الانتقال الطّاقي بشمال إفريقيا
حضور الاستعمار الجديد.. مجدداً!
حمزة حموشان
14/10/2022
إن الجائحةَ الراهنة، المندرجةَ ضمن ما نجتازُ من أزمةٍ إجمالية متعددةِ الأبعاد، تدلُّ على أن ما نعيشُ حاليا شعورٌ مسبق بأسوأ الأمور القادمة ما لم نَّتخذ التدابيرَ اللازمة لتطبيق حلولٍ عادلة للأزمة المناخية الراهنة.
لقد باتتْ آثارُ تغير المناخ واقعاً مُعاشاً في شمال أفريقيا وغرب آسيا، وهي تُقوِّضُ الأسس الاقتصادية-الاجتماعية والايكولوجية للحياة في المنطقة. وينزلُ وقْعُ هذه الأثار بنحو غير متناسب على كاهل الأشخاص المهمشين في المجتمع، لا سيما صغارِ المزارعين ومربّي الماشية والصيادين. ويضطرُ بعض الأشخاص إلى مغادرة أراضيهم، بسبب الجفافِ والعواصف الشتوية الأشد قوةً وتواتراً في كل موسم جديد، وزحفِ الصحراء وارتفاعِ مستوى البحار. المحاصيلُ غير كافية ومخزوناتُ المياه في انخفاض؛ ما يؤثر بقوة على إنتاج الأغذية1.
وتتطلبُ مواجهةُ هذه الأزمةِ المناخيةِ العالميةِ تقليصاً صارماً سريعاً لانبعاثات الغازات الدفيئة، ونعرفُ أن النظامَ الاقتصادي الراهنَ يُقوِّض أنظمةَ بقاءِ الحياة على الكوكب، وسينتهي إلى انهيار. لذا بات الانتقال نحو الطاقات المتجددة أمرًا محتوماً. بيْدَ أن هكذا انتقالاتٍ من شأنها أن تُبقيَ ممارساتِ الاستغلال وسلبِ الملكية ذاتها، معيدةً بذلك إنتاجَ أوجهِ انعدام العدالة، ومعمقةً الاقصاءَ الاقتصادي-الاجتماعي. لذلك قبل الحديث عن المشاريع الخضراء بحد ذاتها، يجدر بنا التساؤلُ عن أُطرِ تصورِ الانتقالٍ الطاقويٍّ وخياراته لتفادي التحوّلات “غير العادلة” والأوجهَ الإشكاليةَ للطاقات المتجددة التي يغطّي عليها الخطابُ الرسمي.
“الاستعمار الأخضر” و”الاستحواذ أخضر”
عادة ما توصف الصّحراء بأنها أرض شاسعة، وخالية وذات كثافة سكانية منخفضة، وأنها جنّة للطاقة المتجددة، وبالتالي تمثّل فرصة ذهبية لتزويد أوروبا بالطاقة الرّخيصة حتى تتمكن من مواصلة نمط حياتها الاستهلاكي الباهظ والمفرط. هذا السّرد مخادع لأنه يتجاهل مسائل الملكية والسيادة ويخفي علاقات الهيمنة والسيطرة العالمية المستمرة التي تُسهّل نهب الموارد وخوصصة المشترك، مما يعزز الطرق غير الديمقراطية والإقصائية في التعامل مع الانتقال الطاقي.
تُظهر أمثلة من منطقة شمال إفريقيا كيف تتم إعادة إنتاج الاستعمار الطاقي والممارساتِ الاستخراجية حتى في عمليات التحول إلى الطاقة المتجدّدة، في ما يطلق عليه “الاستعمار الأخضر” أو “الاستحواذ الأخضر”. إذا كان ما يهمّنا فعلاً ليس مجرد أي نوع من الانتقال بل “انتقال عادل” يفيد الفقراء والمهمّشين في المجتمع، بدلاً من تعميق إقصائهم الاجتماعي والاقتصادي، فهذه الأمثلة والديناميات تثير الكثير من المخاوف.
قبل التطرق لهاته الأمثلة، نود أن نقدم تعريفاً موجزاً لـ”الاستعمار الأخضر” و”الاستحواذ الأخضر”.
المقصود بمفهوم “الاستعمار الأخضر” هو استمرارُ العلاقات الاستعمارية القائمةِ على النهب ونزعِ الملكية (وكذا تجريدِ الآخر من إنسانيته) ونقلِ الكُلفة الاجتماعية والبيئية الى البلدان والشعوب الطرفية، لكن ذلك يجري هذه المرة باسم الانتقال الأخضر نحو الطاقات المتجددة. ونحن نواجهُ في الواقع النظامَ ذاتَه، لكن مع مصدر طاقة مغاير: نَقلونا من المحروقات الأحفورية إلى الطاقة الخضراء، فيما يجري الحفاظُ على نفس نماذجِ الإنتاج والاستهلاك شديدةِ الكثافة الطاقوية، وتبقى بلا تغيير نفسُ البنيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المولدةِ للتفاوتات والِإفقار ونزعِ الملكية.
وقد اخترع باحثون وناشطون آخرون مفهومَ “الاستحواذ الأخضر”، في إحالة إلى ديناميات الاستحواذ على الأراضي في إطار برامج خضراء مزعومةٍ2. وبعبارات أخرى، يتمّ الاستيلاء على الأراضي والموارد لغايات بيئية مزعومة، منها مشاريع المحافظة على البيئة تنزع الأراضي فيها من جماعات السكان المحلية ومصادرة أراض جماعية لإنتاج الوقود الحيوي وتشييد محطات لإنتاج طاقة شمسية وأخرى ريحية على أراض زراعية ورعوية دون موافقة السكان المحليين.
يقوم الانتقالُ العالمي واللامتكافئُ نحو الطاقات المتجددة، الجاريُ حاليا بصورة رئيسية في بلدان الشمال، على استخراج مستمر لمعادن أساسية ونادرة (من قبيل الكوبالت، وليتيوم، والنحاس، والنيكل، إلخ) بقصد صنع الألواح الشمسية ومولدات الطاقة الريحية وطاحونات الهواء والبطاريات الكهربائية. ما مصدرُ هذه الموارد؟ إنها جمهورية كونغو الديمقراطية، وبوليفيا، وتشيلي والمغرب (على سبيل المثال لا الحصر)، حيث سيحتدُّ تدميرُ البيئة واستغلالُ العمال.
لقد وُضِعَتْ اقتصادياتُ بلدانِ الأطراف في الجنوب في موقع الخاضعٍ، ضمن قسمةِ العمل الدولية غير العادلة بنحو عميق: من جهة، هي مزوِّدٌ بالموارد الطبيعية واليد العاملة الرخيصة، وهي من جهة أخرى سوق للاقتصاديات المصنعة ذات التكنولوجيا العالية. تبعاً لذلك، يتطلبُ تجاوزُ المحروقاتِ الأحفورية تفحصاً عن كثب للروابط بين هذه الأخيرة والاقتصاد بالمعنى الواسع، وتناولَ علاقات السلطة والتراتبيات في النظام الطاقوي العالمي3. يستلزم هذا كذلك اعترافاً بكون بلدان الجنوب مازالت مستغلة بنحو منظّم من قبل اقتصاد استعماري وإمبريالي قائم على نهب مواردها وترحيل كثيف للثروات من الجنوب إلى الشمال.
الانتقال الطاقي، والسلب والاستحواذ في المغرب
نتناول أولاً مثال المغرب، الأكثر تقدماً في انتقاله الطاقوي، فنجد أن الرباط وضعت نصبَ عينيها رفعَ حصتها من الطاقة المتجددة إلى ما يفوق نسبة 50% في أفق العام 2030. لكن فشلت محطة الطاقة الشمسية في ورزازات، التي انطلقت في الإنتاج سنة 2016، في تحقيق أي مظهر من مظاهر العدالة للمجتمعات الرعوية – الزراعية الأمازيغية التي استُخدِمت أراضيها دون موافقتها على إقامة المحطّة على مساحة 3000 هكتار5. أضف إلى ذلك ديون بقيمة 9 مليارات دولار أمريكي من البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي وغيرهما، مدعومة بضمانات حكومية مغربية، ممّا يعني خطر زيادة الديون العموميّة لبلد مثقل أصلاً بالديون. ويسجلُ المشروع، منذ انطلاقه في العام 2016، عجزاً سنوياً يبلغ زهاء 80 مليون يورو يتم سدُّه بأموال عمومية. أخيراً، يستخدم المشروع الطاقة الحرارية المُركَّزة (CSP) التي تتطلب استخداماً مكثّـفاً للمياه من أجل تبريد النظام وتنظيف الألواح الشمسية. وإن تغيير وجهةَ الماء عن غايات الاستهلاك والزراعة، في منطقة شبه جافة كورزازات، لفضيحة.
ولنا في نور ميدلت، الطور الثاني من خطة طاقة المغرب الشمسية، مثالٌ آخر. يرمي المشروع إلى إتاحة قدرة طاقوية أعلى من قدرة محطة ورزازات (مع توقُّع إنتاج 800 ميغاواط في مرحلته الأولى)، وسيمثل أحد أكبر مشاريع الطاقة الشمسية في العالم التي تجمع تكنولوجيا الطاقة الشمسية المركزة مع التكنولوجيا الكهروضوئية (Photovoltaic). في أيار/مايو 2019، فازت مجموعة مؤسّسات متكوّنة من EDF Renewables (فرنسا) ومصدر (الإمارات العربية المتحدة) و Green of Africa (تجمّع مغربي) بعقود بناء وتشغيل المؤسّسة بالشراكة مع الوكالة المغربية للطاقة المستدامة (MASEN) لمدة 25 سنة. تعاقد المشروع حتى الآن على ديون بأكثر من 2 مليار دولار من البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية وبنك الاستثمار الأوروبي والوكالة الفرنسية للتنمية وبنك التنمية الألماني.6
بدأ بناء المشروع سنة 2019، بينما كان من المتوقّع بدء الإنتاج سنة 2022 ولكن الأمور تأخرت لأسباب عديدة بما فيها بطء وتيرة العمل على الخطة الشمسية والمشاكل السياسية التي صادفها رئيس الوكالة المغربية للطاقة المستدامة خلال العام الماضي (2021) و كذلك التشنّجات الجيوسياسية بملف علاقات المملكة مع ألمانيا. على كل حال، سيتم تطوير مجمع “نور ميدلت” للطاقة الشمسية على مساحة 4141 هكتاراً على هضبة مولوية العليا وسط المغرب، على بعد حوالي 20 كيلومتراً شمال شرق مدينة ميدلت. تتمّ إدارة ما مجموعه 2714 هكتاراً كأراضي جماعية من طرف ثلاث مجموعات أمازيغية زراعية في آيت أوفِلّا وآيت راحو أوعلي وآيت مسعود أوعلي، في حين تمّ تصنيف ما يقارب 1427 هكتاراً كأراض غابية تديرها مجموعات محلّية في الوقت الحالي. تمت مصادرة الأرض من أصحابها سنة 2017 عبر قوانين ولوائح وطنية تسمح بانتزاع الملكية من أجل خدمة “المصلحة العامة”.
في تذكرة بالسرد البيئي الاستعماري المستمر الذي يصف الأراضي التي ستتمّ مصادرتها بأنّها هامشية وغير مستَغَلَّة بشكل كاف، وبالتالي متاحة للاستثمار في الطاقة الخضراء، يؤكّد لنا البنك الدولي في دراسة أجريت سنة 2018 “أنّ التضاريس الرمليّة القاحلة تسمح فقط بنمو النباتات الصغيرة، وأنّ الأرض غير مناسبة لتنمية الزراعة بسبب نقص المياه”. يواصل تقرير البنك الدولي التّأكيد على أنّ “الحصول على الأرض لفائدة المشروع لن يكون له أي تأثير على سبل عيش المجتمعات المحلية”.7 ومع ذلك، فإن قبيلة سيدي عياد الرعوية التي كانت تستخدم تلك الأرض لرعي حيواناتها منذ قرون تطرح المسألة من زاوية مختلفة.
صرّح الراعي الشاب حسن الغازي في 2019 لناشط من منظمة “أطاك” المغرب:
“مهنتنا هي الرّعي، والآن احتلّ هذا المشروع أرضنا حيث نرعى أغنامنا. إنهم لا يشغّلوننا في المشروع، لكنهم يوظِّفون أجانب. الأرض التي نعيش فيها تمّ احتلالها. إنهم يدمِّرون المنازل التي بنيناها. نحن مقموعون ومنطقة سيدي عياد مضطَهَدة. أبناؤها مضطهدون، وضاعت حقوقهم وحقوق أجدادنا. نطالب المسؤولين بالاهتمام بأوضاعنا وبجهاتنا. نحن غير موجودين بمثل هذه السياسات، والأفضل أن نموت، الأفضل أن نموت!”[8]
في هذا السياق، دأب أهالي سيدي عياد على رفض هذا المشروع منذ سنة 2017 عبر العديد من الاحتجاجات، التي أدّت إلى اعتقال سعيد أوبا ميمون في 2019، وهو عضو نقابة صغار الفلاحين وعمال الغابات، وتمّ الحكم عليه بالسجن لمدة 12 شهراً[9]
كما طالبت النساء من حركة السلاليّات[10]، والتي انطلقت في بدايات سنوات عقد الألفية، بحقّهن في الاستفادة من الأرض في منطقة دراع تافيلالت، وطالبن بتعويضٍ مناسب عن أرض أجدادهن التي أقيمت عليها محطة الطاقة الشمسية. وعلى الرغم من ترهيب السلطات والاعتقالات والحصار، انتشرت الحركة على المستوى الوطني وانضمّت نساء من مختلف المناطق لهذه الحركة تحت راية المساواة والعدالة.
الاستعمار الأخضر بالصحراء الغربية
في حين يمكن اعتبار أن بعض المشاريع في المغرب، مثل ورزازات ومحطة ميدلت للطاقة الشمسية، “استحواذاً أخضر” – بمعنى الاستيلاء على أراض وموارد لغايات بيئيّـة مزعومة – فمن الممكن وصف مشاريع متجددة مشابهة (الطاقة الشمسية وطاقة الرياح) التي تُنجز في أراضي الصحراء الغربية، بـ”استعمار أخضر”، إذ يتمّ تنفيذها رغماً عن الصحراويين، وعلى أرضهم.
في الوقت الحاضر، توجد ثلاث مزارع رياح تعمل بالصحراء الغربية. وهناك رابعة قيد الإنشاء في بوجدور، بينما لا تزال العديد منها في مرحلة التخطيط. تُعدُّ مزارع الرياح هذه جزءاً من أعمال Nareva، وهي شركة لطاقة الرياح تنتمي إلى الشركة القابضة للعائلة المَلكيّة المغربيّة. تجدر الإشارة إلى أنّ 95 في المئة من الطاقة التي تحتاجها شركة الفوسفاط المغربية المملوكة للدولة لاستغلال الاحتياطيات غير المتجددة للفوسفاط بالصحراء الغربية في بوكراع متأتّية من طواحين الهواء[11].
أمّا بخصوص الطاقة الشمسية، ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2016، وبموازاة محادثات الأمم المتحدة لقمة المناخ (COP22)، وقَّعت شركة أكوا باور السعودية اتفاقية مع وكالة MASEN لتطوير وتشغيل مجمّع من ثلاث محطات للطاقة الشمسية الكهروضوئية بإجمالي 170 ميغاواط. اثنتان من هذه المحطات التي تشتغل حالياً، بإجمالي 100 ميغاواط، تقعان في منطقة الصحراء الغربية (العيون وبوجدور). أمّا المحطة الثالثة، فهناك خطط لإنشائها في العرقوب بالقرب من الداخلة[12].
أي انتقال طاقي في الجزائر؟ واصل الحفر ياحبيبي!
تتحدث الطبقات الحاكمة الجزائرية منذ عقود عمَّا بعد النفط بإثارة مسألة الانتقال نحو الطاقات المتجددة دون إتْيانِ فعلٍ ملموس. وفي الواقع، تُلاحَظ أوجهُ تأخرٍ هامةٍ في تطبيق الخطط الراهنة، ما يُعبر عن غياب أيٍّ رؤيةِ انتقالٍ جديةٍ ومتماسكةٍ. إذْ تتوالى إعلاناتُ الجهات الرسمية وتصريحاتُها، وتظلُّ الوعود حبراً على ورق. إن خُططَ الجزائر الراميةَ إلى بلوغ مقدرة إنتاج طاقة شمسية 15 جيجاوات في أفق العام 2030 غيرُ واقعيةٍ بالنظر إلى كون البلد يحوز مقدرةً شمسيةً في حدود 448 ميجاوات (MW) في متم السنة 2020، حسب الوكالة الدولية للطاقات المتجددة [13]. وحسب كل المصادر جُملةً (بما فيها الطاقة الكهرومائية)، لا تتجاوز قدراتُ الطاقات المتجددة القائمة حاليا 686 ميجاوات. ما أبعدنا إذن عمَّا جري التطبيلُ له في العام 2011، أي بلوغ 22جيجاوات (GW) في العام 2030. لقد خفضت وزارةُ الانتقال الطاقوي والطاقات المتجددة، المحدثةُ في العام 2020، هذه الأهدافَ إلى 4 جيجاوات في أفق العام 2024، و15 جيجاوات في أفق العام 2035. ومع ذلك، يظلُّ هذا تفاؤلا مُغاليا.
يتعينُ على الجزائر أن تُسرع خُطى التوجه صوب الطاقات المتجددة، لأنَّ اليومَ الذي سيكفِّ فيه الزبائن الأوربيون عن استيراد محروقاتها الأحفورية لأهداف طاقوية قادمٌ. يقوم الاتحاد الأوربي بتوسيعِ انتقاله الطاقوي وتسريعِه، وهذا تحولٌّ أضفتْ عليه الحرب الروسية الأوكرانية طابعَ استعجالٍ. وطبعاً، سيُواصل الاتحادُ الأوربي في الأمد القصير استيرادَ الغاز، وسيُنوِّع مصادره، لكنه سيبذلُ في الأمد البعيد قُصاراه للابتعادِ عن المحروقات الأحفورية. ويُمثِّلُ هذا الواقع خطراً وجودياً على بلدان تظلُّ معتمدة على النفط والغاز كالجزائر. لذلك، ليس الانتقالُ العاجل إلى إنتاج الطاقات المتجددة (أساساً، وبأسبقية للسوق المحلية) بالأمرَ الجيدَ الواجبَ على صعيد إيكولوجي وحسبُ، بل هو أيضاً ضرورةٌ استراتيجيةٌ ومسألةُ حياةٍ أو موتٍ.
ولكنّ المنحى العامُّ يتجه صوبَ قدرٍ أكبرَ من إضفاء الليبرالية على (أي تحرير) الاقتصاد، ونحو منحِ القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب مزيدا من الامتيازات. وإن أمثلة قوانين المالية لعامي 2020-2021 وقانونِ المحروقات الجديدِ لبليغةٌ بهذا الصدد. فقانونُ المحروقات الجديدُ محابٍ جدا للشركات متعددة الجنسية، إذ يهبها تحفيزاتٍ وامتيازاتٍ أكثرَ. ويُمهد أيضاً طريقَ مشاريعَ مدمرةٍ من قبيل استغلالِ الغاز الصخري في الصحراء وموارد في عرض البحر الأبيض المتوسط.
أما قانونا مالية 2020-2021، فيفتحان الباب للقروض الدولية، ويفرضان تدابيرَ تقشفٍ قاسيةً بإلغاء بعضِ نفقاتِ الدعم. وقد أقدما، باسم حفز الاستثمارات الأجنبية المباشرة، على إعفاء الشركات متعددةِ الجنسية من الجمرك والرسوم، وزادت حصَّتها في الاقتصاد الوطني بإلغاء قاعدة 51/49 المُلزمةِ كلَّ مستثمرٍ أجنبي في الجزائر بالعمل بشراكة مع نظير جزائري يحوز أغلبيةً (على الأقل 51%)، ما خلا في أنشطة معتبرةٍ استراتيجيةً، موغلةً بذلك في نسفِ السيادة الوطنية[14]. والآن، يحل دور قطاع الطاقات المتجددة. ولا ريب أن هكذا قرار هو غير سيادي وتكنوقراطي الطابع، يتم فرضه بنعومة على قطاع بهذا القدر من الأهمية الاستراتيجية المؤهلة لأن تزيد في السنوات القادمة!
بينما تصور بعض الحكومات الغربية نفسها على أنها صديقة للبيئة من خلال حظر التكسير الهيدروليكي داخل حدودها وتحديد أهداف لخفض انبعاثات الكربون، فإنها تذهب وتقدم الدعم الدبلوماسي لشركاتها متعددة الجنسيات لاستغلال موارد النفط/الغاز الصخري في مستعمراتها السابقة ، وهذا ما فعلته فرنسا مع شركة توتال في الجزائر سنة 2013[15]. إذا لم يكن هذا استعمارًا طاقيًا وعنصريةً بيئية ، فأنا لست متأكداً كيف أصفه!
وفي سياق الحرب في أوكرانيا ومحاولات الاتحاد الأوروبي لقطع الاعتماد على الغاز الروسي، نرى مرة أخرى أن الأمن الطاقي للاتحاد الأوروبي يسبق كل شيء ويطغى على كل اعتبار آخر. لذلك نشهد المزيد من تثبيت مشاريع استغلال الغاز، والمزيد من الاستخراجية، والمزيد من التبعية ووقف التحول الأخضر في البلدان أين تتمّ تلك المشاريع. وهذا ما حدث بالضبط عندما وافقت إيطاليا والجزائر على زيادة إمدادات الغاز لإيطاليا. ستضخ الشركة الوطنية Sonatrach وENI الإيطالية 9 مليارات متر مكعب إضافية من الغاز بداية من 2023/2024[16]. كما سيحصل الاتحاد الأوروبي على شحنات الغاز الطبيعي المسال من مصر وإسرائيل وقطر والولايات المتحدة الأمريكية.
ستتأثر بشدة اقتصادياتُ شمال أفريقيا المطبوعةُ بتبعية للمحروقات الأحفورية (الجزائر وليبيا أساساً وكذلك مصر) عندما ستُقلص أوربا بنحو كبير، في العقود القادمة، وارداتِ المحروقات الأحفورية من المنطقة. لذا، يلزم فتح نقاش جديّ للتفكير في الانتقالات نحو الطاقات المتجددة، وللتخلي تدريجياً عن الطاقات الأحفورية. ويجبُ استبعاد الجديد من مشاريع استكشاف المحروقات الأحفورية واستغلالها!
لا يمكنُ، بنظري، فصلُ رهانِ الانتقال الطاقويِّ العادلِ عن مسائل إضفاء الديمقراطية والسيادة الشعبية على الأرض والماء وسائر الموارد الطبيعية. كيف يمكن للناس، في ظل الدكتاتوريات العسكرية والأنظمة الفاسدة أن يقرروا مستقبلهم الطاقوي بدون ديمقراطية في بلدانهم؟ يجب أن يكون الانتقال الطاقوي في الجزائر، كما في سائر بلدان أفريقيا وسائر بلدان الجنوب، مشروعاً قائماً على السيادة، موجهاً أساساً نحو الداخل، وقاصداً أولاً تلبيةَ الحاجاتِ المحلية قبل النظر في إمكان التصدير. لا يمكنُ أن نستمر في الإنتاج لصالح أوربا، وإطاعة إملاءاتها في مجال الطاقة، لا سيما سعيها الراهن إلى التحرر من تبعيتها إزاء الغاز الروسي بتنويع مصادر تزودها. إن أولويتنا هي نزع الكربون عن اقتصادنا، وعليه يجب أن نرفع تركيبتنا الطاقوية الداخلية إلى نسبة 70-80% من الطاقات المتجددة، حتى قبل التفكير في التصدير إلى الاتحاد الأوربي.
خصخصة الطاقة في تونس
إن خصخصةَ الطاقة، وتحكمَ الشركات متعددة الجنسية في الانتقال الطاقوي، ميلٌ عالمي. وقد سار المغربُ على هذا النهج[17]، وكذا تونس. ويُمارَسُ ضغطٌ هائل على قطاع الطاقات المتجددة في تونس بغيةَ منح المستثمرين الأجانب تحفيزاتٍ لإنتاج الطاقة، حتى للتصدير. ويرخص القانونُ التونسي للعام 2015 (رقم 2015-12)[18]، الخاصُّ بإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة (معدّل في 2019)[19]، حتى لاستعمال أراضٍ زراعية لإنشاء مشاريع متجددة في بلد يعاني من تبعية غذائية حادةٍ تجلتْ مرة أخرى في أثناء الجائحة والحرب الروسية-الأوكرانية الحالية. يحق التساؤل: من المستفيد من الانتقال الطاقوي؟
في عام 2017، تقدمت شركة تونور – TuNur بطلب لبناء مصنع بقدرة 4.5 جيجاوات في الصحراء التونسية وتوصيل ما يكفي من الكهرباء عبر الكابلات البحرية لتزويد مليوني منزل أوروبي بالطاقة. هذا المشروع الذي لم يتحقق بعد هو شراكة بين نور للطاقة ومقرها المملكة المتحدة ومجموعة من المستثمرين المالطيين والتونسيين في قطاع النفط والغاز[20]. وحتى وقت قريب، كانت تونور تصف نفسها صراحة كمشروع لتصدير الطاقة الشمسية يربط بين الصحراء وأوروبا. وبالنظر إلى أن تونس تعتمد على الجزائر في احتياجاتها من الطاقة، فإنه لأمر شنيع أن تتوجه إلى الصادرات بدلاً من إنتاج الطاقة للاستخدام المحلي.
ذلك أيضاً شأن المشروع المقترح سنة 2021 من رئيس مدير عام Tesco (من أهم مجموعات توزيع الأغذية وسلع الاستهلاك بالمملكة المتحدة)، بالشراكة مع أكوا باور السعودية، لربط جنوب المغرب بالمملكة المتحدة بأسلاك لنقل الكهرباء في عمق البحر[21]. إنها، مرةً أخرى، نفسُ علاقات الاستخراج، ونفسُ ممارسات الاستحواذ على الأراضي، التي يجري الحفاظُ عليها، فيما سكان منطقتنا بلا اكتفاء ذاتي طاقوي. إن مشاريعَ الطاقة المتجددة الكبيرةَ هذه تنتهي، مع كل ما تُبدي من حسن نوايا، إلى حجب استغلالٍ عنيفٍ. تجري هذه الترسيمةُ الاستعمارية المألوفة أمام أنظارنا: تدفقٌ بلا حد للموارد الطبيعية (حتى الطاقة الشمسية) من الجنوب صوب الشمال الغني في حين يمنع هذا الأخير المهاجرين من الوصول إلى قلاعه المحمية ويدعهم يلقون حتفهم غارقين في البحر أو مقتولين في محاولاتهم عبور أسوار العار.
الهيدروجين، جبهة الطاقة الجديدة في إفريقيا
وتتوطدُ أيضاً العلاقاتُ الاستعمارية الجديدة بواسطة مشاريع يحبكها الاتحاد الأوربي لجعل أفريقيا تُنتج الهيدروجين الأخضر وتصدرُه إلى أوربا. وإن استراتيجيةَ الاتحاد الأوربي في مجال الهيدروجين المنشورة في تموز/يوليو 2020 – في إطار الصفقة الأوروبية الخضراء (EGD)، خارطةُ طريق طموحةٌ للانتقال إلى الهيدروجين الأخضر في أفق العام 2050[22]. وتقترح أن يتمكن الاتحاد الأوربي من تأمين قسم من تموينه مستقبلاً من أفريقيا الشمالية التي تتيح في الآن ذاته مقدراتِ طاقة متجددة وقرباً جغرافياً أكيداً.
يشير الهيدروجين النظيف أو الأخضر إلى عملية استخراج الهيدروجين من مواد أكثر تعقيداً باستخدام عمليات “نظيفة” (خالية من الكربون). يُستخرَج أغلب الهيدروجين حالياً من الوقود الأحفوري، ممّا يؤدّي إلى انبعاثات كربونية كبيرة (الهيدروجين الرمادي). من خلال تقنية احتجاز الكربون على سبيل المثال، يمكن جعل هذه العملية أنظف (الهيدروجين الأزرق). ومع ذلك، فإن أنظف شكل من أشكال استخراج الهيدروجين يستخدم المحلل الكهربائي لتقسيم جزيئات الماء، وهي عملية يمكن تشغيلها بالكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة (الهيدروجين النظيف أو الأخضر).
تمّ استيحاء استراتيجيةَ الاتحاد الأوربي من ورقة بحثيّة نُشرت في آذار/مارس 2020 لمنظّمة تجارية وجماعة ضغط هي “هيدروجين أوروبا”، وقد نصت الورقة على “مبادرة الهيدروجين الأخضر 2×40 جيجاواط” بموجب هذه المبادرة[23]، سيكون لدى الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2030 قدرة 40 جيجاواط من المحلل الكهربائي للهيدروجين المتجدّد المحلّي، مع استيراد 40 جيجاواط أخرى من المحلّل الكهربائي في المناطق المجاورة، من بينها صحاري شمال إفريقيا، باستخدام بعض خطوط أنابيب الغاز الطبيعي الموجودة حالياً والتي تربط الجزائر وليبيا بأوروبا[24]. يجدر القول هنا أن الدفع بالهيدروجين الأخضر واقتصاد الهيدروجين أمرٌ نال بالفعل الدعم من كبرى شركات النفط والغاز الأوروبية، التي تراه باباً خلفياً لاستمرار أشغالها، يمكن من خلاله استخراج الهيدروجين من الغاز الطبيعي/الأحفوري (إنتاج الهيدروجين الرمادي والأزرق). تريد هذه الصناعة الأحفورية الحفاظ على البنية التحتية الحالية للغاز الطبيعي وخطوط الأنابيب، إلى جانب العلاقات الاقتصادية الاستغلالية التي تقف وراءها[25].
في إفريقيا وأماكن أخرى، تواصل شركات الوقود الأحفوري استخدام الهياكل الاقتصادية الاستغلالية نفسها التي تم إنشاؤها خلال فترة الاستعمار لاستخراج الموارد المحلية ونقل الثروة خارج القارة. كما أنها حريصة على الحفاظ على الوضع السياسي الراهن في البلدان الأفريقية حتى تتمكن من الاستمرار في الاستفادة من العلاقات الرّبحية مع النخب الفاسدة والقادة الاستبداديين. هذا يسمح لها أساسًا باستغلال مفرط لليد العاملة المحليّة ، ويعفيها من مسوؤلياتها في التدهور البيئي، والعنف ضد المجتمعات المحلية.
ومع الحرب في أوكرانيا، من المقرّر أن يكون استبدال الغاز بمصادر الطاقة المتجددة من بين المحاور الأساسية لخطة REPowerEU (إعادة تزويد أوروبا بالطاقة)، وهي خطة المفوضية الأوروبية لإنهاء الاعتماد على الغاز الروسي[26]. فضلاً عن الانتقال من إمدادات الغاز من بوتين إلى نظم سلطوية أخرى مثل النظام الجزائري والأذربيجاني والمصري، أو دولة الفصل العنصري الاستعمارية: إسرائيل، وبناء موانئ وخطوط جديدة لاستيراد ونقل الغاز، تُظهر خطة الطاقة الأوروبية الجديدة REPowerEU أن الهيدروجين – الحل السحري الأخير الذي تدفع به صناعة الغاز – سيتم إنتاجه وتوريده بكميات خيالية على الإطلاق.
وقد أعلن نائب رئيس المفوضية الأوروبية فرانس تيمرمانس للبرلمان الأوروبي في أيار/مايو 2022: «إنني أؤمن تماماً بأن الهيدروجين الأخضر سيكون القوة المحركة لنظام الطاقة الخاص بنا في المستقبل»، وأضاف: « وأؤمن بشدة بأن أوروبا لن تتمكن يوماً من إنتاج الهيدروجين الخاص بها بكميات كافية»[27].
وفي هذا السياق، ضاعفت المفوضية الأوروبية هدفها الخاص بالهيدروجين أربع مرّات؛ من 5 مليون طن بحلول عام 2030 إلى 20 مليون طن، مع التخطيط لاستيراد نصف هذه الكمية. وهناك مكانة خاصة محجوزة لدول جنوب المتوسط، والتي من المتوقع – بحسب مسودات سبق تسريبها واطّلع عليها مرصد شركات أوروبا (CEO) – أن تفي بما يناهز 80 بالمئة من الواردات[28]. ولكن هناك دراسات تُظهر عدم واقعية هذه الأهداف من حيث التكلفة والطاقة، وكيف أنها تقود بالفعل إلى المزيد من الاستغلال للوقود الأحفوري[29].
وتُعدُّ ألمانيا من بين البلدان المُتصدِّرة لجهود الهيدروجين الأخضر في إفريقيا. تعمل ألمانيا مع جمهورية الكونغو الديمقراطية والمغرب وناميبيا وجنوب إفريقيا على تطوير “الوقود منزوع الكربون” المتولّد من الطاقة المتجددة، للتصدير إلى أوروبا. وهي بصدد استكشاف المناطق/البلدان المُحتملة الأخرى والمناسِبة لإنتاج الهيدروجين الأخضر بشكل خاص. وفي سنة 2020، دخلت الحكومة المغربية في شراكة مع ألمانيا لتطوير أول مصنع هيدروجين أخضر في القارة الإفريقية[30]. كما هو الحال هذه الأيام، فإن المغرب، الذي يتميز بواحد من أكثر الاقتصادات ليبراليةً في المنطقة، يحافظ على الثناء على بيئته الملائمة للأعمال التجارية، والانفتاح على رأس المال الأجنبي و”ريادته” في قطاع الطاقة المتجددة. وفقًا لتقديرات معينة، يمكن للبلد أن تستحوذ على ما يصل إلى 4٪ من سوق Power-to-X العالمي (إنتاج الجزيئات الخضراء) بحلول عام 2030، نظرًا “لمواردها المتجددة الاستثنائية وسجلها الناجح في نشر محطات متجددة على نطاق واسع”[31].
كل هذا يحدث على حساب التحول الطاقي لهذه البلدان الأفريقية. وسيتأخّر الانتقال الأخضر هناك باسم حماية الأمن الطاقي في أوروبا وتحقيق أهدافها المناخية. إنّ خطط الاتحاد الأوروبي للهيدروجين المتجدد في استراتيجية الطاقة المذكورة لا تتعلق ببساطة بالانبعاثات الكربونية، إنما هي أيضاً جزء من حراك جديد لإعادة مركزة الاتحاد الأوروبي وشركاته كأطراف عالمية في الاقتصاد الأخضر المتطور تكنولوجياً ومنافسة قوى أخرى كالصين.
ديزرتيك 3.0 أو ركوب موجة الهيدروجين الأخضر
في سنة 2009، أُطلِق مشروع ديزرتيك (Desertec) كمبادرة طموحة لتزويد أوروبا بالطاقة من محطات الطاقة الشمسية وحقول الرياح الممتدة عبر منطقة شمال إفريقيا وغرب آسيا، اعتماداً على الفكرة القائلة بأن مساحة صغيرة من الصحراء يمكن أن توفر حوالي 20 في المئة من احتياجات أوروبا من الكهرباء بحلول سنة 2050، عبر كابلات التوتر العالي التي يمكنها تأمين نقل التيار الكهربائي مباشرة.
بعد بضع سنوات من الجدل حول المشروع، انتهى ديزرتيك إلى التوقف، وسط انتقادات حول تكاليفه الباهظة جدّاً ودلالاته الاستعمارية الجديدة (النيوكولونيالية)[32]. ومع ذلك، يبدو أن الفكرة قد مُنحت فرصة جديدة للحياة، أُطلق عليها اسم ديزرتيك 3.0 (Desertec3.0)، هذه المرّة كإجابة ممكنة لاحتياجات أوروبا من الهيدروجين المتجدد/الأخضر[33]. في أوائل سنة 2020، أطلقت مبادرة ديزرتيك الصناعية (Dii) تحالف الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للهيدروجين، الذي يجمع بين الفاعلين في القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى الأوساط العلمية والأكاديمية، لبناء اقتصاديات الهيدروجين الأخضر. اثنان من شركاء DII، على سبيل المثال، هما عملاقا الطاقة: الفرنسي توتال وشركة النفط الهولندية شل[34].
إن مُقترح ديزرتيك 3.0 يدعو إلى نظام طاقة أوروبي يعتمد على 50 في المئة من الكهرباء المتجددة و50 في المئة من الهيدروجين الأخضر بحلول سنة 2050، ويبدأ من افتراض أن “أوروبا لن تكون قادرة على إنتاج كل طاقتها المتجددة في أوروبا نفسها”. يحاول مُقترح ديزرتيك الجديد أن ينأى بنفسه عن التركيز على الصّادرات التي صبغت المشروع في سنواته الأولى، من خلال “تنعيمه” بإضافة بُعد التنمية المحلّيّة لنظام الطاقة النظيفة هذه المرّة. ومع ذلك، فإن أجندة التصدير لتحقيق الأمن الطاقي في أوروبا واضحة: “… بالإضافة إلى تلبية الطّلب المحلّي، تمتلك معظم دول شمال إفريقيا إمكانات هائلة من حيث الأراضي والموارد لإنتاج الهيدروجين الأخضر للتصدير”.
ولمزيد من إقناع النخب السياسية والتجارية على جانبي المتوسط، لا يتم تقديم ديزرتيك كحل للتحوّل الطاقي في أوروبا فحسب، بل كذلك كفرصةً للتّنمية الاقتصادية في شمال إفريقيا، بما يحدّ من الهجرة بين الجنوب والشمال: “علاوة على ذلك، من شأن مقاربة مشتركة للطّاقة المتجددة والهيدروجين بين أوروبا وشمال إفريقيا أن تخلق تنمية اقتصادية ومَواطن شغل موجَّهة نحو المستقبل وتحقيق الاستقرار الاجتماعي في بلدان شمال إفريقيا، ممّا قد يقلّل من عدد المهاجرين الاقتصاديين من المنطقة إلى أوروبا”. ليس من المؤكّد إن كانت هذه محاولة يائسة للإقناع شبيهة باستراتيجيات البيع العسير، لكن يبدو أن رؤية ديزيرتيك تنحاز لدعم سياسات أوروبا المحصّنة وتوسيع نظام غير إنساني لإمبريالية الحدود، مع محاولة الاستفادة من إمكانات الطاقة قليلة التكلفة التي تعتمد على العمالة المنضبطة والرخيصة في شمال إفريقيا.
وهكذا يتم تقديم ديزيرتيك كحل لانتقال الطاقة في أوروبا، وفرصة للتنمية الاقتصادية في شمال إفريقيا وكبح الهجرة بين الجنوب والشمال. نظرًا لكون ديزرتيك مرتكزاً على إصلاحات تقنية غير سياسيّة، فإنه يَعِدُ بالتغلّب على كلّ هذه المشكلات دون تغيير جوهري، والحفاظ أساساً على الوضع الراهن وتناقضات النّظام العالمي التي أدّت إلى هذه المشكلات في المقام الأول. تميل “الحلول الهندسيّة” الكبيرة مثل ديزرتيك إلى تقديم تغيّر المناخ كمشكلة مشتركة دون التطرّق إلى إطارها السياسي أو الاجتماعي والاقتصادي. يخفي هذا الأفق مشاكل نموذج الطاقة الرأسمالي، وكذلك المسؤوليات التاريخيّة للغرب الصناعي، واختلاف مدى التأثر بتغير المناخ بين بلدان الشمال والجنوب. من خلال استخدام عبارات مثل “التعاون المتبادل”، و”منفعة الطرفين”، والتي تُقدِّم المنطقة الأورومتوسطية كمجتمع موحّد (نحن جميعًا أصدقاء الآن، نحارب عدواّ مشتركاً!)، فهي تُخفي هياكل قوّة الاستعمار الجديد واستغلال الشعوب الإفريقية ونهب مواردها.
علاوة على ذلك، ومن خلال الضّغط من أجل استخدام البنية التحتية الحالية لأنابيب الغاز، فإنّ مشاريع كهذه تدعو فعلياً إلى ما لا يزيد عن تبديل مصدر الطاقة فقط، مع الحفاظ على الديناميات السياسية الاستبدادية القائمة، وترك التسلسلات الهرمية للنظام الدولي كما هي، لا تُمسّ. تثير مسألة تشجيع استخدام خطوط الأنابيب من الجزائر وليبيا (بما في ذلك عبر تونس والمغرب) عدداً من الأسئلة: ماذا سيحدث عندما تتوقّف أوروبا عن استيراد الغاز من هذه البلدان، مع العلم أنّ 13 في المئة من الغاز المستهلَك في أوروبا يأتي من شمال إفريقيا؟ هل ستؤخذ تطلّعات الجزائريين مثلاً إلى الديمقراطية والسيادة – التي تمّ التعبيرعنها بشكل صارخ في انتفاضة 2019-2021 ضد الدكتاتورية العسكرية – في الاعتبار في هذه المعادلة؟ أم أنّنا بصدد مشاهدة نسخة جديدة من الوضع الراهن، حيث يحلّ الهيدروجين ببساطة محل الغاز؟ ربما لا جديد تحت الشمس رغم كل شيء.
إلى جانب ما تقدّم، يشير بيان ديزرتيك إلى أنه “في المرحلة الأولى (بين 2030-2035)، يمكن إنتاج كمية كبيرة من الهيدروجين عن طريق تحويل الغاز الطبيعي إلى هيدروجين، حيث يتم تخزين ثاني أكسيد الكربون في حقول غاز/نفط فارغة (الهيدروجين الأزرق)”. أولاً، تقنيات جمع الكربون وتخزينه باهظة الثمن وغير موثوقة حاليا. ثانياً، هناك خطر أن ثاني أوكسيد الكربون الذي سيتم جمعه وتخزينه سيستعمل في تحسين استخلاص النفط، كما يحدث في شتى أنحاء العالم. على كلّ حال، إن تمّت فعلاً عملية تخزينه في حقول غاز/نفط فارغة، فهذا بالإضافة إلى مسألة استخدام موارد المياه النادرة لإنتاج الهيدروجين وخطر التلوّث الناجم عن عمليات تحلية مياه البحر، يمكن اعتباره مثالاً آخر على إلقاء النّفايات في دول الجنوب (إنشاء مناطق تضحية) ونقل العبء البيئي إليها. وهذه استراتيجية رأسمالية مرتبطة بالهرميّة العرقيّة والطبقيّة، حيث ترتبط العنصرية البيئية بالاستعمار الطاقيّ[35].
أخيراً وليس آخراً، يستلزم إنشاء البنية التحتية الضّروريّة لإنتاج ونقل الهيدروجين الأخضر قدراً كبيراً من الاستثمارات الأوليّة. بالنظر إلى التجارب السّابقة في تنفيذ مثل هذه المشاريع عالية التكلفة وكثيفة رأس المال، ينتهي الاستثمار إلى خلق المزيد من الدّيون للبلد المستقبِل، ممّا يعمّق الاعتماد على الاقتراض متعدّد الأطراف وعلى المساعدات الخارجية.
إذا مضت هذه الخطط قِدماً، فسوف تكون حلقةً جديدة من حلقات الاستيلاء النيوكولونيالي على الثروات، في وقت يجب أن تُستخدم فيه الموارد المتجددة لتلبية احتياجات الطاقة المحلية وتحقيق الأهداف المناخية المحلية، بدلاً من مساعدة الاتحاد الأوروبي على الوفاء باستراتيجيته المناخية وتحقيق أمنه الطاقي.
خاتمة
يبدو أن ما يوحِّد جميع المشاريع “الخضراء” المذكورة أعلاه هو افتراض خاطئ بأنّه يجب التّرحيب بأيّ توجّه نحو الطاقة المتجدّدة، وأنّ أيّ تحوّل عن الوقود الأحفوري، بغضّ النّظر عن كيفيّة تنفيذه، يستحقّ العناء. يحتاج المرء أن يقول ذلك بوضوح: أزمة المناخ التي نواجهها حاليّاً لا تُعزى إلى الوقود الأحفوري في حدّ ذاته، بل تكمن في استخدامه بطريقة غير مستدامة ومدمّرة من أجل تغذية الآلة الرأسماليّة. مشاريع كهاته تضفي الشرعية على الفكرة المشبوهة لـ”الرأسمالية الخضراء”، وتوفر غطاء علاقات عامة لشركات الطاقة الكبرى وأنظمة النفط والغاز. دعم المشاريع الكبيرة “للطاقة النظيفة” يتيح لها تقديم نفسهل على أنها حامية للبيئة مع إخفاء حقيقتها ككيانات مجرمة وملوثة للبيئة.
يجب أن يغيِّر التّحوّل/الانتقال الأخضر والعادل بشكل أساسي نظامنا الاقتصادي العالمي الذي لا يصلح على المستوى الاجتماعي والبيئي، وحتى البيولوجي (مثلما كشفته جائحة كوفيد-19)، وأن ينهيَ العلاقات الاستعمارية التي ما زالت تستعبِد الشّعوب. يجب أن نتساءل دائماً: من يمتلك ماذا؟ من يفعل ماذا؟ من يحصل على ماذا؟ من يفوز ومن يخسر؟ ومصالح من تأتي في المرتبة الأولى؟ نحن بحاجة إلى الابتعاد عن المنطق الإمبريالي والعرقي (وكذلك المنطق التمييزي على أساس جندري) لتحميل العبء للآخرين، الذي إذا تُرك دون تحدّي، فإنه لن يؤدي إلّا إلى استعمار أخضر ومزيد من السعي للاستخراج والاستغلال من أجل أجندة خضراء مزعومة.
يستلزم الكفاح من أجل العدالة المناخية والانتقال العادل أخذ المسؤوليات ونقاط الضعف المتفاوتة بين الشمال والجنوب في عين الاعتبار. لذلك يجب سداد الديون البيئية والمناخية إلى بلدان الجنوب العالمي التي باتت أكثر تضرراً من تغيرات المناخ والتي حبَستها الرأسمالية العالمية في نمط استخراجي نهّاب ومدمّر. في سياق عالمي من اللّبرلة القسرية والدفع باتجاه صفقات تجارية غير عادلة، بالإضافة إلى التكالب الإمبريالي على النفوذ وموارد الطاقة ، يجب ألا يصبح أيّ انتقال أخضر وأيّ حديث عن الاستدامة واجهة أنيقة لامعة لمخططات الاستعمار الجديد للنهب والسيطرة.
غالبا ما يجري الحديثُ، عند تطبيق المشاريع المتجددة في بلدان الجنوب، عن نقصِ الخبرة التكنولوجية. لماذا؟ أليس الأمرُ مرتبطاً بعلاقات السيطرة وتملكِ الثروة؟ أَلا يُعزى ذلك إلى احتكار التكنولوجيا، وإلى نظام الملكية الفكرية الذي أبان عن وحشيّته إبان الجائحة الراهنة؟ يجب أن يكون نقلُ التكنولوجيا والمعرفة، والخبرة، وتصاميم تكنولوجيا الطاقة المتجددة حجرَ ناصيةِ كلِّ انتقالٍ طاقوي عادل، وإلاَّ نبقى أسرى تبعيةٍ دائمةٍ.
يمثل الانتقال العادلُ في هذا السياق انتقالا مُنصفا نحو اقتصادٍ مستدام إيكولوجياً، ومنصفٍ وعادلٍ لكل أعضائه. ويعني الانتقالُ العادل انتقالا من نظام اقتصادي قائم على استخراج مفرط للموارد واستغلال الأشخاص إلى نظام مُهيكل بالأحرى حول استرجاع وإحياء مجالات الحياة والحقوق وكرامة البشر. إن الرؤيةً الجذرية للانتقال العادلِ هي تلك التي تُدرك وترى تدمير البيئة والاستخراج الرأسمالي، والعنف الإمبريالي، واللامساواة، والاستغلال، والتهميش على محاور العرق والطبقة والنوع الاجتماعي، ومن ثم تحلّلُها بصفتها مفاعيل متزامنة تعمل ضمن نظام شامل يحتاج إلى التغيير. و”الحلول” التي تسعى إلى تناول بُعد واحد، مثل الكارثة البيئية، دون اعتبار البنيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الكامنة خلفها، هي بالأساس “حلول زائفة”.
طبعاً، سيتخذُ الانتقال العادل أشكالاً متباينةً بحسب الأمكنة. في الواقع، من الأفضل الحديثَ عن انتقالات بصيغة الجمع لأخذ هذا البُعد بالحسبان. يجبُ أن نكون، والحالة هذه، حسَّاسين لكون التفاوتات العالمية والتاريخية جزءاً مما يجب تحويله لبلوغ مجتمع عادل ومستدام. ما يعني أن الانتقال العادل قد يدلُّ على أمور بالغة التباين حسب الأمكنة. فما قد يُناسب أوربا ليس بالضرورة قابلاً للتطبيق في أفريقيا. وما قد يُلائم في مصر قد يكون غير ذلك في أفريقيا الجنوبية. وما قد يُناسب المناطق الحضرية بالمغرب قد لا يكون جيّداً في مناطق هذا البلد القروية. إن انتقالاً في بلد غني بالمحروقات الأحفورية كالجزائر سيكون بالضرورة مغايراً في بلد مفتقر إليها. يجب إذن أن نثبت القدرة على التخيل وتبني مقاربة غير مركزية استناداً إلى نصائح السكان المحليين أنفسهم.
يجب أيضاً، في هذا الإطار، جعلُ مسألةِ السلطة محورَ التحويل. أي بعبارة أخرى: من يتحكم ويستفيد من استعمال المجتمع لموارده في علاقة مع النظام الطاقوي. وهذا يعني ضرورة الاعتراف بأن النظام العالمي الراهن يُركز السلطةَ وامتيازاتِ استعمال الموارد بأيدي عدد محدود نسبياً من الفاعلين، مع تحميل الأغلبية التكاليف، لكن مع أثر أكبر على الأشخاص الأشد عرضة للتهميش مثل العمال والنساء والمجموعات المصنفة عرقياً. وهذا كذلك يعني القطعَ مع منطق “العمل وِفق المعتاد”، الذي يحمي النخبَ العالمية والشركاتِ متعددةَ الجنسية والأنظمةَ العسكرية، وإرساءَ عملية تحويل اجتماعي وايكولوجي جذرية.
ويستند الانتقالُ العادل كذلك على مفاهيم مثل الديمقراطية والسيادة الطاقويين لتشكيل رؤية عالم يتيح للناس الإفادة والتحكم في الموارد التي يحتاجونها لأجل حياة لائقة، وحيث يقومون بدور سياسي في اتخاذ القرار حول كيفية التصرّف في تلك الموارد ومن يستعملها. يجب أن يكون هذا الانتقال خاضعاً لرقابة المجموعات السكانية، لا أن تترك للقطاع الخاص، لأن المشاركة النشيطة في اتخاذ القرار وبناء الانتقالات أمرٌ حاسمٌ.
أخيراً، لا يقتصر أمر الانتقال على الطاقة. إذ تمثل الزراعةُ الصناعية مكانَ التقاء آخرَ بين السيطرة الإمبريالية وتغير المناخ. فهي ليست إحدى محركات تغير المناخ وحسبُ، بل تُبقي بلدانَ الجنوب أسيرةَ نموذجٍ زراعي غير مستدام ومدمرٍ، قائم على تصدير منتجات زراعات ريعية وعلى استنزاف الأراضي والموارد المائية النادرة في مناطق جافة وشبه جافة، مثل مصر وتونس والمغرب (وكذا الجزائر أكثر فأكثر).
إن الأزمة البيئية والانتقال الضروري يتيحان لنا، من أوجه عدة، فرصةً لإعادة تكييف السياسة. لذا يجب أن يكون النضال من أجل انتقال عادل وعدالة مناخية ديمقراطيًّا للغاية عبر خرط مجموعات السكان الأكثر تضرراً والاستجابة لحاجات الجميع. المقصود بناء مستقبلٍ يتيح للجميع كفايتَه من الطاقة وبيئةً نظيفةً وآمنةً، ومستقبلٍ منسجمٍ مع المطالب الثورية للانتفاضات الإفريقية والعربية، مطالبِ السيادة الشعبية والحرية والعدالة الاجتماعية.
حمزة حموشان باحث جزائري مقيم في لندن. وهو حالياً منسق برنامج شمال إفريقيا في المعهد الدولي (TNI). هو كذلك عضو مؤسس لحملة التضامن الجزائرية وعدالة بيئية شمال أفريقيا وشبكة شمال أفريقيا للسيادة الغذائية. اشتغل في الماضي مع بلاتفورم لندن ،غلوبال جستيس ناو (عدالة عالمية الآن)، منظمة وار أون وانت (الحرب على العوز) حول قضايا دمقرطة الطاقة والسيادة على الثروات الطبيعية والنظام الغذائي. شارك في تأليف عدة كتب بما فيها: “الثورة القادمة إلى شمال أفريقيا: الكفاح من أجل العدالة المناخية” و”النضال من أجل ديمقراطية الطاقة في المنطقة المغاربية” وبفصول في “أصوات التحرر: فرنتز فانون” وموسوعة “الإمبريالة ومناهضة الإمبريالية”.