السلطوية وتحرير الاقتصاد وجذور انتفاضات 12011

آدم هنية

قبل عشر سنوات بالضبط انطلقت انتفاضات 2011 في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كيف لنا أن نفهم جذورها وأسبابها العميقة؟ في ذلك الحين أجاب العديد من المعلقين وصناع السياسات على هذا السؤال بالإشارة إلى شعار بسيط هو «الحرية السياسية والاقتصادية». بينما بدا أن العالم ماضٍ في الابتعاد عن بُنى الدولة السلطوية على مدار التسعينيات وعقد الألفية، ظل الشرق الأوسط في قلب الأوتوقراطية والحكم الملكي: إنها «أقل مناطق العالم حرية» كما ورد في دراسة بارزة حول السياسة في العالم العربي.[2] تكمن المشكلة طبقًا لهذه الأطر في الأثر الخانق للسلطوية على الأسواق الرأسمالية، الأمر الذي حال دون ظهور قطاع خاص مزدهر وعرقل إمكانات المنطقة الاقتصادية. يمكن إذًا فهم الغضب الشعبي الذي عبّرت عنه شوارع المنطقة في عام 2011 ضمن حدود هذا المنطق، بصفته رغبة في «حرية» النظم السياسية و«حرية» الاقتصاد.

في نفس الاتجاه، أشار الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، في خطبة سياساتية مهمة عن الشرق الأوسط في مايو 2011 إلى أن المنطقة كانت بحاجة إلى «نموذج تختفي فيه سياسات الحماية وتحِلُّ مَحَلَّها سياسات الانفتاح، مع انتقال التجارة من أيدي القِلّة إلى الكثرة، وأن يولّد الاقتصاد وظائف للشباب. سوف ينصب إذًا دعم أمريكا للديمقراطية على ضمان الاستقرار المالي وتعزيز الإصلاحات ودمج الأسواق التنافسية ببعضها وبالاقتصاد العالمي».  بالمثل، قال رئيس البنك الدولي حينئذ، روبرت زوليك، إن الثورة في تونس حدثت بسبب تضخم «البيروقراطية» التي منعت الناس من الإقبال على الأسواق الرأسمالية.  كرر صناع السياسات الغربيون هذا التصور الأساسي بكثرة منذ عام 2011: الدول الأوتوقراطية خنقت الحرية الاقتصادية. «الأسواق الحرة» ضرورية لأي مراحل انتقالية مستدامة للابتعاد عن السلطوية. ضمن هذه السردية يُعاد تشكيل صورة الحكومات الغربية والمؤسسات المالية العالمية بصفتها أطرافًا حميدة ومُحسِنة، مستعدة لدعم «الانتقال» إلى الديمقراطية، وقابلة لتقديم الخبرات التكنوقراطية اللازمة لبناء أسواق اقتصادية مفتوحة.

فيما يلي تتم المحاججة بعدم صحة القولَبَة المُعتمَدة للاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط. من الصحيح بالطبع أن البنى السياسية في المنطقة كانت -وما زالت- سلطوية للغاية، لكن هذا النوع من النظم السياسية يعكس مباشرةً تطورات الرأسمالية في المنطقة على مدار العقود القليلة الماضية. في القلب من هذا التطور كانت التحولات الاقتصادية بعيدة الأثر، وقد بدأت في الثمانينيات تحت لواء برامج إعادة الهيكلة الاقتصادية، الذي دعمته المؤسسات المالية العالمية الرئيسية. مع دخول تلك الاتفاقات حيز التنفيذ انتقلت الحكومات العربية عبر التسعينيات وعقد الألفية إلى إعادة توجيه وتشكيل اقتصادها بحيث يستقيم مع مبادئ قيادة السوق للاقتصاد. ولم تختلف السياسات التي انتُهجت في المنطقة كثيرًا عن تلك التي طُبقت في مناطق العالم الأخرى: من إعلاء أولوية نمو القطاع الخاص والتقشف المالي وفتح الباب أمام التدفقات الرأسمالية الأجنبية والخصخصة ورفع الضوابط عن الأسواق (بما يشمل أسواق العمل). لا يوجد تناقض أساسي بين هذه السياسات الاقتصادية والسلطوية السياسية، بل إن فتح الأسواق وزحف السياسات النيوليبرالية الحثيث على امتداد المنطقة اعتمد تحديدًا على الحكام السلطويين، ولا يزال. دعمت الحكومات الغربية هذه العملية بالكامل، وهي الحكومات التي أشادت بمجيئ حكام سلطويين إلى السلطة في المنطقة خلال الثمانينيات، واستمرت في الإشادة بتوجهات صناعة السياسات الاقتصادية في العقود السابقة على 2011.

سياسة ما بعد الحرب والشرق الأوسط المعاصر

يجب أن يبدأ أي تحليل للشرق الأوسط المعاصر من مركزية المنطقة في الاقتصاد العالمي. اكتسبت هذه المنطقة الواقعة على تقاطع طرق تجاري استراتيجي منذ زمن طويل أهميةً خاصة إبّان اكتشاف مخزونات كبيرة من المحروقات الهيدروكربونية في بدايات القرن العشرين. كان من المقدر أن يصبح النفط والغاز سلعتين أساسيتين ينهض عليهما الاقتصاد الصناعي الحديث وقطاع النقل بعد الحرب العالمية الثانية، وفي هذا السياق شكَّلت السيطرة والنفوذ على المنطقة ميزان التنافس العالمي في مرحلة ما بعد الحرب. فشددت الولايات المتحدة، التي خرجت قوة مهيمنة في تلك الفترة، بقوة على بناء العلاقات الوثيقة مع دول المنطقة.

شهدت الخمسينيات والستينيات تعمّق أهمية المنطقة في الاقتصاد العالمي، وشهدت في الوقت نفسه وصول حركات قومية عربية إلى السلطة في كل من مصر واليمن والجزائر وسوريا والعراق. خلعت الحكومات الجديدة أنظمة متحالفة مع القوى الاستعمارية السابقة، وحاولت إرساء نماذج اقتصادية اعتمدت على أشكال دولتية للتنمية: من تشديد على السيطرة الداخلية على الصناعة ودعم التعليم والعمل لخريجي الجامعات ودعم السلع الاستهلاكية الأساسية مثل الغذاء وسيطرة الدولة على الأراضي والموارد الأخرى. لكن رغم الإشارة المتكررة إلى «الاشتراكية العربية» التي قدمتها هذه الحكومات الجديدة ظلت استراتيجيتها الاقتصادية رأسمالية التوجه.[3] أدت هذه السياسات إلى تحسن في الظروف المعيشية لأغلب سكان المنطقة، لكنها اتسمت أيضًا بأشكال قمعية من الحكم استهدفت شل حركة أي نشاط سياسي مستقل.

أما الحكومات الغربية -بقيادة الولايات المتحدة- فقد واجهت في البداية هذه النضالات القومية عبر تعزيز العلاقات بثلاثة حلفاء مركزيين في المنطقة: السعودية وإيران وإسرائيل. في الخليج كان العاهل السعودي، الملك فيصل، يعتمد منذ فترة طويلة على الدعم السياسي والعسكري الأمريكي، وكان مستعدًا لتقويض القومية العربية عبر النفوذ المُفسد لأرباح النفط. مكّن التمويل السعودي للحركات الموالية للغرب في المنطقة هذه القوى من إنكار أي صلة مباشرة بحكومات غربية. كما شُجّعَت الحكومة السعودية على نشر الإسلام بصفته قوة مناوئة للأفكار القومية واليسارية في المنطقة، مع تنظيم «قمم إسلامية» أكدت على نفوذ السعودية وتحدّت دور مصر كقائدة للدول العربية في المنطقة. وانطلقت حرب دعائية شرسة بين الحكومتين السعودية والمصرية. اتخذ هذا النزاع بالوكالة مع مصر أقوى صوره أثناء الحرب الأهلية في اليمن الشمالي، التي دامت ثماني سنوات. إذ كانت السعودية الداعم الأساسي للقوى المَلكيّة، التي أطيح بها عام 1962، والموالية للبريطانيين، في حين دعمت مصر الحركات الجمهورية المصطفة ضد النظام الملكي المخلوع.

في حالة إيران، هندست الولايات المتحدة (والمخابرات البريطانية) انقلابًا ضد رئيس الوزراء الإيراني، محمد مصدّق، عام 1953، فجلبت إلى السلطة حكومة موالية للغرب ومنحازة إلى المَلكية الإيرانية برئاسة محمد رضا شاه بهلوي. اعتبرت الولايات المتحدة صراحةً أن إيران هي قاعدة سيطرتها الرئيسية على منطقة الخليج، وقد أشار تقرير صدر عام 1969 عن مؤسسة RAND (وهي هيئة بحثية بارزة على صلة وثيقة بصنّاع السياسات في واشنطن) إلى أن إيران يمكن «أن تساعد في تحقيق الكثير من الأهداف التي نراها مرغوبة دون الحاجة إلى التدخل في المنطقة».[4] تَبدّى هذا الدور بوضوح عام 1973 مع إرسال قوات إيرانية إلى عُمان لمساعدة القوات البريطانية في قمع ثورة ظُفار (وهي كفاح قويّ، مَثَّل لاحقًا نواة الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل) وكانت في القلب من الحركات اليسارية في شبه الجزيرة العربية. نجحت القوات الإيرانية -المدعومة بمروحيات وأسلحة أمريكية أخرى- في سحق الثورة. بلغ الدعم العسكري الأمريكي لإيران حدًا غير مسبوق منذ عام 1973 وما بعده، ليصل إلى أكثر من ستة مليارات دولار سنويًا بين عامي 1973 و1975. استمرت هذه العلاقة القوية حتى عام 1979، عندما قوّضَت  الثورة الإيرانية مَلكيّة بهلوي وأبعدت إيران عن دائرة النفوذ الأمريكي في المنطقة.

كانت الذراع الرئيسية الأخرى للقوة الأمريكية في المنطقة هي دولة إسرائيل. نشأت إسرائيل -بصفتها دولة استيطانية استعمارية- عام 1948 عن طريق طرد نحو ثلاثة أرباع السكان الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم. في ارتباطها الوثيق بالدعم الخارجي لاستمرار وجودها في بيئة معادية، يمكن اعتبار إسرائيل حليفًا موثوقًا أكثر بكثير من أية دولة عربية. أثناء الخمسينيات جاء دعم إسرائيل الخارجي الأساسي من بريطانيا وفرنسا. لكن شهدت حرب يونيو 1967 تدمير الجيش الإسرائيلي للقوات الجوية المصرية والسورية واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان. شجّعت هزيمة إسرائيل لدول عربية الولايات المتحدة على تثبيت دورها تجاهها بصفتها راعيتها الرئيسية، فأمدتها سنويًا بمليارات الدولارات من المعدات العسكرية والدعم المالي.

مَثَّل الانتصار الإسرائيلي عام 1967 نقطة تحول كبرى في تطور الحركة القومية العربية. في حين استمرت النُظم الموالية للغرب في التعرض إلى الضغوط من الأسفل من مختلف الحركات الراديكالية وصعود حكومات قومية جديدة في جنوب اليمن (1967) والعراق (1968) وليبيا (1969). سدّد النصر الإسرائيلي ضربة قاصمة لمفاهيم الوحدة العربية والمقاومة التي تبلورت بأوضح ما يكون  في مصر عهد عبد الناصر. فاقم من الأثر المعنوي للهزيمة العسكرية موت عبد الناصر عام 1970 ومجيئ أنور السادات إلى السلطة، الذي ارتدّ عن الكثير من السياسات الراديكالية لسلفه. تبدّت أولوية علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل عام 1973، إثر حرب أخرى بين إسرائيل وتحالف من الدول العربية بقيادة مصر وسوريا. رغم التقدم المصري والسوري الأولي في مراحل الحرب الأولى، أدى الجسر الجوي الأمريكي، الذي حمل أحدث المعدات العسكرية، إلى انتصار إسرائيلي في نهاية المطاف.

ظهور النيوليبرالية السلطوية

نظرًا لهذا السياق السياسي الإقليمي فرض التدهور الاقتصادي العالمي في مطلع السبعينيات ضغوطًا كبيرة على استراتيجيات التنمية الدولتية التي انتهجتها دول عربية عدة. ضرب الكساد العالمي الصادرات غير النفطية في كثير من الدول العربية، بينما ارتفعت أسعار واردات الغذاء والطاقة. فضلًا عن المذكور فرضت الميزانيات العسكرية الكبيرة، المرتبطة بالنزاعات الجارية في المنطقة -لا سيما حربي 1967 و1973 مع إسرائيل- ضغطًا كبيرًا على ميزانيات الحكومات. وبعد الصعود الحاد في أسعار الفائدة الأمريكية بدءًا من عام 1979 (ما عُرف بصدمة «فولكار») اجتاحت أزمة ديون عميقة دولًا عربية أساسية، منها مصر والمغرب وتونس والأردن.

تحت وطأة أزمة الديون هذه سعت حكومات عربية عديدة إلى الحصول على الدعم المالي من المؤسسات المالية العالمية، نظير توقيع اتفاقيات إعادة الهيكلة (أو برامج التعديل الهيكلي) التي ألزمتها بإعادة توجيه الأولويات الاقتصادية. كان المغرب أول الدول التي وقعت على اتفاقية إعادة هيكلة عام 1983، وسرعان ما تم تبني برامج إصلاح اقتصادي مماثلة في تونس (1986) والأردن (1989) ومصر (1991) والجزائر (1994) واليمن (1995). سعت هذه الاتفاقيات إلى تقوية القطاع الخاص وإنجاز اندماج أقوى بالسوق العالمية. على أثرها، سوف يصبح القطاع الخاص -على حد تعبير البنك الدولي لاحقًا- «المُحرك للنمو القوي والمستدام»، وهو مطلب أساسي «في الاقتصاد العالمي الجديد» وفيه «تذهب الجوائز… للبيئات الأكثر ترحيبًا [بالاستثمار الرأسمالي]».

منذ الثمانينيات اتبعت السياسات الاقتصادية للدول العربية تلك الوصفات، مثل دول كثيرة في شتى أرجاء العالم. ومع انحصارها في حلقة مفرغة من الديون واضطرارها للخضوع لاشتراطات باقات القروض متعددة الأطراف، اعتنقت الحكومات العربية أولويات سياسات التنمية المستندة إلى آليات السوق: الخصخصة وإعلاء أولوية نمو القطاع الخاص، ونزع ضوابط أسواق العمل والأسواق المالية، وخفض الضرائب على الشركات وإرخاء عقبات التجارة والاستثمار الأجنبي، والخصم من الإنفاق العام، بما يشمل الدعم الموجه للغذاء والطاقة. عانت هذه السياسات الجديدة من الرفض الشعبي وقوبلت بالإضرابات والمظاهرات والمصادمات العنيفة بين المواطنين وقوات الأمن. وثقت دراسة 25 احتجاجًا كبيرًا بين عامي 1977 و1992 ضد إعادة الهيكلة في تسع دول في المنطقة: الجزائر، لبنان، الأردن، مصر، المغرب، إيران، السودان، تونس، تركيا.[5]

في مواجهة هذه المعارضة العارمة للتغيير الاقتصادي راحت الدول العربية تعتمد أكثر فأكثر على السلطوية إبّان الثمانينيات والتسعينيات. الحق أن العديد من النُظم التي خُلِعَت في عام 2011 جاءت للسلطة في تلك الفترة وقادت الانعطافة نحو نماذج التنمية النيوليبرالية. فعلى سبيل المثال، تلا انقلاب بن علي في تونس عام 1987، التحوّل  الحاسم للبلاد نحو إعادة الهيكلة بقيادة المؤسسات المالية الدولية. وبالمثل، رسّخ مبارك، الذي أصبح رئيسًا عام 1981 إثر اغتيال أنور السادات، نظامًا قمعيًا اشتمل على تجميد العمل بالدستور وفرض قانون الطوارئ وتقييد حرية الصحافة وممارسة الاحتجاز للأفراد دون تهمة، وإنشاء محاكم عسكرية لمحاكمة الخصوم السياسيين. عام 1991 وافق مبارك على برنامج إعادة هيكلة اقتصادية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدوليين، ثم وضع قوات الأمن في مواجهة الإضرابات العمالية الناتجة عن الاتفاقية والمظاهرات الشعبية التي وقعت على امتداد التسعينيات. بالمثل، أمسَت الحكومات في الأردن والمغرب والجزائر  أكثر سلطوية في تلك الفترة. وكانت الحكومات الغربية والمؤسسات المالية العالمية داعمة قطعًا لهذه الحكومات، إذ رأت ممارساتها القمعية ضرورة لتقويض انتشار السخط الاجتماعي المحيط بالتدابير النيوليبرالية الجديدة.

أدت هذه التدابير الاقتصادية إلى الانتكاس عن سياسات سابقة اعتنقتها الحكومات القومية العربية بين الخمسينيات والسبعينيات. المؤشر على ذلك  هو خصخصة واسعة النطاق لمؤسسات مملوكة للدول خلال تلك الفترة. طبقًا لأرقام البنك الدولي، بلغ إجمالي عوائد الخصخصة في كل من مصر والمغرب وتونس والجزائر والأردن ولبنان واليمن، أكثر بقليل من ثمانية مليارات دولار، بين عامي 1988 و1999، مع مجيئ أكثر من نصف هذا المبلغ من بيع الشركات الحكومية في مصر وحدها (4.172 مليار دولار).[6]

على مدار العقد التالي، تعاظم مستوى الخصخصة كثيرًا، إذ تجاوزت العوائد الإجمالية للفترة بين عامي 2000-2008 سبعة وعشرين مليار دولار. شهدت هذه الفترة اللاحقة إقبال مزيد من دول المنطقة على بيع الأصول، فضلًا عن التحول عن خصخصة المؤسسات الصناعية والتجارية نحو خصخصة قطاعي الاتصالات والمؤسسات المالية. رغم زيادة عدد الدول المشاركة في الخصخصة استمرت مصر في كونها صاحبة أكبر عدد من صفقات البيع وأعلى قيمة مُباعة (15.7 مليار دولار بين عامي 1988 و2008).

أولوية رئيسية أخرى لبرامج إعادة الهيكلة في المنطقة كانت رفع ضوابط أسواق العمل من خلال تقليل (أو إلغاء) الحد الأدنى للأجور ومكافآت نهاية الخدمة وتخفيف الضوابط القانونية الخاصة باستخدام العاملين ورفتهم من العمل.[7] حثّ البنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية الأخرى الحكومات العربية على تنفيذ «إجراءات تعيين وفصل من العمل أكثر مرونة» بصفتها وسيلةً لتخفيف «الدور المهيمن للحكومة بصفتها صاحب عمل»، وعلى هذا المنوال، يمكن تقليل تكاليف العمل بشكل مُطلق. من حيث الممارسة، لن تكون الشركات التي اُختيرت للخصخصة تنافسية بالقدر الكافي من حيث ظروف العمل الأفضل في القطاع العام، ومن ثم تصبح أكثر جاذبية للمستثمرين المحتملين. وعلى مدار عقد الألفية، مررت كلٌ من مصر والأردن والمغرب وتونس القوانين لرفع ضوابط سوق العمل.

وكان مناط تركيز آخر لسياسات المؤسسات المالية الدولية في المنطقة أثناء تلك الفترة تحرير القطاع الزراعي. هنا، هدفت السياسات إلى تطوير نماذج تصنيع وتجارة زراعية (أجري-بيزنس) جديدة تزيد ربط الإنتاج بالأسواق العالمية. إلى جانب قوانين سلّعت الأرض وفككت حقوق الملكية الجماعية، طُبقت إجراءات أخرى حررت أسعار المُدخَلات الإنتاجية الزراعية (مثل الأسمدة والمبيدات والمياه) وسَعَت إلى دمج الفلاحين في سلاسل إنتاج السلع الزراعية. ولقد وُثقت الحالة المصرية جيدًا. عام 1992 أصدر مبارك القانون رقم 96 الذي سمح لمُلّاك الأراضي ببيع الأرض بدون إخطار مستأجريها أو التفاوض معهم، مع رفع السقف الموضوع على إيجارات الأراضي الزراعية منذ فترة طويلة.[8] نتيجة لهذا القانون ارتفعت أسعار الإيجار بواقع 300 إلى 400 بالمئة في بعض المناطق، وفقد أكثر من ثُلث العائلات المستأجِرة للأراضي الزراعية في مصر (نحو مليون أسرة) حقهم في الأرض. دعم صندوق النقد والبنك الدوليين قانون 96 بحماس لاندارجه ضمن سياسة عامة تهدف إلى ترسيخ الملكية الخاصة في الزراعة. وأشادت دراسة (بتمويل من هيئة المعونة الأمريكية في مصر) بالحكومة المصرية مع إصدارها للقانون، وقد رأت أنه يمحي آثار «أكثر من 40 عامًا من اختلال العلاقة بين المالك والمستأجر».

عُزز المنطق الحاكم لهذه السياسات وغيرها بموجب الاتفاقيات التجارية والمالية الدولية التي وُقعت على مدار التسعينيات وعقد الألفية. من المهم هنا ذكر اتفاقيات الشراكة المُوقعة بين الاتحاد الأوروبي، ضمن الشراكة الأورومتوسطية (التي أصبحت لاحقًا معروفة بمسمّى سياسة الجوار الأوروبي). بين عامي 1995 و1997 وقّع الأردن والمغرب وتونس اتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وتَلَتهم مصر عام 2004. وعدت هذه الاتفاقات بالمساعدة المالية وزيادة النصيب من الأسواق الأوروبية -أهم شريك تجاري للمنطقة- مقابل تعميق الإصلاحات النيوليبرالية. على امتداد الاتفاقيات الثنائية المماثلة مع الولايات المتحدة، وعبر الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، شكّلت هذه الاتفاقيات الدولية قوة محركة كبيرة وراء تقليل العوائق التي تعترض حرية التجارة، وفتحت قطاعات جديدة أمام تملك الأجانب، ومنها القطاع المالي والاتصالات والنقل والطاقة.

كما ارتبطت هذه الاتفاقيات الاقتصادية مباشرةً بتكثيف التدخلات الغربية العسكرية والسياسية في المنطقة على مدار التسعينيات وعقد الألفية. المثال الأبرز هنا هو عقد من العقوبات المفروضة على العراق منذ التسعينيات، وبلغت هذه العملية  أشُدَّها في الغزو، بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا عام 2003، الذي أسقط الرئيس العراقي، صدام حسين، وأدى إلى سلسلة مدمرة من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية لم تخرج منها البلاد حتى الآن. وفي الوقت نفسه، سعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تطبيع وجود إسرائيل في المنطقة، فدعمت على مدار التسعينيات ما يُسمى خطأً بمسار السلام، وما أنتجه كاتفاقية أوسلو، وساقت عدّة مبادرات إقليمية كانت تهدف إلى تعميق صلات إسرائيل بكلٍ من الأردن ومصر ودول الخليج. وعلى صلةٍ بحرب العراق والمفاوضات الإسرائيلية-العربية، حملت الأهداف الاستراتيجية الأمريكية جانبًا اقتصاديًا صريحًا (قلّما يُلتَفَت إليه) سعى إلى تعميق اندماج المنطقة بالتجارة العالمية والتدفقات المالية العالمية. يجب أن ننظر إلى  الحرب والسياسة والتحولات الاقتصادية في المنطقة على ضوء ما بينها من ارتباط وثيق.

بالطبع لم تندمج جميع دول الشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي ودائرة النفوذ الغربية بنفس الدرجة. على امتداد الثمانينيات والتسعينيات ظلت دول مثل ليبيا وسوريا إلى حد بعيد خارج دائرة النفوذ الأمريكية، وسعت بدلًا من ذلك إلى بناء علاقات مع قوى أخرى مثل الاتحاد السوفيتي (حتى مطلع التسعينيات) ثم روسيا والصين. وُجهت كل من هاتين الدولتين من قِبَل نظام مركزي سلطوي محكَم : نظام القذافي في ليبيا وعائلة الأسد في سوريا، حيث كانت سلطة الدولة تستند إلى بُنى رعاية أبوية مُركَّزة، وفي حالة سوريا تم اللجوء إلى الزرع المتعمد لأنماط الحكم الطائفية. وبسبب طريقة سيطرة الدولة وارتكاز سلطة النظامين عليها، وبسبب عزلتهما النسبية عن الأسواق الغربية، لم تشهد ليبيا وسوريا اعتماد برامج إعادة الهيكلة بقيادة المؤسسات المالية الدولية في الثمانينيات بنفس طريقة إقبال الدول العربية الأخرى عليها. لكن وفي أعقاب انحدار الداعمين الدوليين التقليديين في التسعينيات ومطلع الألفية، بدأت كل من سوريا وليبيا تسعى للتقارب مع الغرب. لم يكن هذا تكتيكًا سياسيًا فحسب إنما اشتمل أيضًا على الانفتاح على الأسواق العالمية وعلى خطوات أولى نحو التحرير الاقتصادي.

في حالة ليبيا، منح القذافي دعمه القوي للعدوان الأمريكي على أفغانستان عام 2001، ثم شارك في رحلات إعادة المشتبهين لصالح المخابرات المركزية الأمريكية وبرامج التعذيب التي أدارتها. عام 2003، بعد رفع عقوبات الأمم المتحدة المفروضة على ليبيا منذ عام 1992 بدأت شخصيات مهمة في النظام بالضغط من أجل التحرير الاقتصادي، مع إصرار نجل القذافي، سيف الإسلام، -في كلمة ألقاها أمام منتدى الشباب الليبي عام 2008- على أن «كل شيء يجب أن يُخَصْخَص».[9] لكن لم يتجاوز الأمر خطو خطوات قليلة على استحياء في هذا الاتجاه، بسبب تركز السلطة الكبير في قبضة عائلة القذافي. رغم هذا، أشار صندوق النقد الدولي في 15 فبراير 2011 -قبل يومين من بداية الانتفاضة التي أدت إلى إسقاط النظام الليبي- إلى وجود «برنامج طموح لخصخصة المصارف وتطوير القطاع المالي الضئيل. خُصخِصت بعض البنوك جزئيًا، وتم تحرير أسعار الفائدة، وجاري تشجيع التنافس… وهناك جهود جارية لإعادة هيكلة وتحديث البنك المركزي الليبي بمساعدة من الصندوق».

وفي حالة سوريا، اتُّخذت خطوات هامة نحو الإصلاح الاقتصادي بعد صعود بشار الأسد إلى السلطة عام 2000 إثر وفاة والده حافظ الأسد. بدأ الأسد الشاب في خصخصة الاقتصاد السوري وفتحه أمام الاستثمار الأجنبي المباشر، ما أدى إلى سيطرة القطاع الخاص على قطاعات صناعية مهمة، مثل التعدين والكيماويات والنسيج. طبقًا لدراسة عن الاقتصاد السوري، بحلول عام 2007 أصبح القطاع الخاص يمثل نحو 60.5% من إجمالي الناتج المحلي، بعد أن كانت نسبته 52.3% عام 2000.[10] مثل دول أخرى في الشرق الأوسط أفادت الخصخصة مجموعة ضئيلة من دوائر الأعمال المُقربة من نظام الأسد، وأثْرَتْها عبر عقودٍ أبرمتها مع الدولة ومشروعات مشتركة مع المستثمرين الأجانب. مع تسارع عجلة الإصلاحات هذه بين عامي 2005 و2010 عرف باقي السوريين تدهورًا حادًا في ظروفهم المعيشية.

تؤكد حالتا سوريا وليبيا أن المحاور الأساسية للتنمية بقيادة السوق قد أصبحت مقبولة على نطاق واسع من قبل الدولة ونخب الطبقة الحاكمة على امتداد المنطقة في نهاية العقد الأول من الألفية. رغم أن سوريا وليبيا ربما تُمثّلان أحيانًا نماذج معارضة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط -وهي المعارضة التي كانت خطابية أكثر منها ملموسة- فإن نُظمها الحاكمة سعت إلى دخول السوق العالمي بناءً على برامج اقتصادية سارت بالتوازي مع تلك التي اعتُمدت في دول المنطقة الأخرى. فقد اتسمت بنفس التواشج بين الحكم السلطوي والقوة الاقتصادية، واعتنقت سياسات تُعبر عن محاولة لتعزيز مكانة من يحتلون قلب النظام السياسي.

اللامساواة الاجتماعية واستقطاب الثروة

على امتداد هذه المرحلة من التحول الاقتصادي انفتحت تصدّعات طويلة ومستمرة في مسألة مِلكية الثروة والسيطرة عليها وقدرة الاستفادة من الموارد والأسواق وممارسة السلطة السياسية. إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة على طول الخط وتصاعد الفقر والمستويات المرتفعة لنزع المِلكية في الأرياف، استفادت شريحة ضئيلة من سكان المنطقة بقدر كبير من هذه السياسات الاقتصادية الجديدة. مثلت الخصخصة وفرص السوق الجديدة ثمارًا دانية لمجموعات الأعمال والتجارة جيدة الصلات المشاركة في مجالات مثل التجارة والأموال والمضاربة في سوق العقارات. كما استفادت نخب الدولة والنخب العسكرية من سلطة اقتصادية كبيرة، فشيدت شبكة من العلاقات الغائمة للغاية مع مجموعات رأس المال الخاص.[11] استمرت أنماط اللامساواة هذه وترسخت عبر الحكم السلطوي وقمع الدولة. الحق أنه من المستحيل التفرقة بين البُنى السياسية الأوتوقراطية للغاية في المنطقة والسياسات (والنتائج) الخاصة بنماذج التنمية بقيادة السوق التي نُفذت منذ الثمانينيات.

يمكن أن نرى صورة واضحة من هذه الأنماط في إحصاءات الوظائف والتوظيف. قبل الانحدار الاقتصادي العالمي في عام 2008 كان متوسط معدلات البطالة الرسمية في كلٍ من مصر والأردن ولبنان والمغرب وسوريا وتونس أعلى من المرصود في مثيلاتها في أي منطقة في العالم. تضرر الشباب والنساء من البطالة أكثر من أية فئات أخرى، حيث كان نحو خُمس النساء العربيات ورُبع الشباب في المنطقة يعانون من البطالة. تُخفي هذه الأرقام وراءها تفاوتات إقليمية كبيرة: في المشرق العربي (مصر، الأردن، لبنان، العراق، سوريا، الضفة الغربية وقطاع غزة) عانت أكثر من 45% من مجمل الشابات من البطالة في عام 2011، بواقع أكثر من ضِعف نسبة الشباب من الذكور. كما كان الشرق الأوسط يحتل قاع معدلات المشاركة في سوق العمل على مستوى العالم، حيث كان أقل من نصف سكان المنطقة يشاركون في قوة العمل. نحو ثلث الشباب فقط و26% من النساء كانوا يعملون، أو يسعون للعمل. جاء هذا التهميش العميق للشباب والنساء مصحوبًا بتداعيات اجتماعية جذرية في البلدان التي سيطر فيها الرجال المُسنّون على السلطة السياسية.

كما اتسمت أسواق العمل في المنطقة بانتشار العمل غير الرسمي والعمل المؤقت دون عقود. عام 2009، أفاد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بأن نمو العمل غير الرسمي في مصر والمغرب وتونس كان من بين أسرع معدلات النمو المماثلة في العالم (بلغ بين 40 و50 بالمئة من جميع الأعمال غير الزراعية). في مصر انضم ثلاثة أرباع الوافدين الجدد إلى سوق العمل بين عامي 2000 و2005 إلى القطاع غير الرسمي، بعد أن كانت النسبة تبلغ الخُمس في مطلع السبعينيات.[12] لم يقتصر الأمر على تأثير هذه التوجهات على طبيعة العمل، بل حملت أيضًا تداعيات مهمة على كيفية استخدام الفضاء الحضري وأنواع التحركات الاجتماعية والسياسية التي خرجت في الشرق الأوسط، حيث يقطُن الناس أحياء عشوائية مزدحمة في مدن مثل القاهرة والدار البيضاء والجزائر العاصمة وبيروت، وقد نظرت الحكومات إلى هؤلاء الناس بقدر كبير من انعدام الثقة والريبة.

أسهمت هذه النتائج اللامتساوية للغاية في ما يخص العمل وسوق العمل في تدهور معدلات الفقر العامة في المنطقة. فتراوحت نسبة السكان دون سبل اكتساب الغذاء والمواد غير الغذائية الأساسية (الخط الأعلى للفقر) قرب نسبة الـ40% في الأردن والمغرب وسوريا وتونس وموريتانيا ولبنان ومصر واليمن في العقد السابق للانتفاضات.[13] عكست نتائج التعليم والصحة أيضًا عدم المساواة في الحصول على الخدمات العامة والدعم الاجتماعي من الدولة. بين عامي 2000 و2006 كان خُمس الأطفال تقريبًا في مصر والمغرب يعانون من التقزم نتيجة لسوء التغذية. وفي دول المشرق زادت مشكلة معاناة الأفراد من قلة الغذاء وارتفعت نسبتها من 6.4% عام 1991 إلى 10.3% في عام 2011. في 2010، عشية الانتفاضات، كانت نسبة الأُميين من البالغين عبر المنطقة تبلغ حد 30%، وهي نسبة هائلة (وتبلغ 40% للإناث من سن 15 سنة فأكبر). كذلك اعترت عملية تحصيل التعليم أوجه لامساواة واضحة. في مصر على سبيل المثال أشارت اليونسكو إلى أن «واحدًا من كل أفقر خمسة [أطفال] لا يصل إلى المدرسة الابتدائية بالمرة، في حين أن جميع الأطفال الأثرياء يصلون إلى التعليم الثانوي».

على أنه من الضروري توضيح أنه إلى جانب هذا التدهور العام في الظروف الاجتماعية خلال التسعينيات وعقد الألفية، استفادت اقتصادات قائدة عدة في المنطقة من معدلات نمو عالية جدًا، وأُشيد بها بصفتها نماذج ناجحة في الإصلاح الاقتصادي تستحق الذكر ضمن نجاحات الجنوب العالمي. صنف البنك الدولي مصر -على سبيل المثال- بصفتها «أكبر دولة مُصلحة في العالم» في تقرير «أداء الأعمال 2008» الصادر عن البنك، وحافظت على تصنيفها ضمن أعلى عشرة مُصلحين في العالم حتى خلع مبارك. بالمثل، أشاد «استعراض سياسات التنمية» الصادر عن البنك الدولي عام 2010 بتونس لأنها «أحرزت إصلاحات هيكلية ثابتة وقدمت إدارة جيدة للاقتصاد الكلي» ما أربح تونس مكانًا «وسط أفضل المؤدين في مجموعة الاقتصادات الصاعدة» وأثمر «إنجازات تستحق الحسد والغبطة» استفاد منها فقراء تونس. هذا النوع من الدعم للحكومات السلطوية مستمر في وسم سياسات المؤسسات المالية الدولية في أغلب أرجاء الشرق الأوسط حاليًا (كما هو الحال بخصوص نظام السيسي في مصر)، وهي حقيقة يجدر تذكّرها  على ضوء محاولات هذه المؤسسات إعادةَ كتابة سجلاتها التاريخية في المنطقة.

الترتيب الإقليمي وأزمة 2008 العالمية

لم يقتصر أثر السياسات الاقتصادية التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية  على الشرق الأوسط خلال التسعينيات وعقد الألفية على إعادة تشكيل البُنى الاجتماعية على الصعيد الوطني، فقد أدت أيضًا إلى ظهور تراتبيات اقتصادية وسياسية جديدة على المستوى الإقليمي. وكانت سمة أساسية لهذه التراتبيات تصاعد ثقل ومكانة دول الخليج الست: السعودية، الإمارات، قطر، الكويت، البحرين، عمان، في الاقتصاد السياسي الإقليمي، وكذلك الربط بين تراكم رأس المال في الخليج وعمليات تكوين الطبقة والدولة في سائر أنحاء المنطقة الأخرى.

في المُجمل، تتسم دول الخليج العربي بما يميزها عن باقي المنطقة. جميع هذه الدول مَلَكية، وجعلت مواردها من المحروقات الغزيرة والرخيصة نسبيًا (سواء النفط أو الغاز الطبيعي) الخليج مناط تركيز أساسي للاستراتيجية الغربية في الشرق الأوسط على مدار القرن العشرين. في الوقت نفسه تختلف البُنى الاجتماعية للنظم الملكية الخليجية عن مثيلاتها في أنحاء المنطقة الأخرى للغاية. أبرز اختلافاتها هو اعتماد الخليج على عدد كبير من العمال الوافدين المؤقتين، جاء أغلبهم من جنوب آسيا وبدرجة أقل من دول الجوار العربية، ويشكلون الآن أكثر من نصف إجمالي سكان الخليج العربي البالغ تعدادهم 56 مليون نسمة. عند النظر إلى هؤلاء بصفتهم نسبة في قوة العمل، نرى أن غير المواطنين يشكلون نسبة تتراوح بين 59 و86 بالمئة من السكان العاملين في كل من السعودية وعمان والبحرين والكويت، وتتراوح النسبة بين 92-95 بالمئة في قطر والإمارات. مع حرمانهم من حقوقهم السياسية والمدنية، كان هؤلاء العمال المهاجرين محوريين في أنماط نمو مناطق الحضر وتراكم رأس المال في الخليج، وهم أيضًا محوريون في «التقسيم الرأسي» للمجتمعات الخليجية، حيث ضُم المواطن إلى أعمال مراقبة السكان المهاجرين والسيطرة عليهم عن طريق نظام الكفيل.[14]

على مدار العقود القليلة الماضية، أدى تنامي الطلب الدولي على محروقات الخليج -ووراءه زيادة مطردة ومستمرة في أسعار النفط بين عام 2000 وأواسط عام 2014- إلى زيادة هائلة في معدلات الثروة الخليجية.[15] ساعد هذا في تعزيز تطور تجمعات رأسمالية كبيرة في الخليج هي وثيقة الصلة بالنظم الملكية الحاكمة وبالدولة، وتنتشر أنشطتها عبر قطاعات مثل الإنشاءات والتنمية العقارية والتصنيع (لا سيما الحديد الصلب والألومنيوم والإسمنت) وتجارة التجزئة (وتشمل تجارة الواردات وتملك مراكز تجارية و«مولات») والقطاع المالي.

في حين استُثمرَ كثيرًا من فائض رأس المال الخليجي في أمريكا الشمالية وأوروبا، تدفقت مبالغ كبيرة أيضًا إلى دول الجوار العربية على مدار عقد الألفية.[16] من المهم هنا ذكر أن هذا التوسع الإقليمي لرأس المال  الخليجي مر عبر اتفاقيات إعادة الهيكلة المذكورة أعلاه وعمليات التحرير الاقتصادي التي تلت تلك الاتفاقيات والانفتاح على الاستثمار الأجنبي المباشر على امتداد دول عربية عدة في التسعينيات وعقد الألفية. لذا كان رأس المال الخليجي مستفيدًا أساسيًا من الانعطافة النيوليبرالية على امتداد المنطقة، وأصبح يشارك بقوة في تملك وإدارة رأس المال عبر الشرق الأوسط بشكل كلي.

هذه التراتبيات الإقليمية  ضرورية لفهم تداعيات أزمة 2008-2009 الاقتصادية العالمية على الشرق الأوسط. كما أوضحنا، في السنوات السابقة لتلك الأزمة كانت المنطقة تعاني بالفعل من معدلات عالية للغاية من اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية. إضافة إلى مشكلة البطالة لدى الشباب، فإن الإقصاء الاجتماعي والفقر وتصاعد تكاليف الغذاء والطاقة، ظواهر مارست ضغوطًا كبرى على حياة ومعاش عائلات كثيرة.[17] وعنى ارتفاع تكلفة الواردات صعوبات جمة تواجهها الحكومات العربية للحفاظ على مستويات الدعم التي قلصت بالفعل، وفي الوقت نفسه ارتفعت تكاليف المعيشة للأسر الأفقر. صاحب ذلك قفزة كبيرة في عدد فقراء المنطقة، وفي ورقة إحاطة يُقدر بنك التنمية الإفريقي سقوط 1.11 مليون شخص إضافي تحت خط الفقر في مصر والأردن وفلسطين وسوريا واليمن، قبيل الأزمة المالية العالمية 2008 مباشرةً.

مع تطور أحداث أزمة 2008 و2009 العالمية أثرت أنماط النمو الاقتصادي القائمة بالفعل على تعاطي مختلف أجزاء المنطقة مع الاضطرابات العالمية الجديدة. تضررت  الدول غير المصدرة للنفط للغاية بسبب تراجع الطلب العالمي على سلع مثل المنتجات الزراعية والمنسوجات ومواد مصنعة أخرى. في الوقت نفسه تراجعت تحويلات المواطنين من الخارج مع انتقال الأزمة إلى قطاعات الزراعة والإنشاءات والصناعة الخفيفة في أوروبا، حيث يعمل مهاجرون عرب عدة (موثقين وغير موثقين). وأخيرًا، عرَّض التحرير المالي على مدار الحقبة النيوليبرالية دولًا عدة لاضطرابات محتملة في تدفقات رأس المال الأجنبي إليها، لا سيما في قطاع السياحة والاستثمار الأجنبي المباشر. لكن في الخليج مرت الأزمة بشكل مختلف. في البداية، حدث التراجع السريع وقصير الأجل في أسعار النفط في الفترة من يوليو إلى ديسمبر 2008، مقترنًا بتراجع الطلب العالمي على النفط وكذلك تراجع في التدفقات الرأسمالية الأجنبية التي أدت إلى انهيار الفقاعات العقارية الخليجية (لا سيما في دُبي). لكن، في المقابل استفاد الخليج من الفوائض المالية المتراكمة في دعم التجمعات الكبيرة في القطاع الخاص والتابعة للدولة التي هددتها الأزمة، وأطلق برامج كبرى للإنفاق على العقارات ومشاريع  البنية التحتية (تركزت في السعودية والإمارات). كما تمكن ملوك الخليج من استخدام اعتمادهم الهيكلي على المهاجرين الوافدين المؤقتين في نقل عبء الأزمة إلى الدول المجاورة، إذ أُبطِئ استخدام العمال الجُدد، وكان من السهل إعادة العمال المعينين إلى بلادهم مع إلغاء المشاريع. بحلول عام 2010 بدأت أسعار النفط تعاود الارتفاع مرة أخرى، ما أدى إلى تثبيت أقدام الخليج وهو في طريقه إلى الخروج من الأزمة العالمية.

في المجمل، تعني هذه التوجهات والمآلات الإقليمية المختلفة والناتجة عن الأزمة العالمية تمكن دول الخليج من البروز والصعود في صورة موقف إقليمي مُعزز على مدار السنوات التي تلت 2008، في حين واجهت دول الجوار العربي الأخرى تحديات وأعباءً مالية واجتماعية متصاعدة. في هذا السياق خرجت المظاهرات الجماهيرية لأول مرة في تونس في ديسمبر 2010، ثم انتشرت سريعًا عبر المنطقة بالكامل. شهدت أول مرحلة لهذه المظاهرات عام 2011 سقوط بن علي في تونس ومبارك في مصر. وواجهت الحكومات في كل من سوريا والبحرين والأردن والجزائر وعُمان والمغرب واليمن وليبيا انتفاضات ومظاهرات تعبر عن معارضة أنماط الحكم المستبد وتدهور الظروف الاجتماعية الاقتصادية التي يعاني منها أغلب السكان. من هذا المنطلق، استهدفت الانتفاضات السياسات الاقتصادية التي روجت لها مؤسسات الغرب المالية بقوة على مدار العقود السابقة، كما استهدفت البنى السياسية المقترنة بهذه السياسات. بالطبع لم يفكر جميع المشاركين في الانتفاضات بهذه الطريقة في ما يخص خروجهم للتظاهر، لكن شعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» يوضح بجلاء هذا الارتباط العميق بين المجالين الاقتصادي والسياسي.

الختام

رغم مطامح أولئك الذين خاضوا نضالات استثنائية في عام 2011 لم يتبدل الاستقطاب الهائل في الثروة والسلطة عبر المنطقة. أظهرت دراسة حديثة أن الشرق الأوسط الآن هو أكثر المناطق معاناةً من انعدام المساواة في العالم، حيث يسيطر أغنى 10% من السكان على 64% من إجمالي الدخل، مقارنةً بـ37% في غرب أوروبا و47% في الولايات المتحدة و55% في البرازيل.[18] وتتبشع الأرقام بخصوص أكثر السكان ثراءً في المنطقة: يبلغ الدخل الذي يتحصّل عليه أثرى واحد بالمئة 30% من إجمالي الدخل في الشرق الأوسط، مقارنةً بـ12% في غرب أوروبا و20% في الولايات المتحدة و28% في البرازيل و18% في أمريكا الجنوبية و14% في الصين و21% في الهند.[19] نجد هذه المعدلات غير المسبوقة من اللامساواة على المستوى الإقليمي بين الدول الأكثر ثراء في الخليج وباقي الشرق الأوسط، وكذلك فيما بين الدول فرادى.

ترتبط هذه المعدلات العالية من اللامساواة مباشرةً بنماذج التنمية المستندة إلى السوق أثناء العقود الأخيرة، التي ظلت على حالها لم تتغير بعد الانتفاضات، وتستمر المؤسسات المالية الدولية في تعزيزها. ظهرت هذه الاستمرارية بوضوح في شراكة «دوفيل» بقيادة المؤسسات المالية الدولية، وهي مبادرة أُطلقت في مايو 2011 في قمة الثماني في فرنسا، ووعدت بتقديم 40 مليار دولار قروض ومساعدات أخرى للدول العربية «التي تمر بمراحل انتقالية». كان المحور الأساسي للشراكة جهودًا متضافرة نحو فتح الأسواق في خمس دول مستهدَفة: مصر وتونس والأردن والمغرب وليبيا. وتتمثل الأهداف في «إبعاد المعوقات الهيكلية القائمة» وتشجيع «الشراكة القوية مع القطاع الخاص» بصفته «المحرك الأساسي لخلق الوظائف» والسعي وراء «الدمج بالاقتصادين الإقليمي والعالمي بصفته أساسًا للتنمية الاقتصادية». على هذا المنوال، وفي تذكير قوي بفتح أزمات السبعينيات والثمانينيات السياسية والاقتصادية المسار أمام الهيكلة في المنطقة، نُظِر إلى أزمات ما بعد عام 2011 باعتبارها فرصة لتمديد المسارات السياساتية للنظم السابقة. وكما أوضح بنك الاستثمار الأوروبي بُعَيد خلع بن علي ومبارك، فإن «لحظات التغيير السياسي يمكن أن تقدم أيضًا فرصة لتعزيز أو تحسين الأطر المؤسسية القائمة».

بدعم من مبادرات مثل شراكة «دوفيل» انتقلت المؤسسات المالية الدولية منذ عام 2011 إلى ترسيخ موقفها في المنطقة، مع تقديم عروض باتفاقات قروض جديدة وأشكال أخرى من المساعدات. وقادت المؤسسات الراسخة مثل البنك وصندوق النقد الدوليين هذه العملية، في حين تعاونت مع مؤسسات أخرى بدأت للتو بالعمل في المنطقة خلال العقد الأخير (مثل البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية). كما تتسم المناقشات الدائرة حول إعادة الإعمار بعد النزاعات في دول مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق بالمنطق نفسه الذي يحركه السوق، كما يُظهر لنا التاريخ بوضوح: في أعقاب الحروب والنزاعات والأزمات (بما يشمل الجائحة العالمية الحالية مثلًا) تصبح الفرص سانحة لإعادة تنظيم ترتيبات السلطة وتسريع عجلة التغيير الاقتصادي.

بعد عشر سنوات تُظهر تجربة انتفاضات 2011 أن التركيز على المطالب السياسية وحدها لا يكفي (مثل مطالب إجراء انتخابات جديدة أو التركيز على الفساد الحكومي) في غياب التصدي المتزامن للقوى الاجتماعية والاقتصادية لرأس المال (وطنيًا وإقليميًا وعالميًا). لا يمكن إحداث قطيعة واضحة وأساسية مع بُنى الدولة السلطوية في ظل استمرار نظام اقتصادي ماضٍ في تعزيز النمو المختل وما يسمى بـ«الأسواق الحرة» على حساب العدالة الاجتماعية والمساواة. ومن مواطن الضعف الكبرى لثورات 2011، الإخفاق في فهم هذا الدرس الاستراتيجي. لكن يبدو أن الدورات اللاحقة من الاحتجاج السياسي -بما يشمل انتفاضات 2018-2021 في لبنان والسودان والجزائر والمغرب والعراق- تعلمت من تجارب 2011، وربطت بوضوح بين تحدي النخب السياسية المستبدة والحاجة إلى عكس مسار التفاوتات الكبيرة في المقدرات الاقتصادية وتوزيع الثروة. من هذا المنطلق، في حين لم تتحقق بعد مطامح 2011، سوف تشكل الدروس والتجارب والآمال التي حملتها تلك اللحظة جزءًا لا يتجزأ من النضالات المقبلة في المستقبل.

نبذة عن الكاتب/ة

آدم هنية أستاذ في العلوم السياسية والتنمية الاقتصادية في مؤسسة الدراسات العربية والإسلامية في جامعة إكسيتر. تركز أبحاثه الراهنة على الاقتصاد السياسي العالمي والتنمية في الشرق الأوسط والنفط والرأسمالية. ألّف ثلاثة كتب، أحدثها «المال والأسواق والأنظمة المَلَكية: مجلس التعاون الخليجي والاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط المعاصر» (دار نشر جامعة كامبريدج، 2018)، وقد حاز على جائزة الكتاب – رابطة الدراسات البريطانية الدولية، من طرف مجموعة الاقتصاد السياسي الدولي (IPEG) عام 2019.

تشكّرات

ترجمة من الانجليزية: عمرو خيري

مراجعة وتدقيق: ياسمين حاج وغسان بن خليفة

صور بيانية: فرات شهال الركابي

تمّ دعم هذه النشرية من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ من خلال الدعم المقدم لها من وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية للجمهورية الاتحادية الألمانية . يمكن الاقتباس من هذه النشرية أو أي جزء منها مجانا طالما تتم الاشارة إلى النشرية الأصلية.

محتوى هذه النشرية هو المسؤولية الحصرية للمؤلف ولا يعكس مواقف مؤسسة روزا لوكسمبورغ

[1]  يعتمد هذا المقال على كتاب آدم هنية الصادر عام 2013 وتُرجم إلى العربية في عام 2019 تحت عنوان: «جذور الغضب: حاضر الرأسمالية في الشرق الأوسط». القاهرة: صفصافة للنشر. الطبعة الإنجليزية:

Hanieh, A. (2013) Lineages of Revolt: Issues of contemporary capitalism in the Middle East. Chicago: Haymarket Books.

[2]  انظر-ي:

Schlumberger, O. (2007) Debating Arab Authoritarianism: Dynamics and durability in nondemocratic regimes. Palo Alto, CA: Stanford University Press. p. 5.

[3]  انظر-ي:

Hanieh, A. (2021) ‘Class, Nation, and Socialism’, International Politics Reviews 9: 50–60. Available at: https://link.springer.com/article/10.1057/s41312-021-00104-2

[تم الاطلاع في 26 يوليو 2021].

[4]  ورد في:

Stork, J. (1975) ‘US Strategy in the Gulf’, MERIP Reports 36: 19.

[5]  انظر-ي:

Walton, J.K. and Seddon, D. (1994) Free Markets and Food Riots: The politics of global adjustment. Wiley-Blackwell. p. 171.

[6]  للمزيد عن الأرقام الواردة في هذه الفقرة انظر-ي: آدم هنية. (٢٠١٣) «جذور الثورة»، الجدول 3.1 في الفصل الثالث.

[7]  المصدر السابق.

[8]  انظر-ي:

Bush, R. (ed.). (2002) Counter-Revolution in Egypt’s Countryside: Land and farmers in the era of economic reform. London: Zed Books.

[9]  انظر-ي:

Prashad, V. Arab Spring, Libyan Winter. Oakland, Baltimore, Edinburgh: AK Press Publishing and Distribution. p. 111.

[10] انظر-ي:

Haddad, B. (2011) ‘The Political Economy of Syria: Realities and challenges’, Middle East Policy 18(2): 53.

[11]  بخصوص الصلات العسكرية-الاقتصادية في مصر انظر-ي:

Marshall, S. and Stacher, J. (2012) ‘Egypt’s generals and transnational capital’, Middle East Report 262(Spring); and Abul-Magd, Z. (2011) ‘The Army and the Economy in Egypt’, Jadaliyya, 23 December 2011.

[12]  انظر-ي:

Wahba, J. (2010) ‘Labour Markets Performance and Migration Flows in Egypt’, in Labour Markets Performance and Migration Flows in Arab Mediterranean Countries: Determinants and Effects, European Commission Occasional Paper 60, Vol. 3. Brussels: European Commission. p. 34.

[13] انظر-ي:

Achcar, G. (2013). The People Want. London: Saqi Books. p. 31.

[14]  انظر-ي:

Khalaf, A. (2014) ‘The Politics of Migration’, in A. Khalaf et al. (eds.) Transit States: Labour, migration and citizenship in the Gulf. London: Pluto Press. pp. 39–56.

[15]  انظر-ي:

Hanieh, A. (2018) Money, Markets, and Monarchies: The Gulf Cooperation Council and the political economy of the contemporary Middle East. Cambridge: Cambridge University Press. p. 31.

[16]  أرقام شاع ذكرها خلال الألفينيات: ذهبت نسبة نحو 50 إلى 55% من جميع استثمارات مجلس التعاون الخليجي إلى الأسواق الأمريكية و20% إلى أوروبا و10 إلى 15% إلى آسيا و10 إلى 15% إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

[17]  من يوليو 2007 إلى يوليو 2009 ارتفع مؤشر أسعار الأغذية الاستهلاكية 53% في تونس و47% في مصر و42% في سوريا و22% في المغرب و20% في الأردن.

[18]  انظر-ي:

Alvaredo, F., Assouad, L. and Picketty, T. (2018) ‘Measuring inequality in the Middle East 1990–2016: The world’s most unequal region?’, The Review of Income and Wealth (online). Available at: https://onlinelibrary.wiley.com/doi/full/10.1111/roiw.12385

[تم الاطلاع في 26 يوليو/تموز 2021].

[19]  السابق.