27 أكتوبر \ تشرين الأول 2021
يتمعّن هذا المقال في الانتفاضة الجزائريّة بين عامي 2019 و2021 عبر عدسة أعمال وإرث فرانز فانون. كما يربط الانتفاضة في الجزائر بحركة «حياة السود مهمة» في الولايات المتّحدة ويتأمّل في الإضافات الكامنة في فكر فانون لتلك النّضالات وغيرها من أجل العدالة الاقتصادية والسياسية.
جاءت كتابات فانون (1925-1961) في حقبة تصفية الاستعمار في بلدان أفريقيا والجنوب العالمي إجمالًا. وفانون مارتينيكيُّ المولد جزائريُّ الاختيار يكتب من وجهة نظر الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وبصدد تجاربه السياسية في القارة الأفريقية. رغم عمره الوجيز (إذ مات في السادسة والثلاثين بسبب سرطان دم)، خلّف فانون فكرًا ثريًّا ووضع نصوصًا غزيرةً من كُتب ومقالات وخُطبٍ عديدة، فألّف كتابه الأول «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء»
[1] (1952) قبل عامين من معركة ديان بيان فو (1954)، وكَتب آخر أعماله، كتاب «معذبو الأرض»[2] (1961) ذائع الصيت، تلك الدراسة الرائدة في مجال النضال العالمثالثي والمناهض للاستعمار، قبل عامٍ من استقلال الجزائر، في لحظة إنجاز البلدان الأفريقية استقلالها. كان فانون مفكّرًا وثوريًا جذريًّا، كرّس نفسه جسدًا وروحًا للتحرّر الوطني الجزائري. لطالما تأثّرت أفكار فانون بالممارسة العملية وغيّرت الآخرين، فألهمت نضالاتِ القضاء على الاستعمار في العالم برمته، وكيَّفت النزعة الوحدوية الأفريقية وكان وقعها كبيرًا على حزب الفهود السود في الولايات المتحدة الأمريكية.
يكتب فانون في «معذّبو الأرض»: «لا بدّ لكل جيل أن يكتشف رسالته وسط الظلام، فإمّا أن يحققها أو أن يخونها»،[3] وتحدّي الاكتشاف وسط الظلام هذا ينتصب أمامنا من جديد في السنوات الأخيرة مع تفجّر التمردات والانتفاضات في كل ربوع العالم، منها الموجة الثانية من الانتفاضات العربية في لبنان والسودان والعراق، والجزائر التي تشهد ثورةً أخرى – بعد ستة عقودٍ من نشرِ تحفة فانون معذبو الأرض – إنّما ضدّ “برجوازيّاتها الوطنية” هذه المرة. ماذا عسى فانون أن يقول بصدد الثورة الجزائرية الجديدة؟ وكيف كان ليتصرف بوجه تطور الأحداث؟ ما الذي بوسعنا، نحن الشباب الجزائري، أن نتعلمه من تأملاته الفكرية وتجاربه؟ هذا المقال محاولة لتحليل الانتفاضة الجزائرية 2019-2021 من خلال نظرة فانونية، مع سعي لإبراز عبقرية فانون وراهنية تحليله والقيمة الحية لأفكاره النقدية والمنزلة المركزية لتفكيره المناهض للاستعمار ضمن جهود ثوريّي معذّبي الأرض.
فانون والجزائر بين الاستعمار والاستقلال
لكن قبل الخوض في الثورة الجزائرية بين عامي 2019-2021 لا بدّ من جولة تاريخية عبر حقبة الاستعمار وحتّى الاستقلال كي نُدرج فكر فانون في سياقه.
يمكن اختزال حقبة الاستعمار في عمليات نزع الملكية والتكديح والتوطين القسري، والاستغلال المحض والعنف الشرس الذي مارسته السلطة الاستعمارية الفرنسية.[4] أعلن الجزائريون حرب الاستقلال يوم 1 نوفمبر 1954، أعقبتها إحدى أطول حروب تصفية الاستعمار وأشدّها دموية، فقد شهدت انخراطًا جماهيريًّا من فقراء القرى والطبقات الشعبية الحضرية (البروليتاريا الرثة).[5] وتشير التقديرات الرسمية إلى استشهاد مليون ونصف المليون جزائري في حرب السنوات الثمانية المنتهية في عام 1962؛ حربٌ باتت أساس السياسة الجزائرية الحديثة.
تبيّن لفانون حال وصوله إلى مستشفى الأمراض النفسية في البليدة -حيث عالج الجلّادين الاستعماريين والضحايا الأصلانيين في عام 1953 – أنَ الاستعمار كان -في جوهره- مضخّةً كبيرةً إلى المستشفيات النفسية، فهو إنكارٌ منهجيٌّ للآخر ورفضٌ جامح لكل صفةٍ إنسانية فيه. وسيصف فانون لاحقًا بالتفصيل آليات العنف التي رسّخها الاستعمار ليُخضع الشعوب المقموعة.
ولم يستطع فانون وهو يعالج الجلّادين والضحايا الإفلاتَ من هذا العنف الشامل الذي حلّله، ما دفعه إلى الاستقالة في عام 1956 والانضمام إلى جبهة التحرير الوطني (ج.ت.و). نشط بعدها في النضال من أجل الحرية، فكتب المقالات في نُصرة النضال وسافر عبر القارة الأفريقية في مهام منسوبة إلى جبهة التحرير الوطني.
علّق فانون آمالًا كبيرة على الجزائر الثورية وآمن بها أشدَّ الإيمان. ويشهَد على ذلك كتابه المنير «العام الخامس للثورة الجزائرية» [6] الذي يتحدث فيه عن أنّ التحرر ليس هِبةً، بل تنتزعه الجماهير بأيديها، وإذ تناله تتغير هي ذاتها، وأكّدَ ببلاغةٍ أن أرقى أشكال الثقافة -أي التقدم – بالنسبة للجماهير هي مقاومة السيطرة والتغلغل الاستعماريَيْن، فالثورة بنظره سيرورةُ تغيير تخلق «أرواحًا جديدة». ولهذا السبب يختتم كتابه بهذه الكلمات: «الثورة العميقة الحقيقية متقدّمةٌ جدًّا،» تحديدًا لأنّها تُغيّر الإنسان وتُجدّد المجتمع، فهذا الأكسجين الذي يخلق إنسانيّةً جديدةً ويهيّئها، هو الثورة الجزائرية.[7]
لم يشهد فانون استقلال الجزائر، فلم يرَ تحرّر بلدِه المُتَبنّى من سيطرة الاستعمارٍ الفرنسيّ: توفّي قبل سنة من استقلال الجزائر يوم 5 يوليو/تموز 1962.
في السنوات التي أعقبت الانتصارعلى الاستعمار الفرنسي، مُنِيَت التجربة الثورية الجزائرية وسعيها للقطيعة مع النظام الإمبريالي الرأسمالي بالهزيمة في وجه القوى المضادة للثورة ومعها التناقضات الخاصة بالثورة نفسها. وقد زرعت فشلها منذ البداية وغذّته بالنخبوية التنظيمية والسلطوية والتبقرط المفرط، وذلك رغم بعض وظائف إعادة توزيع الثروة التي حسَّنت سبل عيش الناس تحسينًا كبيرًا. وكان غياب الديمقراطية هذا ملازمًا لصعود برجوازية كومبرادورية مناوئة للاشتراكية، ومعارضة بقوة لعمليات الإصلاح الزراعي الحقيقي.[8] وعلّ هذا الإخفاق المؤسف هو ما يحفظ القدرة التنبّؤية لمؤلفات فانون، لا سيما “مزالق الوعي القومي” الذي يهزُّ قارئه في كشفه إفلاس البرجوازيات الوطنية وعقمها المستمرّ حتى يومنا هذا، في جنوحها إلى تعويض القوة الاستعمارية بنظامٍ طبقيٍّ جديد يعيد إنتاج بُنى الاستغلال والاضطهاد الاستعمارية القديمة.
تخلّت هذه البرجواية الوطنية في الجزائر بداية من الثمانينيات على مشروع التنمية المستقلّة الذي طُرِح في الستينيات والسبعينيات، وأعلنت بداية عصرٍ من تفكيك التصنيع والإعتماد على السياسات المحفّزة للسوق، وذلك على حساب الشرائح الشعبية. وقدمت هذه البرجوازية تنازلًا تلو الآخر من أجل عمليات خصخصة عمياء ومشاريع من شأنها النيل من سيادة البلد وتهديد سكانه وبيئته، مثل استغلال الغاز الصخري والموارد البحرية.[9]
في الجزائر اليوم، تُستَخدم أموال النفط لشراء السلم الاجتماعي وتعزيز جهاز الدولة القمعي. وكتونس والمغرب ونيجيريا والسنغال وغانا والغابون وأنغولا وأفريقيا الجنوبية وغيرها، تخضع لأوامر الأدوات الجديدة للإمبريالية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لقد أوقعت الطبقات الحاكمة في الجزائر البلدَ في فخ نموذج تنمية استخراجيٍّ نهّاب تتراكم فيه الأرباح بين أيدي أقلية محلية وداعميها الأجانب مقابل حرمان أغلبية السكان.[10]
عقلانية التمرّد: الحراك والثورة الجزائرية الجديدة
يؤكد الواقع المؤسف الذي وصلت إليه الجزائر تحذيرات فانون من شراهة البرجوازيات الوطنية وانقسامها وحدود النزعة الوطنية التقليدية. بيْدَ أنّ فانون ينذرنا بأنّ اغتناء هذه الطبقة الانتهازية الشائن سيرافقه «إيقاظ حاسمٌ للشعب، ليتصور الشعب عندئذ أنه لا بدّ من غَدٍ عَنِيف يحمل إليه الفرج ويَعِدُه بالخير»،[11] وقد تجلّى مفهوم عقلانية التمرد والعصيان بِفعل الموجة الثانية من الانتفاضات العربية وغيرها من المظاهرات الجماهيرية في العالم في الأعوام 2018-2021، مع خروج الجماهير الشعبية إلى الشوارع ضد عنف الأنظمة السياسية التي لا تَهِبها إلّا مزيدًا من الفقر والتهميش والحرمان للسواد الأعظم.
في الجزائر، انطلقت الانتفاضة بإعلان الرئيس المخلوع بوتفليقة عزمه السعي إلى ولاية خامسة رغم عجزه وفقده القدرة على الكلام وغيابه عن الحياة العامة. فمنذ يوم الجمعة 22 فبراير 2019، انتفض ملايين الناس، شبابًا وشيوخًا، رجالًا ونساءً، من مختلف الطبقات الاجتماعية في تمرّدٍ بطوليٍّ. فخرجت مسيراتُ الجمعة التاريخية، تليها تظاهراتٌ في القطاعات المهنية، وحّدت الناس في رفضِ النظام الحاكم والمطالبة بالتغيير الديمقراطي الجذري، «يتنحّاو ڨاع!» (يجب أن يرحلوا جميعا!)، و«البلاد بلادنا ونديرو راينا» (البلد بلدنا وسنديره كما نَرى).
ما شهدته الجزائر في 2019-2021 هو حراكٌ تاريخيٌّ، وهو فريدٌ في حجمه الهائل، في سلميّته، في اشتماله على جنوب البلاد المهمّش ومشاركة النساء والشباب الكثيفة، وهما السواد الأعظم من سكان الجزائر. أكد الشعب خلالها أنّه سيّد مصيره، أو كما قال فانون: «لا تتجلى أطروحة أنّ البشر يغيّرون أنفسهم في ذات لحظة تغييرهم العالم بقدر ما تتجلّى في الجزائر. ولا يقف أثر هذه المواجهة عند إعادة الإنسان تشكيل وعيه بذاته […] والرموز والأساطير والمعتقدات وانفعالية الشعب، فها نحن نشهد في الجزائر انطلاقًا جديدًا للإنسان وإعادة تأكيده على مقدرته على التقدّم».[12]
في هذا السياق، ضخّت سيرورة التحرر كمًّا غير مسبوق من الطاقات والثقة والإبداع وروح التمرد. يبرهن تطور شعارات الحراك وأناشيده وأشكال المقاومة على سيرورات ارتقاءٍ سياسيٍّ وتربية شعبية، أسّست لمصادرةٍ شعبية للفضاء العام خلقت نوعًا من الساحات اليونانية (الأڨورا) حيث يتناقش الناس ويتحاورون ويتبادلون وجهات النظر، ويتحدثون عن الاستراتيجية والآفاق، وينتقدون بعضهم البعض أو يعبّرون عن أنفسهم ببساطة بكيفيات متعددة، لاسيما عبر الفن والموسيقى، فتفتحت آفاق جديدة للمقاومة والبناء الجماعي. اتخذ الإنتاج الثقافي دلالةً مغايرة لارتباطه بالتحرر واعتباره للعمل السياسي والتضامن، وبعيدًا عن الإنتاجات الفولكلورية والعقيمة تحت الإشراف الخانق للنخب السلطوية، نشهد ثقافةً تتحدث للشعب بالشِعر والموسيقى والمسرح والرسوم الساخرة وفن الشوارع وتدفعُ بمقاومته ونضالاته قُدُمًا. فالثقافة شكلٌ من أشكال العمل السياسي كما عبّر عن ذلك فانون: «ليست الثقافة القومية ذلك الفولكلور الذي يكتشف فيه من ينظر نظرةً مجرّدة إلى الأمور حقيقة الشعب، وليست الثقافة القومية تلك الكتلة المتجمدة من الحركات الصرفة التي أصبح ارتباطها بالواقع الراهن يضعف شيئًا فشيئًا، فالثقافة الزنجية الأفريقية إنما تقوى وتشتد حول كفاح الشعوب، لا حول الأغاني أو القصائد أو الفولكلور».[13]
النضال من أجل تصفية الاستعمار مستمرّ
يطالب الحراك الجزائري بـ «الاستقلال» و«السيادة» و«إنهاء نهب موارد البلد» والظروف الاقتصادية الاجتماعية القمعية التي عانى الجزائريون منها مدى عقود. يرى الجزائريون علاقةً مباشرةً بين النضال الراهن والنضال المناهض للاستعمار في الخمسينيات، فالراهن هذا إكمالٌ وتتمةٌ لعملية إنهاء استعمارٍ تخفّى ولم يرحل، وبرفعهم شعار «الجنرالات للمزبلة، الجزائر مستقلة»، يؤكّدون خاصّية فريدةً لانتفاضتهم: انغراسها في النضال المعادي للاستعمار وللاستعمار الجديد. بهذا النحو يستعيد الجزائريون صفتهم كشعبٍ ثوريٍّ ويؤكدون توقهم لأن يكونوا الورثة الحقيقيين للشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل تحرر هذا البلد. وقد ظهر هذا جليّا من خلال بعض شعارات الحراك: «لن يتوقف أحفادك يا علي (لابوانت) أبدًا طالما لم ينتزعوا حريتهم!» و«نحن أحفاد عميروش ولن نتراجع أبدًا!».
إن النضال من أجل إلغاء الاستعمار انطلق من جديد، يطالب من خلاله الجزائريون بسيادةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ لم يستردّوها عند الحصول على الاستقلال السياسي في العام 1962. يغدو جليًّا أن الاستعمار الذي حلّله فانون قبل ستة عقود لم يرحل برُمّته، فالواقع أنه تحول وتموّه في أشكال وآليات بالغة التعقيد، مثل الديون، وبرامج التقويم الهيكلي، واتفاقات «التبادل الحر»، واتفاقات الشراكة مع الاتحاد الأوربي، والنظام الاستخراجي النهّاب، والاستحواذ على الأراضي، والزراعة التجارية المكثفة، وقوانين الهجرة، والحدود القاتلة، والتدخل «الإنساني» و«مسؤولية الحماية»، والتعاون الدولي والتنمية، والعنصرية، وكره الأجانب، إلخ. فهذا بمجمله يمثّل أشكالَ سيطرة وتحكّم بقصد الحفاظ على مصالح الأقوياء على الصعيد العالمي.
وقد كان لدى فانون حَدْسٌ بهذا الصدد: «إنّ الشعب الذي تبنّى في بداية الكفاح تلك الثنائية الأولى التي أوجدها المستوطن الأجنبي: البيض والسود، العرب والأروام، يُدرك الآن في خضم النضال أنه قد يصادف سودًا أبْيَض من البِيض، وأن فئاتٍ من السكان لن تحملها إمكانية عُلوِّ رايةٍ وطنيةٍ وإمكانيةُ قيامِ أمةٍ مستقلِّة على التنازل عن امتيازاتها ومصالحها».[14]
ما نشهده اليوم إذًا هو نضال الشعب الجزائري من أجل تفكيك مصالح الطبقة الحاكمة وامتيازاتها.
الثورة المضادة: الدور الرجعي للجيش
على غرار كل ثورة، احتشدت القوى المضادة للثورة للحؤول دون التغيير. وتستفيد الحملة المضادة للثورة الجارية حاليًّا في الجزائر من الدعم الخارجي، فعلى صعيد إقليمي: تستعمل الإمارات والسعودية ومصر أموالها ونفوذها لوقفِ موجات التمرّد خوفًا من تفشّي عَدواها في المنطقة، وعلى الصعيد العالمي، تساند النظام الجزائريَّ فرنسا وأمريكا وبريطانيا وروسيا والصين، ومعها كبريات الشركات، خشيةَ الخطر المحتمل على مصالحها الاقتصادية والجيوستراتيجية. ومن هذا المنطلق يمكننا فهم قانون الميزانية الذي أقرّه النظام عام 2020 وقانون النفط والغاز الذي يساند الشركات العابرة للأوطان.
بخصوص المستوى السياسي داخل البلد، تجسّدت الثورة المضادة في الهرمية العسكرية. بعد إسقاط بوتفليقة، تواصلت المظاهرات ضد الجيش الذي احتفظ عمليًّا بسلطته على البلد. فقد كانت الجزائر دومًا ومنذ الاستقلال في عام 1962 تحت حُكمٍ عسكري، مباشرةً أو مداورةً، وعسكرة المجتمع هذه خلقت ثقافة خوف وحذر. اذ يفسِّر قمع الانتفاضات السابقة العنيف وقسوة حرب التسعينيات تحفّظَ الحركة الشعبية عن المواجهة المباشرة مع الجيش. لكن الناس يظلّون عازمين على نزعٍ سلميٍّ للطابع العسكري عن جمهوريتهم، فيهتفون: “جمهورية وليس ثكنة”. لم يطلق الجيش النار لحدّ الآن، لكنه واصل تبريرَ مختلف الإجراءات القمعية. وقد رفضت القيادة العسكرية العُليا كلّ خارطة طريقٍ وكلّ دعوةٍ لحوار حقيقيٍّ مقتَرَح من الحراك الشعبي.
هنا كذلك نرى صدق كلمات فانون وتوقّعاته:
«في هذه البلاد الفقيرة المتخلفة التي نرى فيها وفقًا لقاعدة» أكبر ثراء يتاخم أبأس فقر«، يكون الجيش والشرطة أعمدة النظام القائم، وهما جيش وشرطة يشرف على توجيههما خبراء أجانب، وهذه قاعدة أخرى يجب أن نتذكرها. وتكون قوة هذه الشرطة وسلطة هذا الجيش متناسبتين مع حالة الركود التي يعيش فيها سائر الأمة».[15]
يعلم الجزائريون ما يقدر عليه الجيش، ولا يزالون رغم صدمة العشريّة السوداء (حرب التسعينيات الأهلية) يُلحُّون بشجاعة على مطلب «دولة مدنية، لا عسكرية!» وبذلك يَظهر النظام الجزائري على حقيقته: ديكتاتورية عسكرية مُقَنَّعَة بواجهة «ديمقراطية».
صراع الطبقات، والتنظيم، والتربية السياسية
حافظ الحراك على وحدةٍ وطابعٍ سلميٍّ مثاليَيْن رغم كلّ ما حيك ضده ورغم جهود الدولة لتقسيمه واحتوائه وإنهاكه، وبُرِهنَ على ذلك بمختلف الشعارات، من قَبِيل: «الجزائريون إخوة، الشعب متحّد، أنتم الخونة». قيادة الحراك شبابيّة وتنظيمه غير مُهيكَل إلى حدٍّ ما، فلا زعماء معروفين ولا بُنَى مُنظَّمة تدفعه. إنّها انتفاضة شعبية تحشد القوى الجماهيرية للطبقات الوسطى والطبقات المهشمة في المناطق الحضرية والقروية. فبعكس السودان، حيث أدّى تجمّع المهنيين السودانيين دورًا رائدًا وتنظيميًّا، يجري التنظيم في الجزائر أُفُقيًّا على أساس الشبكات الاجتماعية. وكان الإضراب العام في الأسابيع الأولى للانتفاضة -الذي أسهم في إجبار بوتفليقة على التنحّي وفي زعزعة التحالفات داخل الطبقة الحاكمة- منظمًّا بشكل عفويٍّ بعد دعواتٍ على شبكات التواصل الاجتماعية مصدرها الأوّل مجهول. ورغم أنّ هذه الديناميات والحركات غير المتبلورة وغير المهيكلة قادرةٌ على توليد تعبئات متعدّدة الطبقات، تتّخذ حجمًا كبيرًا ولا يكون جمهورها وقيادتها هدفًا سهلًا للقمع أو الاحتواء، لكنّها تحمِل كذلك أوجه ضعف قاتلة على الأمد البعيد.
لكن ما الممكن تعلّمه من فانون في مضمار صراع الطبقات والتنظيم؟
يقع التحليل الطبقي في صُلب تحليل فانون. فكما كتب المفكر الماركسي اللبناني مهدي عامل، مؤكدًا أفكار فانون بصدد ما تتميز به الممارسة الثورية وما يتغيّر فيها من كيفيّة ودلالةٍ وقيادةٍ بعد الاستقلال: «فيما كان [العنف الثوري] قبل الاستقلال نضالًا وطنيًّا أساسًا، يُصبح بعد الاستقلال نضالًا طبقيًّا حقيقيًّا» تكتشف عبره الجماهير عدوها الحقيقي: البرجوازية الوطنية.[16] ينتقل النضال إذن من مستوىً وطني صرف إلى مستوىً اقتصاديٌّ واجتماعيٌّ للنضال الطبقي، ليحثّنا فانون على الانتقال من وعيٍ وطنيٍّ إلى وعيٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ في قوله: «ما لم تُبرِز مضمون الوطنية وتعمّقها، ما لم تحوّلها بسرعة إلى وعيٍ سياسي واجتماعي، إلى تطلّعٍ إنسانيٍّ، فإنك تسير في طريق مسدودة لا مخرج منها».[17]
بيْد أن فانون يدعونا إلى «توسعة الماركسية» كوسيلةٍ لإدراك خصوصيات الرأسمالية في العالم المستعمَر، وعالم ما بعد الاستعمار. فحسب إيمانويل واليرشتاين، تمرّد فانون «تمرّدًا كبيرًا على الماركسية المتحجّرة للحركات الشيوعية في عصره»، مؤكدًا صيغةً مراجعةٍ للصراع الطبقي تُحدُث قطيعةً مع دوغما مؤدّاها أنّ البروليتاريا الحضرية والصناعية هي الطبقة الثورية الوحيدة ضد البرجوازية.[18] فقد كان فانون يفكّر في الفلاحين وفي البروليتاريا الرثة، بعد تجريدها من الطابع القبلي وتوطينها، بصفتها مرشّحة لتكون ذاتًا ثوريةً تاريخيةً في حالة الجزائر المستعمَرة. وهنا يلتقي فانون بتشي غيفارا في تأكيدهما أنّ الثورة تبدأ في البلدان المستعمَرة في المناطق القروية وتنتقل إلى المدن، ويُطلقها الفلاحون فتنضمُّ إليهم البروليتاريا وليس العكس، كما هو الحال في البلدان الرأسمالية الأوربية، وحتى الاشتراكية.[19]
باختصار، الصراع الطبقي جوهريٌّ بشرط تحديدٍ واضحٍ للطبقات المتصارعة،.ووفق هذا المنطق، في الانتفاضة الراهنة يكتسي تحديدُ الطبقات الثورية (أو تحالفاتها) وتعريفها أهميةً حاسمة. اذ علينا أن نتجاوز النزعة العُمّالوية ونعتنق تصورًا أوسع للبروليتاريا في تعبيراتها المعاصرة، بما تشمله من شبابٍ عاطل عن العمل، وعمّالٍ حضريين وقرويين، وعمال القطاع غير المنظم، والفلاحين، وهلمّ جرًّا، فهي طبقاتٌ ليس لها ما تخسره سوى أغلالها، ما يُضفي عليها طابعًا ثوريًّا كامنًا.
في فصل «عظمة العفوية وأوجه ضعفها» من «معذّبو الأرض» عبّر فانون عن مخاوفه من إنهاك البروليتاريا الرثة في حال تُرِكَت بلا بُنيةٍ تنظيمية.[20] وبقصد تفادي ذلك وقطع الطريق على برجوازيّاتٍ طفيلية لا تزال تُمسك بزمام السلطة في الجزائر، يجب التّمعّن فيما كتب فانون: «يجب ألّا تتوافر للبرجوازية شروط الوجود والازدهار، وبتعبير آخر: يجب أن يَنْصَبَّ الجهد المتعاون والمنسَّق الذي تقوم به الجماهير المنظمة في حزبٍ ويقوم به المثقفون الواعون وعيًا رفيعًا والمسلّحون بمبادئ ثورية، يجب أن ينصبّ هذا الجهد في سدّ الطريق أمام قيام هذه البرجوازية العقيمة الضارة».[21] يلحّ فانون على ضرورة الحزب السياسي الثوري (أو الحركة الاجتماعية المنظمة) القادر/ة على السير قُدُمًا بمطالب الجماهير، حزب/هيكلٌ يكون مربّيًا سياسيًّا للشعب و«أداةٌ بين يديْه» وناطقًا باسمه بحماسة و«مُدافع نزيه» عن جماهيره.
بلوغ مثل هذا التصوّر للحزب أو الحركة بنظر فانون يتطلبُّ التخلّصَ بدايةً من الفكرة النخبوية و«الغربية جدًّا، والبرجوازية جدًّا وبالتالي المُسيئة، القائلة بأن الجماهير عاجزة عن قيادة نفسها».[22] كان فانون يمقُت الخطاب النخبويّ الذي يدّعي أنّ نضج الجماهير قاصر، ويؤكد أنّ الجماهير في النضال تبلغ مستوى ما يعترضها من مشاكل، فمن المهم إذن بالنسبة لها أن تُدرِك الوجهة وسببها. لهذا، يؤكد فانون أنّ علينا بلورةَ مفاهيم جديدة عبر التربية السياسية المستدامة التي يُغنيها نضال الجماهير. والتربية السياسية ليست مسألة خطابات، فهذه «التوعية السياسية إنما تعني في الواقع فتح الأفهام، وإيقاظ العقول، وإقحام الأذهان في العالم»،[23] «فإن كان بناءُ الجسر لا يرفع وعيَ العاملين عليه، يجب ألّا يبنى هذا الجسر، وليظلّ المواطنون يعبرون النهر سباحةً أو على قارب».[24]
في نظر فانون، يتوقف كل شيء على الجماهير. ومن هنا فكرته بخصوص المثقفين الجذريين الملتزمين في الحركات الشعبية ومعها؛ وفقًا له، هم القادرون على اقتراح مفاهيم جديدة بلغة غير تقنية وغير مهنيّة. فالثقافة عند فانون يجب أن تغدو ثقافة كفاح، وعلى التربية أن تغدو مسألة تحرّر شامل. وهذا ما يجب أن يظل ماثلًا في الذهن عند الحديث عن اللحظة الثورية الجزائرية الحالية.
ظِلُّ فانون: الثورة الجزائرية الجديدة وحركة حياة السود مهمة
انطلق في عام 2020 من شوارع مينيابوليس في أمريكا تمردٌ عالميٌّ على الفوقيّة البيضاء على أثر قتل جورج فلويد، رجل أسود يبلغ من العمر 46 عامًا سنة قتله شرطيٌّ طرحه أرضًا وخنقه حتى الموت بوضع ركبته على رقبته لثماني دقائق، رغم استجدائه، على غرار إيريك غارنر قبله، بالكلمات الشهيرة: «لا أستطيع التنفس!»
هذه كلمات تذكّرنا بتوصيف فانون للنّضال الفيتنامي ضد الاستعمار: «لم يتمرد مواطن الهند الصينية بسبب اكتشافه ثقافة جديدة، بل لأنه “ببساطة” بات مستحيلًا عليه، بأكثر من وجهٍ، أن يتنفس».[25] التمرّد الذي تلا انطلاق حركة «حياة السود مهمة» والتضامن معها ما برح حتى ألهم حراكًا عالميًّا، وأثبت أنّه لم يعد بوسعنا التنفس في منظومة تجرّد الناس من إنسانيتهم، وتكرّس فرط الاستغلال، وتسيطر على الطبيعة والإنسانية، وتُوطّد شتّى أشكال التفاوت بين الناس وتكبّل حياتهم بالفقر. ورغم الأفق الذي فتحته التمردات المناوئة لهذه المنظومة في شتى بقاع الأرض، يبقى نجاح أفعال هذه المقاومة العرضية والمحصورة جغرافيًّا إلى حدٍّ بعيد، مرهونًا بِتجاوزها النطاق المحليّ وأخذها بعدًا عالميًّا، وإقامتها تحالفاتٍ مُستدامَة في وجه الرأسمالية، والاستعمار، والنظام الأبوي. إن أردنا خوض نضالٍ لأجل تحرّر معذّبي الأرض ومعّذباتِها فلا مناص من العمل المبني على أسس التضامن والتحالف عبر الأوطان. ولعلّنا سنجد في فانون والجزائر همزة الوصل ونقطة التقاءِ تلك النضالات، كما كانت الحال في الستينيات والسبعينيات.
في عقديْ استقلالها الأوَّلَيْنِ، أصبحت الجزائر، كما وصفها سمير مغيلي، «عقدةً حرجة في كوكبةِ التضامن العابرة للأوطان» المتجسدة بين الحركات الثورية للعالم برُمَّته.[26] أصبحت الجزائر حينها رمزًا قويًّا ونموذجًا للنضال الثوري استلهمت منه جبهات التحرير المختلفة في العالم، وباتت العاصمة الجزائرية، بفضل سياستها الخارجية الجريئة في الستينيات والسبعينيات، مكّة الثوريين. فكما صرح قائد غينيا بيساو الثوري أميلكار كابرال عام 1969: «خُذوا قلمًا وسجّلوا: يحجُّ المسلمون إلى مكّة، والمسيحيون إلى الفاتيكان، وأمّا حركات التحرّر الوطني فإلى مدينة الجزائر!».
واستلهمت حركة التحرّر الأفريقي الأمريكي نضالها من الجزائر كذلك. فوِفق مغيلي وفي ذروة الحركة الأمريكية من أجل الحقوق المدنية والقوة السوداء: “مثلما كانت الجزائر تَعتَبرُ أمريكا السوداء شطرًا من العالم الثالث يقطنُ بطن الوحش”، اعتبرت أمريكا السوداء الجزائرَ «البلدَ الذي حارب المُستعبِد وانتصر».[27] بفضل الفيلم الشعبي «معركة مدينة الجزائر» وكتابات فرانز فانون، احتلّت الجزائر مكانة هامة في «أيقونات وخطابات وأيديولوجيا فروعٍ أساسيةٍ من حركة التحرر الأفريقية-الأمريكية»،[28] فقد اعتبرت كفاحها من أجل الحقوق المدنية مرتبطًا بنضالات الأمم الأفريقية من أجل الاستقلال. وكما أوضحت إحدى طالبات العلوم السياسية آنذاك: «إن كان كتاب معذبو الأرض» دليل الثورة السوداء «، ففيلم معركة مدينة الجزائر كان رديفه السينمائي».[29] كشفت نصوص فانون وتحليله لحرب الجزائر أوْجُه توازٍ عدة بين تجربة السيطرة الاستعمارية في الجزائر والاضطهاد العرقي الذي تعرّض له السود لقرون طويلة في أمريكا، فغدى كتابه معذبو الأرض «إنجيل السود» على حدّ تعبير ألدردج كليفر. وفي خواتم السبعينات بيعت منه 750,000 نسخة في أمريكا، ما حدا برئيس مجلة «ليبريتور» دان واتس على القول: «يمكن لكل أخٍ، أيًّا كان، أن يستشهد بفانون».[30]
كما استلهمت أهمّ شخصيّتين في الحركة من أجل التحرر الأفريقي الأمريكي، أي الدكتورَ مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس، من التجربة الجزائريّة. في زيارته نيويورك في أكتوبر لعام 1962، التقى الرئيس الجزائري الأول وأحد قادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية أحمد بن بلة الدكتورَ مارتن لوثر كينغ وصرّح بأن ثمة علاقةً وثيقة بين الاستعمار والتمييز. في عام 1964، زار مالكوم إكس الجزائر والقصبة، أي موقع معركة الجزائر ضد العسكر الفرنسيين في 1957، وردّ على مزاعم وجود نوع من «عصابة حقدٍ» تُدعى «إخوان الدم» التي اتخذت هارلم قاعدة لها لارتكاب الجرائم ضدّ البيض قائلًا: «نفس الظروف التي سادت في الجزائر وأجبَرت الشعب، شعب الجزائر النبيل، على اللجوء في آخر المطاف إلى تكتيكات من طرازٍ إرهابيٍّ احتاجها لإسقاط العبء عن كاهله، تسود اليوم في أمريكا في كلّ جماعة سوداء».[31]
هذا المنظور الشامل لنضالاتنا وترابطها هو ما علينا تأكيده لإحداث قطيعةٍ مع أشكال القهر والقيود المفروضة على حركاتنا المناهضة للعنصريّة والكولونيالية، ولنعتنق حِسًّا أمميًّا جذريًّا يُحفّز التضامن ولا يُثبّطه. علينا إطلاق مشاريع جديدة تستجيب لصعوبات زماننا وتحدّياته المستحدَثة مستلهمةً من تلك القديمة التي كانت تروم التحرر من النظام الإمبريالي الرأسمالي. في هذا السياق، يجب علينا استرداد الإرث الثوري للمنطقة المغاربية، وأفريقيا، وغرب آسيا والجنوب العالمي، كما صقله وشحذه كبار المفكرين، مثل فرانز فانون، وأميلكار كابرال، وتوماس سانكارا، ووالتر رودني، وسمير أمين، وغيرهم كثيرين. فالاستناد إلى هذا التراث الثوري، واستلهام أفقه التمرديّة، وتطبيق مرجعياته الأممية على السياق الراهن، أمر بالغ الأهمية للجزائر ولحركة حياة السود مهمة، وغيرهما من النضالات التحررية عبر العالم.
على سبيل الخلاصة
تقع على كاهل القوى التقدمية في الجزائر، وفي سواها، مهمّةٌ عظيمة: مهمة وضع المسألة الاقتصادية الاجتماعية في مركز النقاش حول البدائل، وضخِّ التحليل الطبقي في الحراك السياسي الأوسع. وعليها، وعلى اليسار الجذري الثوري بوجه الدقة، بلورةُ رؤىً جديدة تتجاوز المقاومة المحضة للهجوم النهبيِّ الراهن للرأسمالية، والبدءَ بمساءلة تصوّراتنا عن التنمية والحداثة ذاتها، تصوّراتٌ تستهدف إدماجنا في نمط حياةٍ قائمٍ على فرط الاستهلاك وإلحاقنا بموقعٍ خاضعٍ في النظام المعولم.
لقد حثنا فانون على الابتكار وعلى الإقدام على اكتشافات، وعدم تقليد أوروبا تقليدًا أعمى، فالنضال من أجل إلغاء الاستعمار يجب أن يَطعن في سيطرة الثقافة الأوربية وفي تبنّيها نزعة كونية، دونَ الوقوع في شَركِ الحنين لماضٍ رومانسيٍّ مُتخيَّلٍ ومُجَمَّد. فهاذان الاستلابان هما ما يتعيّن على الشعوب المستعمَرة تجاوزهُ في نضالها الثقافي، وفي سبيل إلغاء استعمار العقول بتفكيك المفاهيم الغربية من «التنمية» و«الحضارة» و«التقدم» و«الكونية» و«الحداثة». فهذه المفاهيم تمثل ما يسمّى «استعمارية» السلطة والمعرفة، ما يعني أن أفكار «الحداثة» و«التقدم» جرى تصورها في أوروبا وأمريكا الشمالية ثم غرسها في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في سياقٍ مطبوع بنزعةٍ استعماريّة.[32] فعزّزت، هي وثقافتها ذات المركز الأوربي، الإرث الاستعماري لمصادرةِ الأراضي، ونهب الموارد، والسيطرة على الشعوب «الأخرى» من أجل «إدخالها إلى الحضارة».
كتب فانون في خاتمة «معذَّبو الأرض»:
«هيا يا رفاق، إنه ليجدر بنا أن نقرّر من الآن أن ننتقل إلى الضفة الأخرى. يجب أن نهز الليل الطويل الذي كنا غارقين فيه ونخرج منه. على النهار الجديد الذي أخذ يطلع أن يجدنا حازمين واعين وقد عزمنا أمرنا، لا مضيّعين وقتنا في دعوات مُمِلّة وتلوّنات تبعث على التقيؤ. لنترك هذه الأوروبا التي لا تفرغ من الكلام عن الإنسان وهي تقتله حيثما وجدته، في جميع نواحي شوارعها وفي جميع أركان العالم. هيا يا رفاق، لقد انتهت لعبة أوروبا تماما، وعلينا أن نجد شيئًا آخر. إننا نستطيع أن نفعل اليوم كل شيء، على ألّا نقلد أوروبا تقليدًا أعمى وأخرق، على ألّا تحاصرنا الرغبة في اللحاق بأوروبا. فمن أجل أوروبا، ومن أجل أنفسنا، ومن أجل الإنسانية، يجب علينا يا رفاق أن نلبس جلدًا جديدًا، أن ننشئ فكرًا جديدًا، أن نحاول خلق إنسان جديد».[33]
لم يقترح علينا فانون وصفةً واضحةً لإنجاز الانتقال، بعد إلغاء الاستعمار، نحو نظام سياسيٍّ جديدٍ مُحرَّر، ولربما كان يَعتبر الأمر سيرورةً مديدةً ستنيرها الممارسة، ولا سيما الثقة في الجماهير وفي مقدرتها الثورية على إيجاد بديل تحرري. من وجهة النظر هذه، تقع على عاتق الحركات الثورية والتحرّرية القائمة الآن في الجزائر وضمن الأمريكيين السود وعبر العالم مسؤولية وضرورة مواصلةُ مهام إلغاء الاستعمار، وذلك من أجل استعادة إنسانيتنا المهدورة. عبر مقاومة الأصناف الاستعمارية والرأسمالية للإستحواذ والاستخراج، لا بدّ لتصورات جديدة وبدائل ضد الهيمنة أن ترى النور.