27 أكتوبر \ تشرين الأول 2021
مقدمة
في «جبل أحد»[1] –وهو مبنى شاهق مهجور في ساحة التحرير في وسط بغداد يقابل المنطقة الخضراء– راح المتظاهرون والمتظاهرات الشباب الذين استولوا على المبنى يرددون شعار «نريد وطن» و«نازل آخد حقي». منذ وصول حركة الاحتجاج في الشوارع إلى ذروتها في أكتوبر/تشرين الأول احتل المتظاهرون ساحة التحرير في وسط بغداد، فضلًا عن ميادين رئيسية أخرى عدّة في شتى أنحاء العراق. ومنذ 25 أكتوبر/تشرين الأول 2019 –ولفترة تعدّت سنة واحدة– تمكنوا من استبقاء سيطرتهم على هذه الساحات وخلقوا فيها مجتمعات مُصغَّرة.
بدأت انتفاضة 2019 حركةً احتجاجيةً انطلقت أساسًا من المناطق الوسطى والجنوبية ذات الأغلبية الشيعية. رغم القمع الدموي للمتظاهرين على يد قوات الأمن العراقية والميليشيات التابعة للمنظومة السياسية في العراق فإن هذه المظاهرات تحولت إلى انتفاضة، فانضمّ إليها أفراد ومجموعات من خلفيات اجتماعية وتعليمية وأيديولوجية مختلفة (مثل النقابات والجمعيات العمالية والمنظمات الطلابية المختلفة) إلى الشباب والمُهمَّشين الذين أطلقوا موجة الاحتجاجات الأولى.
تُعد انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019 –ومن مختلف الأوجه– استمرارًا لعدة احتجاجات شعبية كبرى (مثل تلك التي انطلقت في عامي 2015 و2018) التي نددت بالطائفية في العراق والفساد والمنظومة السياسية العقيمة وغياب الخدمات الأساسية في البلاد. لكن من حيث المدى والشكل والحجم تجاوزت انتفاضة 2019 الحركات السابقة. ومن جوانب الانتفاضة غير المسبوقةِ حجمُ مشاركة النساء –ولا سيما الشابات– الاستثنائي والهائل.
يعتمد هذا المقال على بحث ميداني مُعَمَّق أُجْرِيَ مع النساء والشبكات الشبابية والحركات الاجتماعية في بغداد والنجف-الكوفة وكربلاء والناصرية، فضلًا عن ملاحظات ميدانية في البصرة. يعتمد المقال الانتفاضة العراقية لعام 2019 بصفتها إطار عمل للتفكير في كيف تسمح المظاهرات الكبرى بفهم يُوسِّع من خيالنا النسوي ويراعي بصفة خاصة أهمية «الفضاء» الذي تخلقه الانتفاضة.[2] يتحرّى المنظور الذي أعتمدُه هنا القطيعة مع المقاربات الثنائية القائمة بين «القدرة الفردية – agency» والمقاومة، في تحليل الجوانب الجندرية والجنسانية للانتفاضات. يفحص المقال المظاهرات بصفتها وجودًا جسديًّا هائلًا في الشوارع واحتلالًا للفضاء الإلكتروني سمح بإنتاج مساحة خطابية ومادية وتخيُّلية في آن. بدلًا من تعريف نموذج «للتحرر» يرى المقال «التحرر» في أي فعل أو فكر يتحدى «طبيعة الأمور» ويؤكد على المساواة ومركزية من لا يُعتبرون في العادة من الفاعلين في المجال السياسي.
يحاول التحليل النسوي لانتفاضة العراق 2019 أن يجمع معًا كلًا من الهيكلي والسياسي: فمن جهة واحدة يسعى المقال إلى تحليل طبيعة المساحة التي تنتجها المظاهرات، ومن جهة أخرى يتحرى نهجًا وفهمًا للتحرّر يتجاوز معنى «السياسي». ثمّ بدل التساؤل عمّا إذا كانت مشاركة النساء في انتفاضة العراق 2019 «نسوية» الطابع –أو إذا كانت تسير وراء أجندة «حقوق المرأة»– يُعنى المقال أكثر بالتساؤل بخصوص مشاركة النساء في الانتفاضة وإذا ما كانت تحدّت «طبيعة الأمور» المهيمنة والغالبة، لا سيما في المساحة أو الفضاء الذي خلقته الانتفاضة والمشاركة النسائية فيها. وبدلًا من الانطلاق من فكرة مسبقة حول ما يعتبر تحَدٍ للمعايير الجندرية القائمة أعتبرُ هنا تحليلَ مختلف مستويات تأثير الحراك على الفضاء الاجتماعي عاملًا في فهم نوعيّة وسُبل تحدّي المعايير الجندرية.[3]
العراق بعد 2003: سياسة الموت (نيكرو-بولتيكس) والطائفية-الجنسانية
شهد العراق في مرحلة ما بعد عام 2003 عملية مستمرة ومتفاقمة من العسكرة وتدمير الدولة بدأت في التسعينيات مع القصف المدمر للتحالف بقيادة الولايات المتحدة وفرض عقوبات الأمم المتحدة، وهي أقسى عقوبات أممية فُرضت على دولة على الإطلاق.[4] بينما كان نظام صدام حسين السلطوي قد أخضع البلاد بالفعل لعقد من الحرب مع إيران في الثمانينيات ولجأ إلى العنف لقمع جميع أشكال المعارضة السياسية فإن عقوبات الأمم المتحدة مثّلت حربًا «خفية» حاصرت البلاد في حالة من الفقر والأزمة الإنسانية. ضَمِن احتلال 2003 بقيادة الولايات المتحدة استمرار هذه العملية، وأسّس نظامًا سياسيًا يستند إلى الانتماء الإثني-الطائفي والديني (يُسمَّى نظام المُحاصصة)، ودمّر ما بقي من الدولة التي كانت قادرة على العمل وتصريف الأمور. حرمت الإدارة الأمريكية مؤسسات الدولة من موظفيها وكوادرها عن طريق ما سُمي بحملة «اجتثاث البعث»، وجاءت إلى السلطة بنخبة سياسية محافظة متعصبة طائفيًا. تعمل المؤسسة السياسية في العراق بعد 2003 ككيان مُعَسكَر كليبتوقراطي، كنظام فاسد يتوخّى محاباة الأقارب والأصدقاء ويحتكر موارد العراق النفطية الكبيرة ويقمع معارضة المجتمع المدني.
مفهوم أشيلي آمبيمبي «سياسة الموت» أو «نيكرو-بولتيكس – »necropolitics [5] مفيد في وصف حالة العراق في إطار الرأسمالية العنصرية والدولة الأُمّة ما بعد الكولونيالية. إذ يساعدنا في فهم أيّ الحيوات قيّمة وغالية ومستحقة للحزن على فقدانها ومستحقة لسبل التنمية المتعلقة بالبنية التحتية والسياسية، وأيّ حيوات لا تستحقّ. في عراق الحاضر تتجسد «سياسة الموت» في غياب البنية التحتية الفعالة المطلوبة لتمكين الحياة اليومية من الاستمرار بشكل طبيعي –مثل المياه والكهرباء وخدمات ومؤسسات الدولة بما يشمل خدمات الصحة والتعليم–. كما أنها مسألة واضحة في قوى الموت العديدة التي تسم الحياة السياسية العراقية، من جهاز الدولة الأمني إلى الميليشيات المدعومة من إيران التي تقمع أي شكل من أشكال المعارضة السياسية.
منذ بداية انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019، قُتل ما لا يقل عن 700 متظاهر سلمي، وأصيب 25 ألفًا آخرين، في حين اختفى الكثيرون. جرى هذا القمع على يد مختلف القوى: قوات الأمن التابعة للدولة التي استخدمت قنابل صوتية ومدرعات مكافحة الشغب والغاز المسيل للدموع المخصص للاستخدام العسكري والرصاص، في حين لجأت الجماعات شبه العسكرية والميليشيات المدعومة من إيران والمرتزقة إلى استخدام الذخيرة الحية والبنادق الآلية. كما فرضت الحكومة العراقية حجبًا طال الإعلام والإنترنت والاتصالات، فضلًا عن فرض حظر التجوال. هُدِّد الكثير من المتظاهرين واعتُقلوا وضُربوا واختُطفوا واغتيل بعضهم.
في عراق ما بعد 2003 تبدّل حال الفضاءات العامة في الحضر تبدلًا كبيرًا: أصبحت مساحات مُعسكَرة ومُخصخصة ومتشظية. تعرضت بغداد للعنف الطائفي، ومنذ 2006-2007 أصبحت مُقَسَّمة تحت وطأة نقاط التفتيش والجدران المعزَّزة الخرسانية الّتي تفصل بين الأحياء وفق الانتماء الطائفي والإثني. تتصل الانقسامات الطبقية بالانقسامات السياسية، وترتبط قدرة الحصول على الموارد والثروة –بقوة– بالعضوية في شبكاتٍ صِلاتُها قوية بالنخبة السياسية. الفصل الأبرز والأدهى في بغداد هو ذلك القائم بين المنطقة الخضراء (حيث تعيش النخبة السياسية) وباقي سكان المدينة. خُصخِصت الأراضي للسماح ببناء المولات التجارية عبر عقود بموجب نظام الرشوة والفساد. هذه هي سمات رأسمالية الكوارث،[6] حيث تدفع أصولية السوق والتعصب له بالخصخصة الموسعة. وغالبًا ما تكون على صلة بسلب الأراضي العامة والتجريد العنيف للناس من ممتلكاتهم، في حين تكون الخدمات العامة والبُنية التحتية الشعبية عقيمة أو غائبة تمامًا. بدّلت خصخصة الفضاءات الحضرية العراقية والخدمات، التي كانت عامّة سابقًا مثل الكهرباء والتعليم والصحة، فضلًا عن العسكرة والتشظي العرقي-الطائفي حياةَ العراقيين اليومية وقدرتهم على البقاء أحياء.
وكما قيل في الأدبيات النسوية بخصوص الحرب والنزاع المسلح فإن العسكرة ظاهرة مُجندرة للغاية وضرورية كلّ الضرورة في تعريف المعايير والعلاقات الجندرية.[7] وفي العراق تفاقمت العسكرة بصفتها ظاهرة اجتماعية وسياسية أثناء الحرب مع إيران في الثمانينيات وزادت حدّتها بعد حرب الخليج عام 1991 وفرض عقوبات الأمم المتحدة. تلعب العسكرة دورًا مركزيًا في تشكيل تمثلات وممارسات النسوية والذكورية، إذ تعزز أدوار الرجال النمطية بصفتهم «حُماة» وأدوار النساء النمطية بصفتهن «مستضعَفات». شهدت عقوبات الأمم المتحدة ظهور أشكال جديدة ومتعددة من الأبويّة إلى جانب دفع الفقر المدقع للعائلات والأفراد إلى براثن استراتيجيات البقاء.[8]
تَسِمُ النظام السياسي الحالي في العراق أيديولوجية وسياسة مجندرة بعمق. في واقع الأمر لا يعتمد نظام العراق ما بعد 2003 على الانقسام الإثني والديني والطائفي فحسب، إنّما يعتمد أيضًا على الانقسام الجنسي. إنه –ولنستخدم هنا مصطلح مايا مكداشي– نظامٌ طائفي-جنسانيًا.[9] ثمة مثال دالٌ هنا وهو أنّ أحد الإصلاحات القانونية الكبرى التي جرت محاولة سنّها (من قبل أحد الأحزاب السياسية الشيعية الإسلامية الكبرى التي جلبتها الإدارة الأمريكية إلى السلطة عبر الغزو والاحتلال) كان اقتراح إلغاء قانون الأحوال الشخصية، وهو الإطار القانوني الذي يجمع بين دفتيه أغلب حقوق النساء القانونية، واستبداله بقانون أحوال شخصية طائفي.
إن العلاقة بين العنف المسلح وفرض الطائفية-الجنسانية مكوّن رئيسي من مكونات النظام العراقي، ويمتد من الساسة المنتخبين في البرلمان إلى الميليشيات. لا تهيمن القوى الدينية الطائفية الهيتيرو-أبوية (أي التي تمارس أشكالًا متعددة ومتجاورة من الأبوية) على المجال السياسي فحسب إنما أيضًا على الشوارع، وذلك عبر مجموعاتها المسلحة وميليشياتها. كانت هذه العلاقة مركزية كذلك في قمع انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019، بما أنّه يُنظَر لأي تحدٍّ للمعايير الجندرية الهيتيرو-أبوية بمثابة تهديد للنظام ككل. كثيرًا ما تصوِّر المؤسسة السياسية العراقية –عبر قنواتها الإعلامية ومنصاتها على السوشيال ميديا– الانتفاضةَ بصفتها مسألة «غير أخلاقية». كثيرًا ما اتُهم المتظاهرين بأنهم فاسدون جنسيًا، وتُنسب إليهم شائعات كثيرة عن «السلوك غير الأخلاقي» المُدّعى في أوساط الشباب في الخيام التي نُصِبت في ساحات العراق.
انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019: خلق الفضاء العام
طوّرَت ساحة التحرير في بغداد –ومثيلاتها من الساحات في أنحاء العراق مثل ساحة الحبوبي في الناصرية– أنماطًا مبتكرة للتقارب الاجتماعي تجاوزت التراتبيّات الاجتماعية والسياسية القائمة. رفض المتظاهرون كل أشكال الانحياز أو استخدامهم من قِبل مجموعة أو حزب، وبالنتيجة رفضوا تنصيب قيادة لهم. نُظِّمت ساحة التحرير بموجب مبدأ الديمقراطية المباشرة: كانت تصدر جميع القرارات بالتشاور بين جميع خيام الساحة، ثم تُعلَن من خلال عرض المبادرة أو البيان المتفق عليه على جدران «جبل أحد» ونشر المحتوى المعني على السوشيال ميديا. إن مركزية المنصات الرقمية مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام في إطلاق وتنظيم وتطوير التظاهرات في العراق تُظهر أن الانتفاضة حدثت في العالم الافتراضي بقدر ما حدثت في الميادين. وخَبِر العديد من الشباب الذين قوبلوا في بغداد –لا سيما الشابات اللاتي لم تسمح لهنّ أسرهن بالذهاب إلى ساحة التحرير– الانتفاضة في التحرير عبر شبكات التواصل الاجتماعي، إذ تابعوا العمل وأسهموا فيه عبر تدويناتهم اليومية. مها من هؤلاء، وكانت تبلغ من العمر 20 عامًا حينئذٍ:
«لا يمكنني المجيء هنا إلى ساحة التحرير دائمًا. أمي تسمح لي بالزيارة، وهي داعمة للثورة تمامًا، وترافقني. عندما لا أزور الساحة أبقى ناشطة على شبكات التواصل، فأنشر التدوينات على فيسبوك والإنستا. هذه الثورة ثورة قيَم. إنها مستقبلنا».[10]
أنتجت الساحات فضاءً ماديًا قدّم فيه المتظاهرون نهجهم الخاص بـ «المشاع العام». قدّموا مختلف الخدمات –من الطعام المجاني إلى الرعاية الطبية والتعليم والخدمات الثقافية المجانية– وهيّأوا «أشكالاً جديدة للدولة» عبر تنظيم الخدمات العامة –مثل تنظيف الشوارع وإعادة الطلاء فضلًا عن ترميم وتجديد تماثيل الميادين وتجميل المساحات العامة بفنون وتصميمات أصيلة–. أصرّ المتظاهرون على تقديم هذه الخدمات مجانًا، تشديدًا على أن هذه الخدمات يجب أن تقدمها الدولة. كان شعار «صنع في العراق» شعارًا شائعًا، سعى المتظاهرون والمتظاهرات عبرَه إلى تعزيز فكرة وجود اقتصاد وطني لا تهيمن عليه السلع الأجنبية إلى جانب تجاوز عقبة الاعتماد المفرط على اقتصاد النفط. وفي كافة أرجاء التحرير نُصِبت الأسواق، بعضها كان يبيع منتجات «صنعت في العراق» –مثل الزبادي/الرايب من أبو غريب والفواكه والمكسرات فضلًا عن الأواني المنزلية ومصنوعات الفنون والحرف–.
حُسَيْن متظاهر شاب في أواسط العشرينات من عمره، عاش في خيام ساحة التحرير لثلاثة أشهر تقريبًا. نتيجة لهذا خسر وظيفته (وراتبه). فعل كل ما فعله في سبيل الثورة. تحدث عن المجتمع المثالي الذي كان يسعى لبنائه في ساحة التحرير:
«تركي لوظيفتي لم يكن بالتحدي الكبير بالنسبة لي. فأنا رأيت الفساد، وتعرضت للفقر. أنا هنا من أجل هدف أكبر […] أنا هنا من أجل وطن، وثورة تمنحني وطنًا. كل شيء موجود هنا: الناس تتبرع لنا بالمال، حتى رؤساء الشركات. يعطينا البعض الثياب والطعام والسجائر، وكل ما نحتاجه لنعيش هنا في التحرير. يطهو الناس طوال الوقت، ترى المطابخ داخل الخيام. حصلنا على أشياء وأسلوب حياة في التحرير لم نجده في حياتنا قبل الثورة. في السابق لم تكن بحوزتنا نقود، وكان شراء الثياب يكلّف كثيرًا من المال، وكذلك الانتقال والمواصلات من منطقة إلى أخرى. هنا يمكننا أن نذهب لأي مكان في الساحة بكل حرية».[11]
بعد إجراء هذه المقابلة أطُلق عيار ناري على حُسَيْن أصابه في رقبته أثناء مظاهرة سلمية في وسط بغداد قمعتها قوات الأمن العراقية في يناير/كانون الثاني 2020. نتيجة لإصابته غادر ساحة التحرير لكن استمر في نشاطه عبر تدويناته على شبكات التواصل .
تحدّت انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019 سياسة الموت في احتفالها بالحياة. أصبحت الساحات فضاءً لحفلات السمر والرقص والمزاح ولعب الألعاب. وتردد شعار آخر في أوساط الشباب، هو «إنريد إنعيش»، أي أن نعيش الحياة الجيدة بعيدًا عن العنف المسلح والنزاعات السياسية. اشتملت هذه الأشكال من «ازدهار الحياة» على سياسة مشاعر بقدر ما أثارتها المشاعر. هيّأ المتظاهرون شاطئًا عامًا على نهر دجلة ارتاده الشباب للاسترخاء واللعب. كما أُنشِئت مسارح وسينمات في ساحة التحرير وعُرضت فيها مختلف أنواع الدراما (غالبًا ما ارتبطت بالمشكلات الاجتماعية والمجتمعية). اشتملت الأنشطة الجماعية في الساحة على الجلوس والقراءة من مختلف المكتبات المجانية المتوفرة والاستماع إلى محاضرات عامة قدّمها كُتاب ومثقفون ومحبون للثقافة والمشاركة في نقاشات. كما نُظّمت ورش الرسم والفنون في الشوارع وعند جبل أحد وفي النفق المحيط بالساحة، عُلّقت فيه مختلف أشكال الفنون، استعرض بعضها مشاهد للوحدة الوطنية فيما ندّد بعضها الآخر بالقمع وقتل المتظاهرين فيما احتفت أخرى بالنساء والشباب وشهداء التظاهر، مثل صفاء السراي (انظر-ي الصورة 1).
خلقت الانتفاضة فضاءً خطابيًا تحدّى العسكرة والعنف المسلح. ورغم القمع الدموي الذي تعرّض له المتظاهرون، فقد ظلوا يلتزمون بنهج العصيان المدني اللاعنفي. هذا أمر مدهش، إذ أنّ كثيرًا من الشباب الذين قابلتُهم في ساحة التحرير كانوا في السابق أعضاءً في الحشد الشعبي، وهي قوة شبه عسكرية ظهرت أثناء الحرب ضد داعش. أعرب كثيرٌ منهم عن حسرتهم وإحباطهم من الحشد الشعبي الّذي تحوّل من الحرب ضد داعش إلى معركة لترسيخ السلطة القمعية والدموية. كانت مصطلحات «سلمية» و«مدنية» تُسمع مرارًا وتكرارًا من الشباب المقيم في ساحة التحرير.
كما وفّرت الانتفاضة مساحة للخيال، حيث عزم المتظاهرون على إحياء ذكرى «شهداء الثورة»، وسرعان ما تحول هذا العزم إلى علّة وجود الانتفاضة. وصف كثيرٌ من المتظاهرين الانتفاضة بأنها «معركة مقدّسة» (بقدر قُدسيّة غزة أُحُد، وشمولها للرسول محمّد)، وعن استعدادهم أن يضحّوا فيها بحياتهم. كما استُخدم خيال الشهادة عند المتظاهرين على امتداد خيوط قصة الإمام الحسين في كربلاء:[12] إذ رأوا نضالهم استمرارًا لشهادة الإمام الحسين. واستخدم المتظاهرون ساحة التحرير مزارًا مقدسًا أدُّوا في جنباته طقوس الموت، إذ كانوا يدورون بأكفان الشهداء حول النصب التذكاري قبل التوجه إلى وادي السلام في النجف لإتمام طقوس الدفن الدينية.
«صوت المرأة ثورة»: تحرر مجندر
أوضحت أغلب النساء اللاتي شاركن في الانتفاضة أنّ مشاركتهنّ كانت من أجل التنديد بالعنف الذي نال من المتظاهرين، وأغلبهم شباب من الذكور. وهنّ لم يختلفن عن جموع الأفراد من مختلف الخلفيات الاجتماعية والتعليمية والأيديولوجية الذين شاركوا في الاحتجاج في الشوارع وعبر الفضاء الإلكتروني احتجاجًا على مقتل المتظاهرين العُزّل. فقد كان قمع المظاهرات عملية مجندرة للغاية، إذ كان حشد المعايير الجندرية والجنسانية القائمة مركزيًا في محاولات نزع الشرعية عن الانتفاضة على أساس كونها «غير أخلاقية» وتخرق التقاليد الدينية والمجتمعية.
ومن عدّة أوجه يمكن فهم الهجمات على المتظاهرات وتأكيد الجندرية الهيتيرو-أبوية والمعايير الجنسانية المترسخة التي أطلقتها المؤسسة السياسية العراقية في إطار ما أسمته دينيز كانديوتي بمسمّى «الترميم الذكوري»:[13] مع اكتساب النساء للظهور واحتلال المساحة العامة جرت محاولة إعادتهنّ إلى «مكانهنّ» التقليدي عبر تلك الهجمات. كما تعرضت النساء للهجمات على شبكات التواصل: فهاشتاغ #بناتك-يا-وطن الذي كان شعار المظاهرة النسائية في تاريخ 13 فبراير/شباط 2020 حُوّل إلى #عاهراتك-يا-وطن. احتشدت النساء ضدّ هذه الهجمات عبر الرسائل التي ظهرت على جدران النفق المؤدي إلى ساحة التحرير وعبر اللافتات التي رفعتها الشابات أثناء التظاهر، ومنها «نساء ثورة تشرين ثوريات لا عاهرات» (انظر-ي الصورة 2). وأصبح شعار «صوت المرأة ثورة» مركزيًا في المظاهرات بعد شنّ هذه الهجمات.
ومع رفع الشعارات التي مجّدت الأمة العراقية تصدّى الشابات والشباب ممن شاركوا في المظاهرات لخطاب التمييز الجنساني بصراحة. على سبيل المثال أدان عدد من القيادات الإسلامية «الاختلاط» أثناء المظاهرات، بما يشمل الزعيم المثير للجدل لأقصى درجة مُقتدى الصدر.[14] عبر منع الاختلاط بين الجنسين واعتبار صوت النساء «عورة» سعت المجموعات السياسية الإسلامية إلى تعريف مشاركة النساء في المظاهرات بصفتها خرقًا للتقاليد الدينية. استهزأ المتظاهرون بهذه التصريحات عبر شعارات عديدة مثل «لا مو عورة، صوتك ثورة». ومن التحديات الأخرى للفضاء الخطابي الذكوري المهيمن كان الإشادة بأحد أوّل الشهداء -صفاء السراي- بكنية ابن ثنوة إشارةً إلى أمه ثنوة بدلًا من الإشارة إلى اسم أبيه، أي بعكس الأمر الغالب. ابن ثنوة هو حاليًا الاسم الأكثر انتشارًا في الإشارة إلى الثوار، ويستخدم الكثير من المتظاهرين أسماء أمهاتهم بدلًا من أسماء الآباء.
ورغم هذه الأمثلة على التمرّد على المعايير الجندرية فإنّ انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019 لم تشتمل على أجندة نسوية أو أجندة تركز على النساء. كيف إذًا يمكننا فهم المشاركة النسائية الكبيرة في المظاهرات؟ لا يقتصر هذا التناقض الظاهر على السياق العراقي فحسب إنما يمتد أيضًا إلى الوضع القائم أثناء الانتفاضات العربية، وربما يظهر في أحدث الحركات الثورية الاحتجاجية في المنطقة.[15] تجوز رؤية غياب أجندة محددة معنية بالجندر مسألةً تكشف عن نزعة المظاهرات الجماهيرية إلى إعلاء فئة بعينها من الشعارات والمطالب، فينتهي بها المطاف بتجاهل الطبقة والجندر وعدم رؤيتهما. لكن يمكن للنظر إلى سياسة الجسد واعتبارات الفضاء الجغرافي أن يتيح لنا قراءة مختلفة بخصوص غياب الأجندة النسوية الواضحة والصريحة. يمكن القول إنّ هذه الأجندة كانت حاضرة من خلال التفعيل الملموس والواضح للمساواة وفي الحضور الكبير واختلاط الأجساد، وإنّه من هذا المنطلق تمّ تحدي المعايير الجندرية في انتفاضة 2019. تمثّل مشاركة النساء الكبيرة وحضورهن المادي بحدّ ذاته تحدٍّ للنظام الاجتماعي المنقسم جنسانيًا.
لا جدل في مركزية الأجساد في عملية صناعة الإحساس بالمواطنة، تصبح عبرها الأجساد المجندرة دالّة في الفعل الجماعي والتحول الجماعي، وهو ما يتّضح في مظاهرة «بناتك يا وطن» النسائية التي نُظّمت في فبراير/شباط 2020 جزءًا من الانتفاضة. في حين كانت هذه المظاهرة استعراضًا لدعم النساء الشابات في الانتفاضة وانحيازًا إلى الشعار الرئيسي «أريد وطن»، تحدّى الوجود الجسماني الكبير والمحتشد للنساء –إلى جانب المتظاهرين الذكور (وكثيرًا ما أدّى هؤلاء دور الدروع البشرية حول النساء أثناء المسيرة) – الطائفيةَ-الجنسانية. من هذا المنطلق فإن الوجود الجسماني الكبير للنساء يمثل دلالة على المواطنة الناهضة في تحدّيها الانقسام الطائفي-الجنساني، وذلك فضلًا عن رفض سياسة الموت والاحتفاء بالحياة في العراق ما بعد 2003. أعرب كثيرٌ من المتظاهرين –من الرجال والنساء– في ساحة التحرير في بغداد عن أنّ وجود النساء يعني «الحياة»: فهو دالٌ على دعم المجتمع كَكُلّ للانتفاضة. وانطلاقًا من مفهوم «المقاومة» فإنّ الوجود الجسماني للنساء أنتج فضاءً ماديًا وخطابيًا بديلًا. فخرجت النساء ذاتًا مُحَرَّرة من أعباء الجندرة وذلك من خلال عدم اقتصار النساء على الاحتشاد بصفتهنّ نساء تحديدًا.
الختام: توسيع الخيال النسوي
صاغت الانتفاضة العراقية عام 2019 خطابًا بديلًا وفضاءات مادية وتخيّلية بديلة لفضاء ما بعد 2003 المهيمن والذي اتّسم بالعسكرة والخصخصة والهيمنة الأبوية. في هذا الفضاء تختلط الخطوط والتراتبيّات وتتشابك بين المطالب الموجَّهة للحكومة والسياسة الانتخابية والشعارات من قبيل «الحق في الشعر المجعد». هي في آن عملية احتلال جسماني جماعي للفضاءات العامة وعملية حضور قوي في الفضاء الإلكتروني، يجري فيه تحدي الخطوط والتراتبيّات بين ما يعتبر «سياسي» وما يعتبر «مجتمعي». من هذا المنطلق يمكن وصف ممارسات الانتفاضة والحشد لها والاحتشاد فيها ظاهرةَ «تحرّر» وظاهرة ممارسة سياسية.
اشتمل طابع «المدنية» الذي طرحته الانتفاضة على مشاركة أشخاص عاديين أسّسوا لمجتمع مصغّر سلمي قابل لمختلف الجماليات والأشكال. قدّم ذلك المجتمع المُصغَّر الخدمات الضرورية وكان مفتوحًا لتقبّل مختلف الآراء والمعتقدات. كانت المساحة التي خلقتها الانتفاضة إذًا تحدٍ لـ«سياسة الموت». لقد قدّمت باقة من سبل مختلفة للعيش والتمتع بالحياة الاجتماعية بعيدًا عن الاستهلاك النفعي. مثّلت -بمختلف أوجهها- وصْفَ هنري ليفيفر لكوميونة باريس: كانت انتفاضة العراق 2019 احتفالًا كبيرًا ومساحة للاستمتاع بالحياة.[16]
كانت جوانب الانتفاضة الجندرية والجنسانية مركزية فيها، وتعرّض القمع –المنبثق من الطائفية-الجنسانية والهيتيرو-أبوية الّتي تمارسها المؤسسة السياسية– للتحدي من عدة أوجه: من الشعارات المعارضة للتمييز الجنساني وحتى مسيرات النساء. تحدّى الحضور الجسماني الهائل للنساء بحد ذاته الطائفيةَ الجنسانية، والتي اعتمدت على الانقسامات الطائفية والجنسانية. لم تكن النساء مختلفات عن الرجال أو عن أعضاء مختلف الجماعات في المجتمع (بناءً على الطبقة أو التعليم أو المهنة)، حيث برّرنَ مشاركتهن في الثورة –مثل الفئات الأخرى– بالإشارة إلى هدف «إحياء ذكرى الشهداء». من خلال كلّ هذا يمكن رؤية الانقسامات الجندرية والجنسانية في العراق، وفي الوقت نفسه اتّخذ التحرّر منها صورًا من المعارضة والشقاق والمفارقة لتحديد هوية النساء واختزالها بكونها امرأةً.