنطقة.15
ولقد توسّطت الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار بين البوليساريو والمغرب منذ عام 1991، ودام الاتفاق 29 عاماً ثمّ انتهى في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 بعد واقعة عنف. اذ قام المدنيون الصحراويون بوضع حاجز عند ثغرة في الجدار العسكري قُرب قرية الكركرات المحاذية للحدود الموريتانية، بمنطقة عازلة منزوعة السلاح. وقال عبد الحي لعراشي، أحد الصحراويين الذين ساعدوا في وضع الحاجز: «كان هدفنا هو إغلاق هذه الثغرة غير القانونية بمنطقة الكركرات […] إنها بوابة يُمَرِّرُ منها المغرب ثرواتنا الطبيعية المنهوبة إلى موريتانيا ودول أخرى.»16 أطلقت القوات المغربية النار على المتظاهرين بالموقع، وردّت البوليساريو النيران بعدما أعلنت سقوط وقف إطلاق النار.
ليست مصادفة أنّ الحرب الجديدة بدأت إثر قطع الصحرايين الطريق على ما وُصف بـ «ممرّ النهب» في الكركرات (ومن خلاله تَمُرُّ منتجات الأراضي المحتلة إلى ميناء نواذيبو، حيث يتمّ تصديرها على المستوى الدولي): إنّها الاستخراجية… في صميم النزاع والاستعمار في الصحراء الغربية.
النمط الاستخراجي في الصحراء الغربية المحتلة
النمط الاستخراجي هُو نمط تراكمٍ رأسمالي، تقوم بموجبه بعض الجهات – عادة ما تكون في الشمال العالمي – باستخراج الموارد الطبيعية لمناطق أخرى، بغرض التصدير بالأساس17. وقد وسَمَت الاستخراجية علاقة أوروبا بالأمريكيّتين وأفريقيا وآسيا منذ عهد الغزو والاستعمار18. في الوقت الحالي، تستمرّ الاستخراجية في شمال أفريقيا تحت غطاء نيوكولونيالي19. وتشمل الموارد الجاري استخراجها النفط والغاز والمعادن النفيسة والأسماك والمنتجات الزراعية20. ومن المفهوم في عصرنا هذا بصورة عامّة أنّ السياحة والاستيلاء الثقافي من أشكال الاستخراجية النيوكولونيالية، من حيث أنّ موارد الجنوب العالمي أو الشعوب الأصلية – بما فيها الموارد الفكرية والفنية – تُستَغَلُّ لصالح سكان الشمال العالمي21.
وخلال السنوات الأخيرة، أصبح من الواضح بصورة متزايدة أنّ مشروعات الطاقة المتجدّدة قد تؤدي إلى ترسيخ الاستخراجية أو تعزيزها. على سبيل المثال، فإنّ مبادرة ديزرتاك الصناعية الفاشلة، التي كانت تهدف إلى تلبية نحو 20 بالمئة من احتياجات أوروبا من الطاقة بحلول 2050 من خلال مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح – التي تم بناؤها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا –، نظر إليها النشطاء المحليون بصفتها مشروعًا رأسماليًّا نيوكولونياليًّا. وأثارت ديزرتاك تساؤلات حول إمكانية نهب الموارد المائية النادرة أصلا، وتصدير الطاقة إلى أوروبا دون تلبية احتياجات الطاقة المحلية، فضلاً عن اللغة الاستعمارية التي وظّفتها لوصف الصحراء الكبرى. في نهاية المطاف انهارت المبادرة لأسباب مالية22. وعلى نحو مماثل، وبناءً على بحوث في مجتمعات الشعوب الأصلية في المكسيك، يصف ألكساندر دونلاب تنمية الطاقة المتجددة على نطاق صناعي واسع بمسُمّى «الوقود الأحفوري+»، على أساس أنّ المشاريع الكبيرة التي تقودها الشركات تُجدّد وتوسّع من النظام الاستغلالي الرأسمالي الاستعماري الذي دأبت عليه صناعة الوقود الأحفوري23. ويمكن فهم التطوّرات بمجال الطاقة المتجدّدة في الصحراء الغربية بصفتها استخراجية، لكونها تُعمّق من أنماط التراكم الرأسمالية، فضلاً عن الممارسات الاستعمارية والاحتلال العسكري، ولأنها تستخدم الموارد بسُبُل لا تُفيد حقوق الإنسان الخاصة بالمجتمعات المحلية أو تُقرّ بوجودها.
فباستثناء مزرعة واحدة للطاقة الريحية، والتي تملكها جهات خاصة تُزود مصنعاً للإسمنت بالطاقة، فإنّ جميع مشاريع تطوير الطاقة االريحية في الصحراء الغربية المحتلة تُعد جزءًا من أعمال شركة طاقة رياح تُدعى «نافيرا»، التابعة لشركة المدى القابضة المملوكة للعائلة الملكية المغربية24. وقد تعاونت «نافيرا» بالشراكة مع شركة الطاقة الألمانية متعدّدة الجنسيات «سايْمنز» (وشركة سايمنز غاميسا الإسبانية فيما بعد) في تشييد جميع مزارع الطاقة الريحية التي ظهرت في الصحراء الغربية المحتلة. تُوَلِّد مزرعة رياح أفتيسات 200 ميغاوات للمستخدمين الصناعيين، من بينهم شركة «مجموعة أو سي بي» المملوكة للدولة المغربية (فيما سبق «المكتب الشريف للفوسفاط»)25. وتوفّر مزرعة فُمّ الواد 95 بالمئة من الطاقة اللازمة لتشغيل منجم فوسفاط بو كراع26. ومن المُخطَّط تجهيز عدّة مزارع رياح أخرى في الصحراء الغربية المحتلة، تبلغ طاقتها الإنتاجية مجتمعة أكثر من 1000 ميغاوات. وهناك خطط للتوسّع في مزرعتين للطاقة الشمسية القائمتين في الصحراء الغربية المحتلة، مع بناء محطة ثالثة. وجاري إعداد عدّة دراسات تستشكف إمكانات الطاقة الحرارية الأرضية للصحراء الغربية المحتلة27.
في ظلّ تركيز هذا المقال على تطورات ومشاريع الطاقة المتجددة، من المفيد وضع هذه التطورات في خلفية السياق الأوسع للاستخراجية في الصحراء الغربية المحتلة. فالفوسفاط المُستخرج من بوكراع يُنقل حول العالم للاستخدام في صورة منتجات تسميد زراعي28. وهناك منتجات غذائية من فواكه وخضراوات تُزرع في صوبات زراعية على نطاق صناعي كبير لصالح أسواق الاتحاد الأوروبي، وهو النشاط الذي يتطلب استنفاد آبار المياه الجوفية الثمينة29. وجاري استغلال مصايد الصحراء الغربية السمكية الغنية ، من قِبل سفن صيد عملاقة من عدة دول ومناطق، من بينها الاتحاد الأوروبي وروسيا، باستخدام ممارسات صيد وإنتاج سمكي غير مستدامة.30 وعلى المستوى المحلي، تم منح عدة تراخيص صيد لشخصيات بارزة في المخزن المغربي (النخبة الحاكمة).31
هناك عدد من الباحثين القانونيين الذين يشكّكون في شرعيّة هذه الأنشطة، بما أنّ موارد المناطق المحتلة لا يمكن استغلالها بشكل قانوني في غياب موافقة الشعب الذي يعيش في الإقليم المحتل.32 ومن هذا المنطلق، نظرت عدة محاكم دولية في قضايا رفعتها حكومة الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية ومنظمات التضامن الصحراوي.33
تغذية الاحتلال: كيف تقوم الطاقة بأداء العمل الدبلوماسي نيابة عن النظام المغربي
تُستَخدم التطورات بمجال الطاقة في خلق أشكال جديدة من الاعتمادية خارج المغرب على الطاقة الواردة جزئياً على الأقل من الصحراء الغربية. يمكن القول بأنّ ذلك يهيّئ لمحفّزات دبلوماسية لدى دول أخرى لكي تدعم الاحتلال. تتصل الصحراء الغربية بالشبكة الكهربائية المغربية من خلال رابط رئيسي بالشبكة في العاصمة العيون. وجاري حالياً تحضير وصلة بقوة 400 كيلوفولت بين العيون والداخلة، وهي مدينة تقع في جنوب الصحراء الغربية.34 يأمل المغرب في توصيل شبكته إلى الشبكة الموريتانية عبر الداخلة، في سبيل تحقيق هدف تصدير الطاقة إلى سوق غرب أفريقيا.35 وبالمثل، في محادثات مؤتمر الدول الأطراف الثاني والعشرين COP22 في مراكش عام 2016، وقَّع المغرب على خطة عمل لتصدير الطاقة في المستقبل إلى الأسواق الأوروبية المحلية.36 وتمثّل هذه الخطط والاتفاقات معوقات إضافية جسيمة تحول دون تحقيق تقرير مصير الشعب الصحراوي. وبذلك يستطيع المغرب، إذا أنشئت هذه الوصلات، أن يهيئ لاعتمادية أوروبية وغرب أفريقية جزئية على الطاقة المُوَلَّدَة في الصحراء الغربية.
زيادة على ذلك، يستغلّ النظام المغربي وعد الطاقة هذا لتحسين «القوة الناعمة»، أي القدرة على إقناع أو إكراه الدول الأخرى لدعم سياسات بعينها أو اتخاذ تدابير بعينها لصالحه في القارة الأفريقية.37 على سبيل المثال تقرَّر تشييد خط الغاز النيجيري المغربي (NMGP) على اليابسة وفي البحر، وهو يهدف إلى نقل الغاز النيجيري إلى غرب وشمال أفريقيا مع إمكانية مد الخط إلى أوروبا. لهذا المشروع الطاقي الهائل تداعيات سياسية كبيرة: بعد أن كان النظام النيجيري داعماً للبوليساريو، خفت موقفه الدبلوماسي من النزاع في الصحراء الغربية بسبب هذا المشروع.38 يمكن رؤية هذا التغيّر كنوع من دبلوماسية الطاقة: يُورِّطُ المغرب في احتلاله للصحراء الغربية أطرافا فاعلة ذات نفوذ ثم يهيئ لتحالفات تدعم مشروعه الاستعماري من خلال مشاريع تنمية نظامه الطاقوي المخطط لها.
و يمكن أيضا قراءة مشاريع تنمية الطاقة المتجدّدة المغربية بالصحراء الغربية المحتلة من خلال عدسة «الغسيل الأخضر». و«الغسيل الأخضر» يعني الترويج بشكل مخادع لمنتَج أو سياسة أو إجراء ما بصفته صديق للبيئة. يسوّق المغرب لنفسه حالياً بصفته «الدولة الإفريقية الرائدة في مجال تطوير الطاقة المتجددة».39 وبذلك، يغسل النظام المغربي احتلاله للصحراء الغربية بالاستعانة بهذه الاستراتيجية الخضراء. الآثار البيئية للانتشار العسكري الموسّع، والجدار الذي يقسم الصحراء الغربية، واستغلال الفوسفاط واستنزاف الآبار الجوفية العذبة لريّ الصوبات الزراعية ذات الأحجام الصناعية، هي أعمال تختفي وراء الصورة «الخضراء» التي يرسمها النظام المغربي بدقة وإتقان لنفسه.
إنّ أعمال تنمية الطاقة في الصحراء الغربية المحتلة تدعم صورة «سيادة» الطاقة الزائفة للمغرب (وهي زائفة لأن المغرب ليست لديه الشرعية كسلطة سيادية في الصحراء الغربية)، وهي أيضاً تجعل المغرب «مستقلٌ في ملف الطاقة» عن الدول الأخرى بالمنطقة من خلال استغلال موارد الصحراء الغربية. وحتى خريف 2021، كان المغرب يحاول، حسب بعض المزاعم، تسريع عجلة مشروع الربط بالغاز مع نيجيريا بسبب رفض الجزائر لاستمرار التعاون في قطاع الغاز مع المغرب بعد أن قطعت الأولى العلاقات الدبلوماسية مع المملكة. ويُعزى هذا القرار بدرجة كبيرة إلى النزاع في الصحراء الغربية.40 وفي وضعية تنتج فيها المملكة النزر اليسير من نفطها وغازها، تبدو خطط الطاقة المتجددة المغربية، في واقع الأمر، مُصمّمة لإنهاء الاعتماد على واردات الطاقة. وقد ذكر مرصد «مراقبة موارد الصحراء الغربية» أن «الطاقة المنتجة من الرياح في الصحراء الغربية المحتلة سوف تمثل 47.2 بالمئة من إجمالي سعة طاقة الرياح المغربية، بحلول عام 2030. وبحلول العام نفسه، فإن نسبة الطاقة الشمسية المولدة من الأراضي ستتراوح بين 9.7 و32.64 بالمئة من إجمالي سعة الطاقة الشمسية المغربية، ويرجح أن النسبة ستكون أقرب للحد الأعلى المذكور».41 من ثَمَّة، يسعى المغرب إلى مواجهة مشكلات الطاقة التي تواجهه من خلال استغلاله الاستعماري لموارد الصحراء الغربية.
تغذية القمع: الرؤى الصحراوية لمنظومة الطاقة بالصحراء الغربية المحتلة
جمع المؤلفون بيانات حول التصورات الصحراوية إزاء منظومة الطاقة في الصحراء الغربية المحتلة من خلال نهج الملاحظة التشاركية (2015) ومن خلال تنظيم مجموعتي نقاش مُرَكَّز (2019) و20 مقابلة نصف مهيكلة معمَّقة (2019-2020). المشاركون في البحث، المشار إليهم هنا بأسماء مستعارة، هم صحراويون يعيشون في مدينتي العيون وبوجدور المحتلتين، ولا يُعَرِّفون أنفسهم كنشطاء، أو أنهم نشطاء لا يعملون في العلن (مهتمون بقضايا الاستقلال والحفاظ على البيئة وحقوق الإنسان).42 ونقصد بمصطلح «منظومة الطاقة» أو «نظام الطاقة» أنشطة تنمية الطاقة والبنية التحتية وشبكات النقل والاستخدام والتصورات حول الطاقة (أي فهم الطاقة والمعاني المرتبطة بالكلمة في أي مجتمع بعينه). ويغطّي هذا نُظُم الطاقة الموَلَّدة عن الوقود الأحفوري والطاقة المتجددة على حدٍ سواء.
ولقد وصف المشاركون في البحث انقطاعات الكهرباء بـ«المتكرّرة» ، وقدّموا عدة تفسيرات لأسباب هذا الانقطاع. قال دادي: «انقطاع الكهرباء يحدث لأسباب سياسية، على سبيل المثال المسيرات الليلية المخطط لها».43 وعلى نحو مشابه، قال حرطان موضحاً: «عندما تظهر أنباء عن عودة معتقلين سياسيين صحراويين إلى ديارهم، تقوم سلطات الاحتلال المغربية متعمدة بقطع الكهرباء لعرقلة فعاليات استقبالهم… وقد تمكنت بنفسي من رؤية معاناة النشطاء الإعلاميين إذ كنا محاصرين أثناء مظاهرات شعبية بمناسبة زيارة مبعوث الأمم المتحدة كريستوفر روس للعيون المحتلة… لاحظت أنّ بطاريات الكاميرات الخاصة بهم نفدت ولذلك لم يتمكنوا من رصد الانتهاكات…».44 وقال محمود: «يقولون [موفّرو الطاقة] إنها [انقطاعات الكهرباء] بسبب مشاكل في الشبكة، لكننا نعرف أنهم يقومون أحياناً بقطع الكهرباء عمَدًا عندما يريدون نقل أشياء سرية إلى المدينة، أو عندما يقوم الشباب بمظاهرات في الشوارع».45 وبالنسبة «للأشياء السرية» التي ذكرها محمود، أضاف فاضل: «أحياناً يقطعونها [الكهرباء] إذا كانوا يريدون نقل جنود أو أسلحة من المطار إلى الصحراء، أي إلى الجدار العازل، فهُم لا يريدون أن يعرف الناس أو النشطاء أعداد الأسلحة والدبابات والجنود التي تدخل».46
من «هم» هؤلاء الذين يشير إليهم فاضل؟ هل هم موفّرو الطاقة والدولة المغربية؟ أم الدولة المغربية فقط؟ الحاجة إلى طرح هذا السؤال تكشف عن الربط الوثيق بين الطرفين ‒ موفّرو الطاقة والدولة المغربية ‒ من قبل المشاركين في البحث. هذا التماهي بين الطرفين شائع في السياقات النيوكولونيالية وله تداعيات كبيرة على الكيفية التي ينظر بها المواطنون إلى الدولة. كما حاججت أدالينا بابتيستا، فعندما يُنظَر إلى موفرّي الخدمات بصفتهم وثيقي الصلة بالدولة، فإنّ العلاقة بين مقدم الخدمة والمستهلك تصبح مفهومة بصفتها علاقة بالوكالة بين الدولة والمجتمع.47 وفي السياق ذاته، تقول تشارلوت ليمانسكي إن طريقة حصول الناس على البنية التحتية العمومية تشكّل هويتهم كمواطنين، وعلاقتهم بالدولة.48 وفي الصحراء الغربية، عمّقت تجارب المشاركين في البحث مع نُظُم الطاقة شعورهم بالعداء إزاء الدولة المغربية.
أحسّ المشاركون بالبحث بأن الأحياء التي بها نِسبٌ أعلى من الصحراويين، مثل حي معطى الله بالعيون، تتعرض لانقطاعات الكهرباء بشكل أكبر. إضافة إلى ذلك، كان بعض المشاركين يحرصون على الإشارة إلى أنّ نفس الأمر ينطبق على شبكة المياه. على سبيل المثال، قال لنا علي، البالغ من العمر 31 عاماً : «هذه الانقطاعات مألوفة في معطى الله والضواحي الصحراوية الأخرى، لكن أراهنك أنّ المستوطنين تبقى المياه جارية عندهم ولا تنقطع».49 هو يفهم البنية التحتية – المياه والكهرباء في هذه الحالة – كأداة في يد المستعمر للتفرقة بين المستوطنين والسكان الأصليين. وكما في المواقف الاستعمارية الأخرى – التاريخية والحالية – فإن البنية التحتية تساهم في خلق التفرقة الإثنية.50 الأبعاد الجندرية لانقطاعات الطاقة يجب أن تؤخذ أيضا بالحسبان. ففي المجتمع الصحراوي يقع عبء (أو متعة) رعاية الأطفال والبيت على كاهل النساء والفتيات بشكل غير متناسب. آثار انقطاع الكهرباء المنزلية مجندرة إذن. وعلى حد تعبير محمود: « كإنسان بدوي [انقطاع الكهرباء] لا يضرّني، فأنا معتاد على العتمة. لكن أحياناً نكون بحاجة ماسة للكهرباء، لا سيما زوجتي والأطفال».51
أحسّ جميع المشاركين في البحث، الذين يتلقّون الكهرباء من الشبكة الحكومية، بأن فواتير الكهرباء التي تأتيهم «باهظة»، وفي أغلب الحالات كانت كلفة الفواتير تسبّب قلقًا لهم . قالت السالكة للمؤلفين إنها كانت تُنفق أكثر من نصف دخلها الشهري على فاتورة الكهرباء.52 و أفاد المشاركون في البحث بأنّ هناك عدة عائلات – لا سيما في أزقة العيون – ليس لديها كهرباء من الأساس. تستحق كلمات زروݣ أن ننقلها بالتفصيل، إذ تكشف عن إحساس الظلم المرتبط بارتفاع تكلفة الطاقة المنزلية، وأهمية السيادة الشعبية على موارد الطاقة والقضايا السياسية واسعة النطاق لاستغلال الموارد الطبيعية:
«نحن في عام 2019 وبعد عدة أيام سنصبح في 2020. أعرف الكثيرين ممن ليست لديهم كهرباء في البيت. هناك عدة شركات أطلقت مشاريع كبيرة لإنتاج الطاقة، وعلى مقربة من هذه المشاريع يعيش الناس في مدينة العيون دون كهرباء. كانت هناك مظاهرة في حي المطار بسبب انقطاع الكهرباء والمياه… مزارع الرياح، وغيرها، تجعل الفقراء أفقر والأغنياء أكثر ثراء. الطاقة الخضراء تُصَدَّر من الصحراء الغربية إلى أماكن أخرى في أفريقيا وغيرها. رغم أنّ هذا غير قانوني لأن المُصدِّر هو الاحتلال المغربي، فأنا أشعر بالفخر لأن الكثيرين في أماكن أخرى سيتمكنون من استخدام الكهرباء للإضاءة ولأنشطة أخرى. هم بحاجة إلى الكهرباء مثلما أنا بحاجة إليها. وأنا أحبذ أن يستفيد الناس في كل مكان ويمكنني أن أتنازل عن بعض حقوقي لصالحهم، لإنتاج الكهرباء للفقراء، لكن بشرط واحد: لابدّ أن تكون هذه الكهرباء مجانية وليست للبيع».53
قال عدّة مشاركين في البحث أنّ موفّري الطاقة يحمّلونهم رسوماً غير مستحقَّة. على سبيل المثال، قال محمود: «أحياناً يرسلون إلينا الفواتير وبها مبالغ مغلوطة. في بيتنا ليس لدينا أجهزة كثيرة، لذا نحن نعرف كمية الكهرباء التي نستهلك».54 انعدام الثقة هذا في موفّري الخدمة في أوساط المشاركين في البحث انعكس أيضاً في تصوراتهم حول من يديرون ويملكون الطاقة في الصحراء الغربية. «انْݣِيَّة» تفهم تطورات مشاريع الطاقة بصفتها تخصّ شركات أجنبية «عديمة الإنسانية».55 قالت: «قوة الاحتلال تسمح للدول الأخرى بالاستثمار بشكل يَحْمِلها على الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية».56 وقال دادي: «هذه الشركات تُسهم في الاستعمار المغربي وفي دعمٍ غير مشروط لضمان بقائه».57 وأضافت السالكة: «كلّ الأرباح تذهب إلى الاحتلال المغربي والشركات الأجنبية».58
أعرب كل المشاركين في البحث عن رغبة في (المزيد من) الاحتجاج على مشاريع تنمية الطاقة، لكنّ بعضهم كان خائفًا من تنفيذ هذه الرغبة. أولئك الذين حضروا المظاهرات ضدّ مشاريع الطاقة في الماضي أفادوا بأنهم تعرضوا للضرب من الشرطة و/أو عانوا من أشكال أخرى من الانتقام والتنكيل، منها إنهاء امتيازات الضمان الاجتماعي الخاصة بهم و/أو فسخ عقود عملهم، و/أو تلقّي تهديدات نالت من أقاربهم ومنعهم من السفر. وعلى الرغم من أن المنظمات غير الحكومية الصحراوية هي الأكثر معاناة من الحظر المفروض على تسجيل وتقنين أوضاعها رسمياً في الصحراء الغربية المحتلة، فهناك منظمتين صحراويتين غير مسجلتين ركزتا العمل على حملات ضدّ استغلال الموارد الطبيعية للصحراء الغربية، بما يشمل مجال الطاقة: إحداهما هي الرابطة الصحراوية لحقوق الإنسان والموارد الطبيعية، بقيادة سلطانة خيا، والأخرى هي لجنة حماية الموارد الطبيعية في الصحراء الغربية (CSPRON)، ويرأسها سيد-أحمد لمجيد. عانى هذان الشخصان من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان على يد الدولة المغربية بسبب نشاطهما: لمجيد يقضي عقوبة المؤبّد حالياً في سجن مغربي،59 في حين تتعرّض خيا للاحتجاز المنزلي (الإقامة الجبرية) والتي فقدت إحدى عينيها قبل سنوات أثناء تعذيب الشرطة لها.60 وحاولت الشرطة مؤخّراً اغتصابها، وقد سبق أن اغتصبت شقيقتها في منزل عائلة خيا، انتقاماً من نشاط سلطانة.61 جاء ذلك في سياق نمط أوسع متجذر من القمع الجندري الذي يستهدف النشطاء الصحراويين، إذ استخدمت الدولة المغربية أشكالاً مجندرة من التعذيب ضد المعتقلين السياسيين الصحراويين منذ عام 1975، بما يشمل الاعتداء الجنسي والإهانة الجنسية والإجبار على ممارسة الجنس بين السجناء.62 من ثَمَة ترتبط منظومة الطاقة في الصحراء الغربية المحتلة بوضوح بانتهاكات جسيمة ومجندرة لحقوق الإنسان.
كيف قد يبدو «الانتقال العادل» بقيادة الصحراويين؟ أفكار وأسئلة من المخيمات
كثيراً ما تفشل المباحثات رفيعة المستوى حول مستقبل نُظُم الطاقة في الاشتباك مع أصوات الشعوب الأصلية والإنصات لها.63 في هذا القسم، يرجو المؤلّفون تسليط الضوء على بعض المبادرات الصحراوية التي توضح طبيعة الانتقال العادل من المنظور الصحراوي. تشمل المبادرات إنشاء مزارع بنظام «الهايدروبونيك» (الزراعة المائيّة) لإنتاج الغذاء المستدام، وتشييد المنازل من البلاستيك المعاد تدويره، وخُططًا لبلدات مُزَوَّدة بالطاقة المتجددة في المناطق المحررة من الصحراء الغربية. على أنّه يجب أن نكون واعين بأنّ مثل هذه الحالات من «الممارسات الجيّدة» الموجودة في المخيمات ليست في حدّ ذاتها ضمانة لتمكّن حكومة الصحراء الغربية المستقلة، في المستقبل، من تحقيق الانتقال العادل في حال انتهاء الاستعمار. رغم أنّ تقرير المصير – كما رأينا في القسم السابق – مكوّن ضروري وأساسي للانتقال العادل الصحراوي، فهو لا يضمن الانتقال العادل في حدّ ذاته. لذلك، في هذا القسم، يحاول المؤلفون الإجابة عن أسئلة لابدّ من التصدّي لها في المستقبل بعد استقلال الصحراء الغربية، لضمان الانتقال بعيداً عن النمط الاستخراجي، نحو نظام عادل ومنصف ومتجدّد.
لقد أعَدَّ المهندس الطالب إبراهيم مشروع «هايدروبونيك» زراعي مبتكر بالاستعانة بتكنولوجيا بسيطة، يسمح للمواطنين اللاجئين بزراعة فواكههم وخضرواتهم بأنفسهم، وتقديم العلَف/الغذاء لحيواناتهم. الهيدروبونيك هو نظام زراعي يشتمل على الزراعة دون الحاجة للتُربة. و«التكنولوجيا البسيطة» هنا تشير إلى التقنيات التي – بحسب قول إبراهيم – يمكن للاجئين-المواطنين الحصول عليها وتحمُّل تكلفتها. هذه الطريقة مُصَمَّمة بحيث تكون متاحة للجميع، حتى أنّ أفقر العائلات يمكنها الاعتماد عليها في إنتاج الغذاء الصحّي والمغذي. تقوم وحدات الهيدروبونيك بإعادة تدوير المياه واستخدام أسمدة طبيعية. كما قال إبراهيم: «إذا أصررت على أنّ المبيدات الحشرية والأسمدة الصناعية ضرورية للزراعة، فسوف تعتمد على الشركات متعددة الجنسيات».64 وأوضح إبراهيم أنّ ما يحرّكه هو قيم «الاستدامة والاعتماد على النفس والاستقلال للصحراويين».65 ووفقا لكلام إبراهيم، فعلى قدر عِلمه، هو أوّل شخص على مستوى العالم طوّر منظومة هيدروبونيك بسيطة التكنولوجيا في ظلّ ظروفٍ تُعَدُّ « قاسية» من ناحية المناخ وتوفر الموارد. يقوم برنامج الغذاء العالمي بالأمم المتحدة حالياً بتجربة نموذجه في عدّة دول أخرى بها تجمعات من اللاجئين، وتَلَقَّى 1200 صحراوي في المخيمات التدريب اللازم لتطبيق ابتكاره.66
كما أعَدَّ المهندس تتاح لحبيب نموذج بناء جديد يؤدي إلى خفض درجات الحرارة داخل البيوت، مع المقاومة العالية للرياح والفيضانات (البيوت التقليدية تُصنع من الطوب الطيني، الذي ينهار في حال تساقط الأمطار). تعتمد طريقته على الموارد الرخيصة، من زجاجات المياه المعاد تدويرها، ويمكن أن ينفّذها أيّ شخص. شكل القبة المدوّرة في هذه المباني يُبقي درجات الحرارة الداخلية أقلّ حتى من حالة البيوت المربّعة التقليدية. وكان أوّل من استفاد من تصميم لحبيب الجديد الفئات الهشة من اللاجئين، من بينهم كبار السنّ ومن يعانون من مشاكل صحية مزمنة.67
في حين قاد إبراهيم ولحبيب ابتكارات تجعل الحياة في المخيمات أكثر استدامة وراحة وصحة، يبحثُ لاجئون -مواطنون آخرون عن مستقبل أفضل في المناطق الخاضعة للبوليساريو بالصحراء الغربية. إذ صمَّم المعماري والمهندس حرطان محمد سالم بشري مدينة مستقبلية مستدامة، أو كما يصفها «مسكنًا مستدامًا ودائمًا» للبشر ورفاقهم من غير البشر (الجمال والماعز)، مع تصوّره إمكانيّة تنفيذ الفكرة في منطقة خاضعة للبوليساريو. يَشمَلُ تصميمه مناطق لسكن المواطنين المقيمين بشكل دائم، فضلاً عن مناطق بها مرافق للمجموعات الزائرة من البدو الرحل والحيوانات. سوف تُدار المدينة بالكامل بالاستفادة من الطاقة المتجددة.68
تتحدّث ابتكارات بشري ولحبيب وإبراهيم عن الانتقال العادل من عدّة أوجه. فالانتقال العادل يتطلب إعادة التوزيع بشكل متساوٍ ومنصفٍ للموارد.69 وتكشف هذه الابتكارات عن مراعاة القدرة على تحمل التكاليف والاكتفاء الذاتي. لقد طوّر المهندسان سُبُلاً لضمان أن تحصل أفقر العائلات على المأوى والغذاء الصحي دون الاعتماد على الشركات متعددة الجنسيات في الحصول على المواد الخام، ويهدف ابتكارهما إلى الاستدامة الاقتصادية (لصالح العائلات نفسها) والاستدامة البيئية. وتُعَدُّ تصميمات لحبيب – رغم أنها ليست أكثر من خطط في هذه المرحلة – ملتزمة بالبشر ومن جاوَرهم من كائنات، ضمن رؤية صحراوية لمستقبل الصحراء الغربية المستقلة. تُركّز أغلب الأطر الخاصة بالانتقال العادل على أهمية رعاية «الطبيعة المتجاوزة للبشر»، فضلاً عن رعاية المجتمعات البشرية. وفي الحالة الصحراوية، يتفق هذا تماما مع العادات والتقاليد البدوية. فقد تمّ توثيق الوعي الإيكولوجي التقليدي والممارسات الصحراوية المراعية للبيئة منذ القرن الثامن عشر على الأقل،70 فضلاً عن وجود أدلة قوية على مركزية ورعاية الجمال في التقاليد الصحراوية.71 كما أنّ مشاركة الجمهورية الصحراوية الطوعي في اتفاقات باريس للمناخ يُظهر اعتزام الحكومة الصحراوية المساهمة في المناقشات العالمية الأوسع نطاقاً حول التصدي للأزمة المناخية وتعزيز تلك الممارسات التقليدية الواعية إيكولوجياً.72
وعلى المدى الأقرب، فإنّ لدى إدارة الطاقة في حكومة الجمهورية الصحراوية خُطَطًا لإطلاق مشاريع الطاقة المتجددة بالمنطقة التي تسيطر عليها من الصحراء الغربية. سيؤدّي إطلاق هذه المشاريع إلى تحفيز عودة اللاجئين إلى الصحراء الغربية. كما نفذت الإدارة المذكورة دراسة، وتبحث حالياً عن تمويلها لتجريب بعض توصياتها، ، تشمل احتساب حجم مرافق الطاقة الشمسية وطاقة الرياح اللازمة لتشغيل البنية التحتية الأساسية، مثل المستشفيات، فضلاً عن الاستفادة من البنى التحتية القائمة مثل الآبار المشتركة التي تديرها حالياً توربينات الرياح والتي يستخدمها البدو الرحل. كما تبحث الدراسة عن خيارات للطاقة الخاصة بالسكان الدائمين. وقد قام المهندس الكهربائي والمؤلف المشارك في الدراسة المذكورة، دادي محمد علي، ومعه فريقه، بمناقشة خيار مزارع الطاقة الشمسية كبيرة النطاق. لكنهم تساؤلوا هل سيكون هذا النموذج «قابلاً للتكيّف بالقدر الكافي» لاستيعاب أسلوب الحياة البدوية . لذا فكّر الفريق في إمكانية إمداد كل أسرة صحراوية بتكنولوجيا المياه والطاقة الشمسية المستقلة الخاصة بها. قال محمد علي موضحاً: «لقد وجدنا أنّ العائلات في المناطق المُحَرَّرة عادة ما تختار حياة الترحال، لذا من الجيّد أن تكون لديها لوحات الطاقة الشمسية الخاصة بها، التي يمكنها اصطحابها معها أينما ذهبت، وأن تكون لدى العائلات شبكاتها المستقلة بهذه الصيغة».73 سيكون هذا الاهتمام بأساليب الحياة المستدامة غير المستقرة بمكان واحد، جزءاً مهماً من الانتقال العادل الصحراوي، إذ يضمن مراعاة واستيعاب نمط الحياة البدوية .
مثّلت الخطط الجديدة لمستقبل الطاقة المتجددة، التي وضعتها إدارة الطاقة بحكومة الجمهورية الصحراوية، قطيعة جذرية مع الخطط القديمة ا للهيئة الصحراوية للبترول والمعادن التابعة للحكومة. من خلال دورات منح التراخيص التي بدأت في 2005، دخلت حكومة الجمهورية الصحراوية في اتفاقات تعهّدية مع أربع شركات دولية فيما يخص حقوق استغلال النفط حال استقلال الصحراء الغربية في المستقبل.74 تدَّعي الهيئة الصحراوية للبترول والمعادن أنّها عقدت مشاورات موسعة مع المجتمع المدني قُبَيْل إطلاق دورة منح التراخيص،75 لكنّ البحث في أوساط النشطاء الصحراويين الشباب توَصَّل إلى وجود انقسام في منظمات المجتمع المدني بين تلك التي كانت داعمة للاتفاقات (على أساس أنها تطعن في جهود المغرب الخاصة باستغلال النفط) ومنظمات أخرى انتقدت هذه الخطط على أساس أنّ الطاقة الشمسية أفضل لأسباب بيئية.76 يثير هذا الأمر مسألة السيادة الشعبية – الضرورية في أيّ انتقال عادل – وكيف يجب اتخاذ قرارات الطاقة في الصحراء الغربية الحرّة. هل سيتمّ استغلال النفط رغم الأزمة المناخية وآثار الاستخراج غير المتناسبة على المجتمعات المقيمة في المناخ الحارّ كما هي الحالة بالنسبة للصحراويين؟ هل سيتمّ تأميم مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في الصحراء الغربية المحتلة؟ يتطلبّ الانتقال العادل، فضلاً عن الابتعاد عن استخراج الوقود الأحفوري، صناعة قرار ديمقراطية وتشاركية، واستفادةً منصفة للجميع من موارد الطاقة.
على الجانب الآخر، هناك جوانب مطمئنة في سياسة الطاقة القائمة بالمخيمات التي تنتهجها حكومة الصحراء الغربية. على سبيل المثال، عندما وفدت على المخيمات في أواخر الثمانينيات فرص محدودة لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية (معظمها بتمويل من منظمات مجتمع مدني سويسرية وإسبانية) أعطت الحكومة أولوية منح الكهرباء للمؤسسات العامة، من مستشفيات وصيدليات ومدارس ابتدائية ومراكز لتعليم وتدريب المرأة.77 يمكن القول بأنّ هذا الترتيب للأولويات يعكس اهتمام حكومة الصحراء الغربية المُعلَن بالمساواة بين الجنسين.78 وكما حاجَج المؤلفون في قسم سابق بهذه الدراسة، فإنّ نموذج الطاقة الحالي في الصحراء الغربية المحتلة له آثار سلبية غير متناسبة على النساء والفتيات، بسبب انقطاعات الكهرباء المتكررة والقمع الجندري لمن يعارضون نمط الطاقة الاستخراجي. إنّ الانتقال الصحراوي العادل – كما في السياقات الأخرى – يجب أن يكون انتقالاً نسوياً كذلك.79
الختام يربط نظام الطاقة في الصحراء الغربية المحتلة مادياً بين المغرب والصحراء الغربية عبر خطوط وكابلات نقل الكهرباء. فضلاً عن إمداد المغرب بفُرص الغسيل الأخضر لسمعته كقوة احتلال، فإن مشاريع تنمية الطاقة المتجددة المغربية في الصحراء الغربية المحتلة تَمُدُّ المغرب بـ «سيادة» طاقيّة زائفة، تسمح بتقليل اعتماد المملكة للتزوُّد بالطاقة على دول الجوار مثل الجزائر. كما أن هذه المشاريع تُستخدم خارج المغرب في تهيئةِ اعتماديَّةٍ على الطاقة التي تُوَلَّدُ جزئياً على الأقلّ من الصحراء الغربية. يمكن القول إذن أنّ هذه المشاريع لتنمية الطاقة تهيئ لحوافز دبلوماسية لدى دول أخرى كيْ تدعَم الاحتلال.
وبالنسبة إلى الصحراويين، تُعَدُّ منظومة الطاقة الحالية في الصحراء الغربية أداة قمعية واستعمارية. وفيما يخصّ المقيمين منهم في الأراضي المحتلة، ترتبط عدالة الطاقة بقوة بالاستقلال وإنهاء الاستعمار. وهذا ينطبق أيضا على الصحراويين المقيمين تحت إدارة الحكومة الصحراوية في المنفى وبمخيّمات اللاجئين في الجزائر، حيث تَمُرّ حاليًا الابتكارات المعتمِدة على ضمان الاستدامة والاكتفاء الذاتي وتقرير المصير بمرحلة التجريب. ومع ذلك، تبقى هنالك أسئلة وتساؤلات حول سياسة الطاقة في الصحراء الغربية المستقلة والحرّة في المستقبل. ففي حين يُعَدُّ إنهاء الاحتلال المغربي وإنهاء تدابير الاستعمار بالكامل جزءاً لا يتجزّأ من الانتقال الصحراوي العادل، تبقى قدرة حكومة الجمهورية الصحراوية على ضمان السيادة الشعبية على موارد الطاقة بالصحراء الغربية جزءاً بالغ الأهمية من المعادلة.