خاتمة

لاله خليلي

Print Friendly, PDF & Email

في تقديمه للطبعة الأولى من «اليعاقبة السود» ، كتَب المؤرّخ والثوري الترينيدادي العظيم سي. آل. آر. جيمس ما يلي:

«في ثورة ما، عندما يتفجّر تراكم القرون البطيء والمتواصل في ثوران بركاني، فإنّ ما يعلوه من توهّجات نيزكيّة وتحليقات تصير فوضى دون معنى، وتُحوّل نفسها إلى نزوات لانهائية ورومانسية، إلّا في حال رآها المراقب دائمًا كإسقاطاتٍ منبعثة من باطن الأرض. على الكاتب لا أن يُحلّل فحسب، إنما أن يُبرز قوى العصر الاقتصادية في حركتها، وفي تشكيلها المجتمع والسياسات والناسَ جماعةً وفرادى؛ وفي ردّ فعلها القوي على بيئتها في أثناء اللحظات النادرة تلك التي يبلغ فيها المجتمع درجة الغليان، فيصير سائلًا.»

تُعيد هذه التشكيلة من المقالات سرد المسارات الثورية في العالم العربي، بما عرفته من تقلّبات وتطوّرات وخيبات وانقطاعات، منذ الانتفاضات الأولى عام 2011 إلى الموجة الأحدث في أواخر العشرية المنقضية. تنقل التحاليل العميقة لكُتّاب هذا الملفّ شيئًا من السيولة وعدم القدرة على التنبّؤ التي كتب عنها جيمس ببلاغة لافتة. حتّى الآن، ما زال تبيان الآثار بعيدة الأمد لهذه الموجات من الانتفاض سابقًا لأوانه. تردّد ريما ماجد صدى هذا الرأي في وصفها للمسارات الثورية في العراق ولبنان: «حتى أكثر الثورات مجدًا لم تخرج إلى النور من دون دوراتِ مدٍّ وجزرٍ، واستغرق صنعها عقودًا من الزمن.»

توضح هذه المقالات مجتمعَةً أنّ السياق الذي انبثقت منه الحراكات الثورية كان يتميّز بالتدخّل الإمبريالي؛ بالتحرّش الإقليمي عبر دول معادية للثورة؛ بالقمع الهائل الذي أطلقت عنانه البيروقراطيات المتورّمة للدول؛ باستمالة أغلب المنظمات السياسية أو الاقتصادية الاجتماعية أو النقابات؛ بالتدهور البيئي؛ بجمهورٍ تُركَ لمواجهة مصيره بنفسه نتيجة سياسات الاستغلال والتقشّف؛ وبتطبيق سياسات تقسيميّة لتفتيت الشعوب.

كان التدخّل الخارجي موضوعة حاضرة بين السطور في كلّ المقالات. أحيانًا يأخذ هذا التدخّل شكل توافقات واشنطن وبرامج التقشّف واللبرلة الاقتصاديّة المفروضة دوليًا – مثلما نرى في مقالات هنيّة، وأموزاي (عن المغرب)، أو بسيوني وألكسندر (عن مصر). ويمكن لهذا التدخّل أيضًا أن يأخذ شكل الهيمنة الاقتصادية عبر اتفاقيات التجارة الحرّة مع شركاء أقوى وأغنى. إذ يشرح بن خليفة كيف انهارت صناعة النسيج في تونس إثر مصادقة نظام بن علي على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي. وكثيرًا ما يتسبّب التدخّل الاقتصادي الإقليمي في تحطيم الاقتصادات المحلّية – بشكل متواتر على يد دول الخليج، غنيّة النفط فقيرة الوازع، والمعادية للثورة. ونكتشف جانبًا آخر لتكريس التدخّل الأجنبي عبر رأس المال الإقليمي في ما شرحاه هنيّة وزيادة عن الخطط «التنموية» للسعودية والامارات العربيّة في اليمن، مصر وفي كلّ المنطقة، وكذلك في مساءلة مُزَن النيل لابتياع دول الخليج الأراضي الزراعية السودانيّة بأبخس الأثمان. كما نحتَت الاعتداءات العسكريّة -وما بينها من حروب باردة أو حامية- التاريخ الحديث للدول العربيّة إلى حدٍّ بعيد: سواء عبر الحروب النظاميّة التي شنّتها الولايات المتحدة -إلى جانب حلفائها من دول أخرى- على العراق، أو في الحرب الأهليّة في لبنان، أو النزاع المتأجّج بين المغرب والصحراء الغربيّة، أو في اعتداءات إسرائيل على جيرانها العرب، أو من خلال مكافحة التمرّد المحلّي الشرسة التي تشنّها دول مختلفة، أو عبر الأموال الطائلة التي تنفقها دول عربيّة على العتاد العسكري والتدخّلات المتزايدة لدول الخليج، لقبر إمكانيّة توالي الحراكات الثوريّة.

في جميع هذه الدول، حافظت حكومات ما بعد الاستعمار المتصلّبة على الكثير من خصائص «النظام القديم» الكولونيالي، على أجهزته الأمنية والبيروقراطيّة، إلى جانب طُرُق تقسيم شعوبها (من أجل السيطرة عليها). تُمثّل هذه الدول البرجوازيات الوطنيّة التي حذّر منها فرانز فانون بإلحاح، كما يذكّرنا حموشان. من أكثر أساليب السيطرة التي تعتمدها هذه الدول تسليح الاختلافات الإثنيّة-الثقافيّة والجهويّة، وتحويل هذه الاختلافات إلى بُنَى اقتصاديّة وسياسيّة مستدامة. بُنى لا تفرز النزاعات فحسب، بل – أهمّ من ذلك – تغدو مسالِكَ لأنماط جديدة من الاستغلال الرأسمالي. تقسيم السكّان إلى طوائف (انظر-ي ماجد حول العراق ولبنان)؛ والعنف ضدّ الأقلّيات المُستَضعَفَة (مثلًا عنف الدولة المغربية ضدّ الأمازيغ والصحراويين، كما حلّله أموزاي)؛ وخلق أقلّيات محظيّة (كما أوضح مُنيف بخصوص سوريا)؛ والاستقطاب بين القوى العلمانيّة والإسلامويّة (مثلما ذُكر في العديد من المقالات بالملفّ)؛ والآثار المدمّرة للنزاعات بين المناطق والتجمّعات في ليبيا واليمن (وقد كتبت عنها زيادة) تمثّل جميعها أجزاءً من هذا الأسلوب.

مسألة مميّزة أخرى أشار إليها كلّ الكتّاب والكاتبات هي أنّ الدول المتسلّطة باطِّراد منخرطة بالكامل في شبكات التراكم الرأسمالي حول العالم. ويمكن لارتباطات هذه الدول بالإمبريالية الأمريكية أن تختلف. سواء كانت معادية لها لفظيًا (مثلما يكشف هنيّة بوضوح بخصوص سوريا وليبيا) أو تدافع علنًا عن تحالفها مع الولايات المتحدة وأوروبا، فقد صارت جميعها قابلة تمامًا لاختراق نهب رأس المال العالمي، وبرفقته ما يميّز الرأسمالية المتأخّرة الكارثيّة من تخلٍ مُنظَّم عن الشعوب والبيئة.

أوجه تشابه التُرَبِ التحتيّة التي نبتَت فيها هذه الحراكات الثوريّة أكثر من اختلافها. إذ واجهت عقبات هائلة من الداخل ومن الخارج، أحيانًا بسبب الضعف الداخلي لهذه الحراكات نفسها، ودائمًا بسبب عمل القوى الرجعيّة في المنطقة وخارجها بعزم لا يلين على إعاقتها باعتماد جملة من الاستراتيجيات – ولا يكون العنف آخرَها. تلتقط الرسوم التوضيحيّة الجميلة والمؤثّرة لفرات شهّال شيئًا من الأمل والعنف الذي طبع هذه اللحظات الثوريّة، ما يصفه سي آل آر جيمس بـ «حمّى وقلق» المنعطف.

في هذه المقالات، نرى حراكات عبّأت فئات مختلفة من الناس: مزارعي الريف في المغرب وعمّال المصانع في مصر (في مقالات أموزاي، بسيوني وألكسندر)؛ النساء في ساحات العراق ولبنان والسودان وتونس وغيرها (كما تشرح لنا زهرة علي وريما ماجد ومُزَن النيل وآخرين)؛ وطلبة ومُعطّلين عن العمل في سوريا والجزائر والمغرب وتونس (كما يصف منيف وحموشان وبن خليفة). علاوة على التكتيكات الأكثر شيوعًا للاحتجاج في الشوارع، والتوقف عن العمل والإضرابات العامة، ميّزت الأشكالَ المبتكرة من المعارضة هذه موجاتٌ متتالية من الاحتجاج: الاعتصام بالفضاءات العامّة والساحات (تقريبًا في كلّ الأمثلة)؛ سدّ الطرقات (في تونس ولبنان والعراق)؛ اعتصامات بالصحراء (في تونس)؛ احتجاجات ريفيّة (في المغرب وسوريا)؛ وتعاون متبادَل عبر مخابز مجتمعيّة خارج نطاق الدولة (في منبج في سوريا).

كان احتلال المساحات العامّة حاسمًا بشكل استثنائي في هذه الانتفاضات، ولذا كان من البديهي أن تحرص الأنظمة الاستبداديّة على إقفالها وتحديد وصول الناس إليها ومراقبتهم. وقد ساعدها في ذلك وباء كوفيد. فتاريخيًا، استفادت الدول من إجراءات الحجر والتدابير الوبائية لا من أجل توسيع مجال الصحة العامة فحسب، بل كذلك من أجل توطيد أجهزتها الأمنية. حتى لو تركنا جانبًا ما انكشف بشكلٍ صارخ من لامساواة عالميّة من خلال الميز العنصري العالمي في توزيع اللقاحات، فقد رأينا كيف وُظّف الوباء نفسه كذريعةً من أجل الإغلاق الصارم للحدود، ولتوسيع سلطات الشرطة، ولتشديد الرقابة، وجمع المعطيات الشخصية، ولإخلاء الشوارع من الناس. في الواقع، يتمّ التذرّع بأي عذر من أجل توسيع البوْلَسة وتعميق العسكرة. هذه الفقرة لفرانز فانون، التي اقتبسها حموشان، وثيقة الصلة بهذا الموضوع:

«في هذه البلدان الفقيرة، المُخلَّفة، حيث تسود القاعدة القائلة بأنّ الثراء الأكبر مُحاطٌ بالفقر المُدقَع، تمثّل الشرطة والجيش دعامتا النظام؛ جيش وقوى أمنيّة ينصحها خبراء أجانب. تتناسب قوّة الشرطة وسلطة الجيش مع الركود الذي تغرق فيه بقيّة الأمّة.»

إلى ذلك، أشار كتّاب هذه المقالات إلى مكامن الضعف الداخلي التي ابتُليَت بها هذه الحراكات: أفضى غياب النقابات المستقلّة في بعض البلدان إلى تفكيك القوى الثورية وإلى طبقة عاملة يصعب تعبئتها بطريقة متّسقة وحاسمة. حالت الأحزاب السياسيّة المتحجّرة والتصالحيّة من جهة، والحركات من دون قيادة (أو مقطوعة الرأس)، وأحيانًا عابرة، من جهة ثانية، دون ظهور حركات سياسيّة قويّة، كثيفة وراسخة وقادرة على الصمود في وجه الهجمات. في بعض الأحيان تحدّت الاحتجاجات الطائفيةَ من خلال استدعاء انتماء قوميّ ضيّق، وأحيانًا أخرى ضغطت ضدّ الإسلاميّين في السلطة عبر دعم قوى استبداديّة. وفي أحيان أخرى حجَبَت الشعارات الليبرالية ضدّ الفساد التفاوتات البنيويّة والمظالم الاقتصاديّة التي ميّزت أشكال الاستغلال الرأسمالي اليوميّة. وقد قوبلت عدم كفاءة الدول هذه وفسادها بالدعوة إلى حكم التكنوقراط في بعض الحالات – بدلًا من الحكم الديمقراطي. ومرّة بعد مرّة، ميّز العنف إجابة الدول على غضب الناس وشكواهم.

في مواجهة تضيق الثورة المضادّة على الاحتجاجات من الداخل والخارج، أشار الكُتّاب إلى بعض مساحات الممكن. كانت الاشتباكات العفوية غير المُتوَقَّعة حاسمة في إشعال هذه الموجات المتتالية من الاحتجاج. وكما يشير جميع المؤلفين والمؤلفات، كانت المظالم الاقتصادية دائمًا في صميم الصراعات، والتي غالبًا ما اتخذت شكلًا سياسيًا. مادّية الخبز وضرورته؛ الطلب على الوظائف والإنصاف الاقتصادي والمساءلة السياسية؛ الصرخة الموجوعة والغاضبة ضد تصفية موارد الدول العربية من قبل الرأسماليين من الداخل والخارج – كلّها تظهر طريقًا محتملًا نحو المستقبل. إنّ الاعتراف المتزايد بأنّ الاستغلال الرأسمالي لا يدمّر المجتمعات والطبقات العاملة فحسب، بل البيئة كذلك، هو الآن بصدد تشكيل استراتيجيات حركات عدّة عبر الجنوب العالمي.

لعلّ الاقتراح الأكثر تفاؤلًا عبر هذه المقالات هو الدعوة إلى تضامن إقليمي وعالمي. فالتضامن مع الشعوب المحاصرة تحت قنابل أنظمتها وكذلك الأنظمة المتدخّلة من الخارج، مع الشعب الفلسطيني، ومع الحركات التحررية في جميع أنحاء العالم، هو أمر حاسم في النضال الطويل ضد الرأسمالية وأداتها التنفيذيّة، الدولة الاستبدادية. يستند حموشان إلى كتابات فانون عن الجزائر –وفي الواقع من حياة فانون نفسها– لتذكيرنا بأنّه في عالمٍ مترابط، حيث تُحكِم شبكات رأس المال خناقها علينا عبر الحدود، يجب أن تكون أشكال تضامننا أيضًا عابرة للحدود وللأقاليم. نحن بحاجة إلى التعلّم من بعضنا البعض، وربط نضالاتنا ببعضنا البعض، وأن نكون متيقظين للطريقة التي تعرّضت فيها الحركات التحررية في دول الجنوب في ستينيات القرن الماضي للعدوان أو الاستقطاب أو التدجين. نحتاج إلى أن «نستلهم من أملـ[هم] المتمرّد وإلى [تطبيق] منظورهم الأُمَميّ على اللحظة الراهنة» (حموشان).

نبذة عن الكاتب/ة

لاله خليلي أستاذة في العلوم السياسية الدولية في جامعة “كوين ماري” في لندن، وهي مؤلفة كتاب “أبطال وشهداء فلسطين: سياسة إحياء الذكرى (كامبريدج 2007) و”وقت في الظلال: الحجر في زمن التمردات المضادّة” (ستانفورد 2013) و”أوتار الحرب والسلام: النّقل البحري والرأسمالية في شبه الجزيرة العربية” (ڤيرسو 2020).

تشكّرات

ترجمة من الانجليزية: غسان بن خليفة

مراجعة وتدقيق: ياسمين حاج

صور بيانية: فرات شهال الركابي

تمّ دعم هذه النشرية من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ من خلال الدعم المقدم لها من وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية للجمهورية الاتحادية الألمانية . يمكن الاقتباس من هذه النشرية أو أي جزء منها مجانا طالما تتم الاشارة إلى النشرية الأصلية.

محتوى هذه النشرية هو المسؤولية الحصرية للمؤلف ولا يعكس مواقف مؤسسة روزا لوكسمبورغ