إطلالة على الماضي، تطلُّعٌ الى المستقبل

صوناً لإرث الثّورة

مريم أوراغ وحمزة حموشان

Print Friendly, PDF & Email

قبل حوالي سنة كنّا نستذكر مرور عشريّة كاملة على انطلاق الاحتجاجات الحاشدة في الإسكندرية (مصر) في يونيو 2010، إثر جريمة قتل البوليس للشاب المصري خالد محمد سعيد[1]، وعلى اندلاع الانتفاضة الصحراوية الثالثة في كديم إيزيك[2] (في الصحراء الغربيّة المحتلة) في أكتوبر 2010. تحدّثنا وقتئذٍ كيف مثلت هذه الأحداث بالنسبة لنا بداية عصر تحولات جوهرية.

انتشرت خلال العام التالي (2011) موجة من الانتفاضات على امتداد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فيما أُطلق عليه تسمية «الربيع العربي».[3] تم الاعتراف بهذه الانتفاضات كأحداث هزت العالم. أشعلت الثورات التونسية والمصرية سلسلة من الانتفاضات التاريخية في شمال إفريقيا ومحيطها. احتفل الناس بإسقاط المستبدّيْن: بن علي ومبارك، وتطلعوا إلى تغييرات جِدية في حياتهم. حررت الانتفاضات هذه -كما هو الحال في أغلب الحالات الثورية- طاقات جبارة، فيها غليان جماعي وإحساس فريد بالتجديد وتحول في الوعي السياسي.

لقد اعتادت شعوب المنطقة جميعها على الصورة النمطية العنصرية، وعلى الاحتقار الذي يتضمّنه الافتراء السطحي بأن «الديمقراطية لا تلائم العرب والمسلمين وأنهم عاجزون عن حكم أنفسهم». أدت الهيمنة الإمبريالية والاستعمارية إلى اعتبار المنطقة -في بعض الأوساط– كيانًا متجانسًا يجوز اختزاله منهجيًا في صور مجازية سلبية. يغذي النظر إلى المنطقة من خلال العدسة الخادعة هذه مخيالًا تؤثثه مشاهد النزاعات والحروب والديكتاتوريين القساة والشعوب الخاملة والتطرف والإرهاب، إلى جانب الاحتياطات الضخمة للنفط والصحاري الشاسعة. هذا المخيال الاستشراقي والتمثيل الاختزالي لـ«الآخر» -إلى جانب امتلاك سلطة «حجب السرديّات»- هي من السِمات المميزة للعنف السياسي والجغرافي الذي تنتجه الإمبريالية.[4]

مزَّقَت الانتفاضات العديد من الصور النمطية، وكشفت زيف كثير من الأساطير. انتشرت رياح الثورة -التي هبّت في 2011- من تونس إلى مصر، فليبيا وسوريا واليمن والبحرين والأردن والمغرب وصولًا إلى عُمان. كانت التجربة التحررِية هذه مُعديَة، فألهمت العديد من الشعوب حول العالم، سواء سمّوا أنفسهم «حركة احتلّوا وال ستريت» أو «الساخطون»، كان الناشطون في مدريد ولندن ونيويورك فخورين بـ«السير على خُطى المصريين».

رغم ما شهدته العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة من محاولات لنزع الشرعية عن فكرة التغيير الجذري والهادف عبر الثورة، إثر ما اعترى جهود تصفية الاستعمار من هزائم وهَنات في أنحاء مختلفة من الجنوب العالمي، ورغم أن هجمات الثورة المضادّة ستسعى دائمًا إلى تحطيم إرادة الشعوب، ما زالت الانتفاضات والثورات من أجل الانعتاق متواصلة، وستتواصل.

بالنسبة لكلينا، كما هو حال العديد من الناشطين، فإن مشاعر الفخر والأمل التي ولّدتها فينا هذه الأحداث تظل عميقة على المستويين الشخصي والسياسي. رسمت هذه التجربة السياسية المؤسِسِة ملامح مساراتنا المهنية ونشاطنا ورؤانا للعالم. شاركنا في ندوات/موائد مستديرة احتفت بهذه الأحداث التاريخية وحللتها، خرجنا مع شعوبنا في المسيرات الاحتجاجية وانخرطنا في مبادرات تضامنية متنوعة. ناقشنا وتجادلنا واختلفنا مع الأصدقاء والرفاق. شعرنا بالتفاؤل أحيانًا وبالحزن والتشاؤم أحيانًا أخرى. لكن الأهم كان الدرس الذي تعلمناه: يُهديكَ التعامل مع الممارسة الثوريّة مصدرًا فريدًا للمعرفة.

بيد أنه لا نستطيع نفي أن ما بدأ كانتفاضات ملهمة -ضد التسلط والظروف الاقتصادية الاجتماعية الجائرة وللمطالبة بالخبز والعدل والكرامة- تحول إلى عنف وفوضى واستقطابات حادة وإلى ثورة مضادة وتدخل أجنبي. وجدت الحركات الشعبية المتنوعة في المنطقة نفسها في مواجهة قوى استبداد وثورة مضادة متحصنة ومصممة على سحقها. قوبلت جميع الحركات هذه بمقاومة من الدولة، اقترنت غالبًا بالرأسمال العالمي والتدخل الخارجي. انتهى الانقلاب العسكري في مصر باسترجاع الديكتاتورية في شكل أشد قمعًا وقسوة. قدم الانحدار المريع نحو الحروب الأهلية في سوريا وليبيا واليمن وموجة القمع في بلدان الخليج كالبحرين، أمثلة على المنطق القاسي للحرب بالوكالة الذي يُذكّر جميع شعوب المنطقة بما ألِفَته من مخططات استعمارية. وحتى تونس التي بدت استثناءً في وسط هذا الغم والخراب، تشهد اليوم وضعًا هشا للغاية.

حاجَج بعض المعلقين من التيارات السائدة أن «الربيع العربي» أفسح المجال لـ«خريف إسلاموي» (في ظلّ وصول قوى إسلاموية إلى السلطة في عدد من البلدان). في المقابل، تحلت بعض الأصوات التقدمية بتشاؤم أقل وقدمت قراءةً تاريخية أكثر دقة وتوازنًا، معتبرة أنه يجب النظر إلى هذه الأحداث بصفتها جزءًا من مسار ثوري طويل الأمد تتخلله فصول مد وجزر، وتتعاقب فيه فترات التجذر والانتكاس والثورة المضادة. اكتسبت الرؤية الثانية شيئًا من الإثبات عندما تصاعد المسار الثوري في المنطقة مجددًا، ثماني سنوات بعد أحداث 2010-2011، عبر موجة ثانية من الانتفاضات في السودان والجزائر والعراق ولبنان (من 2018 إلى 2021)، تزامنًا مع عودة الكفاح البطولي والمتجدّد للشعب الفلسطيني إلى واجهة الأحداث في 2021. أفصح كل ذلك عن تصميم الشعوب على مواصلة النضال من أجل حقوقها وسيادتها.

فتحت هذه الأحداث الجسيمة بين 2010 و2021 آفاقًا جديدة للشعوب للتعبير عن رفضها وللمطالبة بتغييرات جذرية وإصلاحات، ما أجبر تقريبًا كل حكومات المنطقة على تقديم تنازلات في القضايا السياسية والاقتصادية على حد سواء.

لِمَ هذا المشروع لإحياء مرور عشر سنوات من الكفاح في المنطقة؟

عندما انطلقنا في هذا المشروع كانت بوصلتنا المُرشدة هي الدور الهام الذي تلعبه الذاكرة في حركاتنا من أجل العدالة والحرية والضرورة الحيوية لمهمة توثيقها عبر الاحتفاظ بأرشيف. فذاكرتنا السياسية ليست مسارًا آليًا مثل الذاكرة العضلية، بل تصنعها الظروف السياسية والاقتصادية المحيطة بنا. كما أن رعاية التقارب السياسي والحفاظ على اللُحمة الراديكالية لا تحصل في الفراغ، بل عبر تغذيتها وإبقائها حية. توفر مناسبات الإحياء فرصة لمثل هذه الأنشطة، وهذا ما يمثله مشروعنا. إذ يتضمن المشروع ندوات إلكترونيّة (وابينار) وتدوينات صوتية (بودكاست)، إلى جانب المقالات المُجمعة في العمل هذا وكل ما من شأنه مساعدتنا على رؤية الملموس داخل بعض الجدالات شديدة التجريد وعلى التعامل مع بعض الحالات الأقل بروزًا.

يتمثّل أحد أهداف مشروعنا هذا في تحدي عدد من التصورات الخاطئة عن المنطقة وعن شعوبها وهباتها وانتفاضاتها. كان أحد هذه التصورات الخاطئة محاولة وسائل الإعلام العالمية السائدة والحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية، مثل البنك الدولي، تصوير هذه الانتفاضات كمجرد احتجاجات عارمة على التسلط وللمطالبة فقط بالحريات السياسية والديمقراطية بأشكالها المُعاقة في البلدان الصناعية الغربية. يبتعد هذا التصور عن أي تحليل طبقي وينحو إلى فصل السياسي عن الاقتصادي، متجاهلًا المطالبات الاقتصادية والاجتماعية الأساسيّة بالخبز والعدالة الاجتماعية والكرامة والسيادة الشعبية. لكن القراءة الخاطئة -أو بالأحرى المغالطة- لم تتوقف عند هذا الحد. إذ نَعتَ معلقون غربيون من التيار السائد انتفاضتي تونس ومصر بـ«ثورات فيسبوك وتويتر»، مُبالِغين بذلك في دور شبكات التواصل الاجتماعي في الإعداد لها. تصوير ثانٍ مهيمن -لكنه لا يقل سطحية عن الأول- يتمثل في العامل الديمغرافي، الذي فُسّرت عبره الانتفاضات بكونها أساسًا انتفاضات شبابية ضد الجيل القديم، كنتاج لـ«طفرة شباب» في البلدان المعنية.

بعد مرور عقد من الزمن، لم تتقدم التأويلات السائدة بمناسبة إحياء الذكرى العاشرة للأحداث خطوات كثيرة على طريق البصيرة. إذ تحدثت تقارير ومقالات إعلامية كثيرة عن «فشل وضياع» الثورات وتبدُّد الوعود. إلا أن النغمة السائدة ثُبتت في عنوان مقال نُشر في جريدة الجارديان في ديسمبر 2020 أشار إلى محمّد البوعزيزي، بائع الخضروات المتجول الذي أضرم النار في جسده مُوقِدًا شرارة الانتفاضات العربية: «لقد خرب حياتنا: بعد عشر سنوات، التونسيون يلعنون الرجل الذي أشعل شرارة الربيع العربي». تتسم السردية المطروحة باليأس والقنوط: لم تكن الانتفاضات تستحق العناء، كان من الأفضل البقاء تحت نِيرِ الفقر والقيود. نحتاج إلى التصدي بقوة لمثل هذا التأويل وتفكيكه بهدف تقديم قراءة أكثر تدقيقًا وأقل مثالية (أكثر مادية) للثورة وتبعاتها. شدد العديد من الناشطين النقديين التقدميين والباحثين على أهمية الإقرار بتشعب الديناميات الثورية وحتمية تعرضها لأزمات ونواقص وحتى إخفاقات.[5] يتطلب ذلك رؤية الثورات على أنها مصطبغة بالنزعات المعادية للثورة ومُعتدَى عليها من القوى الرجعية. حقيقة استمرار انتفاض الناس في المنطقة هو دليل على هذا التشعب. في المحصلة، ما يحمله الناس من أفكار حول الثورات له تأثير حاسم على نتائج مثل هذه الأحداث عند وقوعها بالفعل؛ ومن هنا تأتي ضرورة التفكير والتعلم من الثورات السابقة.

سعينا عبر هذا المشروع إلى إفساح المجال للتفكير النقدي: اتخذنا مقاربة شمولية فيما يتعلّق بآراء متنوّعة ومواقف سياسية مختلفة. كما وفرنا خلال عملية تنفيذه منصة لأصوات شابة، نسائية ومحلية من المنطقة، وهو أقل ما يمكننا فعله. نأمل أننا وُفِّقنا في تجنب الثنائيات المتصلبة، وكذلك في الابتعاد عن الإيمان بتفوق أخلاقي من ناحية امتلاك «الحقيقة»، وهي رغبة نابعة من رفضنا للأساليب والسلوكيات الطائفية والسجالية، التي يمكن أن تتحول بيُسر إلى تهجمات شخصية.

إحدى ثمار هذا التعاون كانت تَعلُّم الاختلاف والعمل في كنف الاحترام والرفاقية ومواصلة النقاش بطريقة بناءة. سيُدرك تمامًا كل من هو على اطلاع على القضايا المعروضة في هذا المشروع، كيف أضعفت الآثار الشائنة للمواقف المتخندقة الإمكانات التقدمية لممارسات حقيقية وجدية على مر السنين. إذ كثيرًا ما رأينا كيف تحولت الجدالات بخصوص سوريا أو ليبيا، على سبيل المثال، إلى ثنائيات شديدة الاستقطاب (وغالبًا ما تكون خاطئة)، نفّرَت المشاركين فيها وخنقت النقاشات المُثمرة حول الاستراتيجيات الثورية والتضامن الأممي. في نهاية المطاف، سيكون مدى التوفيق بين بعض المواقف (مثلًا: معاداة التسلط مقابل معاداة الامبريالية) موضع اختبار عبر الممارسة العملية داخل حركاتنا، لكن لا يجب أن يُعفينا ذلك من واجبنا في المحاجَجة حيال المواقف السياسية الانتقائية. إذ يجب أن تصب قضية حرية ما في خدمة قضية أخرى، لا أن يتم التخلي عن الثانية سعيًا وراء الأولى. وقع استخلاص ذلك بقوة من إحدى ندواتنا الإلكترونية بين مشاركين من المغرب الأقصى والصحراء الغربية.

ملخّص المقالات

المساهمون في هذا الملفّ هم باحثون وناشطون بارزون من المنطقة[6] أو لديهم جذور فيها. مُنحوا حرية اختيار الكتابة بالعربية أو بالإنجليزية، وستتوفر المقالات جميعها لقرائنا بكلتا اللغتين.

نبش آدم هنيّة في مقاله عن الأسباب الجذريّة لانتفاضات المنطقة من خلال مقاربة قائمة على التاريخ والاقتصاد السياسي. وهو يُفكّك القوْلَبَة الليبراليّة السائدة للمنطقة وانتفاضاتها عبر وصفه التفصيلي لبعض أصول الثورة التي اندلعت في عام 2011. ويجادل بضرورة الانتباه لمركزيّة المنطقة بالنسبة للاقتصاد العالمي، وكيف تعكس بُناها السياسيّة مباشرة التطوّر الرأسمالي الذي شهدته المنطقة خلال العقود الأخيرة.

يعود بنا غسّان بن خليفة إلى العامين 2010-2011، عندما انتفض الشعب التونسي، التائق إلى العيش بكرامة، مطالبًا بحقوقه. وهو يُلقي نظرة جدُّ نقديّة على الأحداث الأولى المؤسّسة للانتفاضة التونسية ويوضح كيف وقع احتواؤها، بل وإجهاض تحوّلها إلى ثورة. وهو يتحدّى بإقناع الإطار “الاستثنائي” الذي حُشرت فيه التجربة التونسيّة عبر استعراض سلسلة من التدابير الامبريالية والنيوليبراليّة المعادية للثورة، والتي صُمِّمَت من أجل خنقها وإخماد مطالبها الاقتصاديّة.

من جهتهما، يُجادل مصطفى بسيوني وآن ألكسندر في مقالهما بأنّ أيّ محاولة لفهم مسار الثورة المصرية عام 2011 عليها أن تُمسك بالضّرورة بدور الحركة العمّالية. وهما يُوضحان كيف مثّلت نضالات الطبقة هذه عاملًا مستقلًا في أثناء المسار الثوري. كما يشدّدان على أهمية “الفِعل المُتبادَل” بين البُعديْن الاقتصادي والسياسي للصراع الطبقي، وكيف لعب هذا الأمر دورًا محوريًا في التطوّرات الثوريّة في مصر.

وقدَّمَت لنا فرات شهّال رسومًا توضيحيّة جميلة ومُعبِّرة لكلّ مقالات هذا الملفّ. كما أهدَتنا مُلصقَات فنّية (كولاج) بديعة وقويّة، وَثّقت ما حرّرته مختلف الانتفاضات من جمال وابداع وطاقة عبر الفنّ والغرافيتي والشعارات واستعادة الناس للفضاءات العامّة خلال ثورتهم.

أمّا علي أموزاي فقد تأمّل في مساهمته من زاوية نقديّة حراك 20 فبراير التاريخي الذي شهده المغرب عام 2011، مفصّلا ميزان القوى السياسي والاجتماعي السابق له. إثر ذلك وصف وحلَّل ردّ فعل السلطة الملكيّة (المخزن) لهذا التهديد لحكمه، وما اتخّذه من أشكال قمع واندساس واحتواء. كما يسلّط الضوء على دور المغرب بصفته قاعدة متقدّمة للمخطّطات الإمبرياليّة في القارّة الأفريقيّة، فيما يواصل التصدّي لحقّ الصحراويّين في تقرير مصيرهم.

تناقش رفيف زيادة من جهتها أنّ أحد أهمّ نتائج الانتفاضات كان الدور المتعاظم للاعبين إقليميّين من دول عدّة، يعملون على تثبيت النظام السياسي بما يخدم مصالحهم. وهي تفحص، من خلال تركيزها على ليبيا واليمن، شتّى أساليب التدخّل التي اعتمدتها الإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربيّة السعوديّة، بما في ذلك حملات عسكريّة مباشرة، استعمال الوكلاء، حُزَم المساعدات الماديّة والانسانيّة – وكلّها تعمل متكاملة من أجل تشكيل حصيلة إقليميّة عزّزت الوضع القائم في مواجهة الآمال الأوّلية للتغيير التي قدّمتها الانتفاضات.

أمّا ياسر مُنيف فقد بدأ مقاله بدراسة الخبز كسلعة مركزيّة في أوقات الحرب والسلام، مقدّمًا لمحة عن الإصلاح الزراعي الذي أرْسَته الأنظمة المتعاقبة في سوريا بين عام 1963 و2000. ثمّ يركّز على استعمال الخبز سلاحًا وأداة استراتيجيّة هامّة لنظام الأسد خلال الانتفاضة في سوريا، بينما يعطينا فكرة عن المقاومة الشعبيّة الّتي تبنّاها المتمرّدون، معتمدًا مدينة مَنْبِج في شمال سوريا كحالة دراسة.

تُركّز مساهمة مُزَن النيل على الثورة السودانية في العامين 2018-2019 وتشرح لماذا انتفض السودانيّون، وما الذي أرادوا إسقاطه عندما هتفوا «تسقط بسّ». وهي تحلّل اللحظة الراهنة ودور الحكومة الانتقاليّة وأداءها بالنظر لأهداف الانتفاضة. وتنهي المقال بسَبْر الطرق التي يمكن ويُفترضَ أن تتبّعها الانتفاضة السودانيّة من أجل تحقيق أهدافها في مواجهة الثورة المضادّة.

تُقدّم زهرة علي تحليلًا نسويًا للانتفاضة العراقيّة في عام 2019. استنادًا إلى بحثها الميداني المُعمَّق مع شبكات نساء وشباب وحركات اجتماعية في العراق، تتّخذ الكاتبة انتفاضة 2019 إطارًا للتفكير في الاحتجاجات الجماهيريّة وكيف تمكّننا من فهم الانعتاق عبر توسيع خيالنا النسويّ، مع إيلاء أهمّية خاصّة للفضاءات التي أنتجتها الانتفاضة.

يعتمد حمزة حموشان عدسة فانونيّة لتحليل الانتفاضة الجزائرية في 2019 – 2021، ويدافع عن عقلانيّة التمرّد في سياق الحركة الشعبيّة الجديدة في الجزائر (الحراك) – وهو يرى أنّها تمثّل استمرارًا لمسار إنهاء الاستعمار. كما يربط بين الانتفاضة الجزائرية وحركة «حياة السُود مهمّة» في الولايات المتحدة الأمريكيّة، ويتأمّل في ما يمكن أن تقدّمه أفكار فانون إلى هاته الحركتين وإلى غيرهما من النضالات من أجل العدالة الاقتصادية والسياسية.

أخيرًا وليس آخرًا، تطبّق ريما ماجد منهجًا مقارنًا على انتفاضتيْ العراق ولبنان عام 2019، وتسأل عن المُشتَرك بينهما الذي يتجاوز التقارب الإقليمي/الثقافي. وهي تناقش في المقام الأوّل إمكانيّة وصف هذه الانتفاضات بـ«الثورات» أو بـ«الثوريّة». إثر ذلك تدقّق النظر في التناقضات الداخلية لهاتيْن الثورتين بالنظر إلى الخطاب عن الفساد والوحدة الوطنية والسياسات التكنوقراطيّة والفردانيّة.

نظرة إلى الماضي – إطلالة على المستقبل

لإحياء الذكريات السنوية قوة رمزية ويمكن أن تمثل فرصةً سانحة لاستخلاص العِبَر مما مضى، وللتفكير في إيجابياته وسلبياته. كما يمكن أن تكون لحظات نشطة يمكننا خلالها التفكير في كيفية المضي قدمًا. ليس هدفنا التحسر على ما انقضى من أزمان جميلة، أو إضفاء طابع رومانسي على تلك الأحداث التاريخية العظيمة. بالعكس، نأمل في هذا المشروع الاقتراب أكثر من روح الثورات ومن طاقتها الخلاقة، وكذلك التمعن في تناقضاتها وعيوبها وأعدائها.

من البديهي أن يعتري هذا المشروع بعض النقائص، أو المسائل التي لم تُعالج. ويعود ذلك في جزء منه إلى حدودنا الذاتية، من ناحية الجهد والوقت، وفي جزء آخر إلى حدود المشروع الذي ترتبط عِلة وجوده بفترة محددة من الزمن. في الحقيقة، تظل المسارات الثورية غير مكتملة على الدوام. وينطبق الأمر نفسه على الممارسة السياسية التي تتضمن الكتابة عن الثورات. ورغم أننا لا نزعم أو نسعى إلى أن يكون نقاشنا لهذه المنطقة الشاسعة شاملًا ووافيًا، فإننا نأمل أن نوفق هنا في تقديم لمحة هامة عنها، بصوت أبنائها ولغتهم. إذ سعينا إلى عرض تحليل تقدمي من شأنه المساهمة في تعميق معرفتنا بالمنطقة، مع أمل أن يسمح لنا ذلك بالتعلم من أخطاء الماضي، ومواصلة الدفع نحو تغيير طال انتظاره في ظل جَوْر الظروف السياسية والاقتصادية الاجتماعية الراهنة.

كانت ذكرياتنا عن الأحداث المذهلة طيلة العقد الأخير تأسيسية. شعرنا أننا محظوظون لرؤيتنا الناس وهم يتحركون بقدرة سياسية على التحمل وشجاعة لا يمكن توصيفهما بغير «التاريخية». استنارت عقولنا وارتفعت معنوياتنا بفضل الرجال والنساء العاديين الذي تجرأوا على الصداح بأن «الشعب يُريد» منتفضين في ظروف غير مسبوقة. نأخذ عنهم هذا الإرث والثمن الباهظ الذي دفعوه للوصول إلى نقطة حاسمة لا يمكن لأصدقاء الثورة ولا أعدائها الرجوع عنها. أشياء قليلة يمكنها أن تضاهي قوة أبناء الطبقة العاملة البسطاء وهم يتجاوزون كل الصعاب ويهزون الأسس العميقة للوضع القائم.

«ما هو شخصي سياسي»، يُعلن المبدأ النسوي. «ولا شيء يخصنا يمكن أن يتحرك من دوننا» كما يوضح شعار النضال ضد الإعاقة. من روح هاتين الرسالتين، نشكر من أعماق القلب كل المساهمين في هذا المشروع، الذين يقدمون وجهات نظرهم بصفتهم باحثين ونشطاء من المنطقة وفيها. كما نُحيّي بإجلال الشهداء والجرحى والمساجين السياسيين وأولئك الذين ما زالوا قابضين على جمرة النضال. نُهدي هذا العمل إليهم وإلى جميع من ضحوا بحياتهم من أجل الخبز والعدل والكرامة.

نبذة عن الكاتب/ة

مريم أوراغ باحثة في الأنثروبولوجيا تحمل الجنسيتين الهولندية والمغربية. تعمل محاضِرة في معهد أبحاث التواصل والإعلام في جامعة ويستمينستر. ألفت كتاب «فلسطين أونلاين» ولها كتاب يصدر قريبًا بعنوان «توسيط المخزن». تركّز في بحوثها وكتاباتها على الحرب الإلكترونية والسياسات الرقمية القاعدية والثورات والثورات المضادة.

حمزة حموشان باحث وناشط جزائري مقيم في لندن. وهو كذلك كاتب وعضو مؤسّس لحملة التضامن الجزائرية ولجمعية العدالة البيئية شمال إفريقيا ولشبكة شمال إفريقيا للسيادة الغذائية. وهو يعمل حاليًا منسّقًا لبرنامج شمال إفريقيا في المعهد الدولي.

تشكّرات

ترجمة من الانجليزية: غسان بن خليفة

مراجعة وتدقيق: ياسمين حاج

صور بيانية: فرات شهال الركابي

تمّ دعم هذه النشرية من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ من خلال الدعم المقدم لها من وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية للجمهورية الاتحادية الألمانية . يمكن الاقتباس من هذه النشرية أو أي جزء منها مجانا طالما تتم الاشارة إلى النشرية الأصلية.

محتوى هذه النشرية هو المسؤولية الحصرية للمؤلف ولا يعكس مواقف مؤسسة روزا لوكسمبورغ

[1] ساهم الغضب العارم الذي سبّبه مقتل خالد محمّد سعيد على يد الشرطة المصريّة في تنامي السخط خلال الأسابيع اللاحقة وصولًا إلى اندلاع الثورة المصرية في عام 2011.

[2] كديم إيزيك هو مخيّم احتجاجي في الصحراء الغربيّة، نُصبَ في 9 أكتوبر وظل حتى نوفمبر من نفس العام. بدأت الاحتجاجات سلمية، قبل أن تتحول لاحقًا إلى مصادمات بين المواطنين الصحراويين وقوّات الأمن المغربي. يصف البعض هذه الاحتجاجات بالانتفاضة الصحراوية الثالثة التي أعقبت الأولى (1999-2004) والثانية (2005). وقد رأى الباحث والناشط السياسي نعوم شومسكي أن هذا الاعتصام الذي دام شهرًا كاملًا قد مثل بداية الربيع العربي.

[3] في تسمية الربيع العربي إشارة إلى ثورات 1848 التي يُطلق عليها أحيانًا «ربيع الشعوب»، ولربيع براغ في عام 1968، وكذلك إلى الانتفاضات اللاحقة في وسط أوروبا وشرقها في عام 1989. تم تصميم هذا الوصف والترويج له من قبل الإعلام والخبراء الغربيين، وانتقده بعض الباحثين كونه جزءًا من الاستراتيجية الأمريكية للتحكم في الحركات الشعبية وتحويل أهدافها نحو ديمقراطيات ليبرالية على النمط الغربي. ومع ذلك، يجدر الإقرار ببعض الاستعمالات الإيجابية لهذا المصطلح وكيف ساهم في خلق صلات بالانتفاضات التاريخية السابقة في المنطقة مثل «الربيع البربري» أثناء الثمانينيّات في الجزائر و«ربيع دمشق» عام 2000.

[4] Said, E. (1984) ‘Permission to Narrate’, Journal of Palestine Studies 13(3): 27–48.

[5] Bayat, A. (2017) Revolution without Revolutionaries: Making sense of the Arab Spring. Stanford: Stanford University Press. See also Traboulsi, F. (2014) Revolutions without Revolutionaries. Beirut: Reyad El-Rayyes Books.

[6] نشير هنا بإيجاز إلى الطرق المختلفة التي يشير عبرها كُتّاب هذا الملف إلى المنطقة التي يسلط عليها المشروع الضوء. إذ يستعمل بعضهم «الشرق الأوسط» والبعض الآخر «الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» (اختصارها «مينا» بالإنجليزية)، فيما يحبّذ آخرون «المنطقة العربية» أو «العالم العربي»، بينما يتجه غيرهم نحو اجتراحِ أقل استعمالًا: «شمال إفريقيا وغرب آسيا» (اختصارها «نوى» بالإنجليزية) أو «غرب آسيا وشمال إفريقيا» (واختصارها بالإنجليزية «وانا»). من وجهة نظرنا الخاصة أنه إذا كنا ملتزمين بتقديم سرديات مضادة للهيمنة تتحدى بُنى السلطة وبتحرير المفاهيم والأسماء من الهيمنة الاستعماريّة، فستتوجب علينا مساءلة التسمية الاستعمارية «الشرق الأوسط» وهو تركيب مُصمم لمقابلة «الغرب». فهو جزء من ميراث الاستشراق الساعي إلى خلق «آخر» مقابل. نحن متعاطفون مع استخدام مصطلح «المنطقة العربية»، لكن من دون ربطها بدلالات إثنية، ونقر أن التسمية هذه قادرة على إثارة مشاعر الإقصاء والاضطهاد لدى البعض. لا توجد تسمية مثالية، فلكلٍ منها حدودها الخاصة. بتقديرنا، ومن دون محاولة طمس ثراء الإرث الثقافي والسياسي المشترك لمنطقتنا، الوصف الأنسب لها هو القائم على التحديد الجغرافي، مثلما هو الحال في تسمية «شمال إفريقيا وغرب آسيا».