التدخلات السعودية الإماراتية: أسلحة، مساعدات وثورة مضادة

رفيف زيادة

تفاجأ الخبراء والأكاديميون بموجات الانتفاض التي خرجت من شمال أفريقيا وغرب آسيا على مدار العقد الماضي. طبقًا لهؤلاء المعلّقين، فإنّ إشكالية التغيير الديمقراطي كانت محسومة منذ زمنٍ طويل، في ظلّ إصرارهم (هؤلاء المعلقين) على أفكار «صمود السلطوية» و«استثنائية» المنطقة في ما يتعلق بالتوجهات العالمية، ومنها التحول إلى الديمقراطية. كُتب الكثير منذئذٍ عن الأسباب الجذرية وآثار الانتفاضات ومساراتها ومآلاتها، ولقد ركّزت تلك الكتابات على دُولٍ بعينها. لكن من النتائج الأساسية والكبرى للانتفاضات تضخُّم دور اللاعبين الإقليميّين في عدد من الدول، وعملهم على فرض استقرار النظام السياسي بما يصبّ في صالحهم. حملت الانتفاضات – سواء في ما سُميَّ بالموجة الأولى أو الثانية – كثيرًا من الأمل بالتغيير، وساقت مطالب العدالة الاجتماعية والاقتصادية. ومع ذلك الأمل جاءت الانتكاسات أيضًا، والإحباطات، والثورات المضادّة الصريحة والقوية، وكان دور الأطراف الإقليمية مركزيًا في هذا السيناريو.

وعلى وجه التحديد، فإن جملةً من الأطراف الإقليمية –منها السعودية والإمارات وقطر وتركيا وإيران– سرعان ما تدخّلت لتأمين مصالحها وتقويض خصومها وتأكيد سلطتها في المستوى الإقليمي. وبدلًا من تحليل الانتفاضات وما جاء في أعقابها ببساطة داخل كلّ دولة على حِدَة، فإنّ التحليل المقارن الأوسع يسمح لنا بفحص الفاعلين الجُدُد وآليات تدخلّهم على المستوى الإقليمي. أركّز في التحليل التالي على التدخّلات في اليمن وليبيا بعد انتفاضات عام 2011. ورغم أنّ الانتفاضة في البلديْن اتخذت مسارات مختلفة، فإنّ نفس الكوكبة من الأطراف الإقليمية تدخّلت عسكريًا وماليًا ودبلوماسيًا في محاولة لضمان فرض قياداتٍ تراعي مصالحها. بتركيزه على الإمارات والسعودية يفحص هذا الإسهام مختلف أوجه ما وقَع من تدخّلات، بما يشمل الحملات العسكرية المباشرة واستخدام أطراف تُحارب بالوكالة والمساعدات المالية وباقات المساعدات الإنسانية، وهي جميعها إجراءات عملت بالتزامن والتنسيق على تشكيل نِتاجات إقليمية أدّت –لسوء الطالع– إلى تعميق الوضع القائم على الضدّ من آمال التغيير التي زرعتها الانتفاضات في بداياتها.

اللاعبون الإقليميون

مع انطلاق الانتفاضات المتتالية في دُوَلٍ عِدّة، مهددةً قادَتَها، أدركَ الفاعلون الإقليميون راسخو الأقدام التهديدَ، لكنّهم رأوا فيه كذلك فرصةً للتدخل وتشكيل مسار الانتفاضات ومآلها. وفي الحروب التي تلت الانتفاضة في كُلٍ من سوريا وليبيا –على سبيل المثال– نُفّذَ عددٌ من أشكال التدخل العسكري، بما يشمل تقديم الأسلحة لدعم جملة من الفصائل المحلّية المختلفة.

ومن بين مجموعة الفاعلين الدوليين والإقليميين الذين سعوا إلى فرض السيطرة، قادَت السعودية والإمارات – اللتان كانتا حتى وقت قريب مصطفتين معًا في ما يخص المسائل الجيوسياسية – أو شاركتا في سلسلة من الحملات العسكرية (المباشرة وغير المباشرة)، وأبرزها في اليمن. تصرّفت الدولتان حفاظًا على سيطرتهما ولحفظ الوضع القائم، في البداية بالتدخّل عبر مجلس التعاون الخليجي لدعم أنظمة عُمان والبحريْن، وفيما بعد من خلال نشر قوات درع الجزيرة لدعم الملك حمد في قمع المظاهرات التي انطلقت ضد حُكمه.

وممّا يُنسى في أحيان كثيرة أثناء سرد الأحداث أنّ النظام في السعودية قد تحرك سريعًا لسحق المظاهرات داخل حدود المملكة، في المنطقة الشرقية في القطيف وفي مدنٍ أصغر كالعوامية والهفوف. في البداية انطلقت تلك المظاهرات –التي نظمتها الأقلية الشيعية في المملكة– ضد تدخل قوات درع الجزيرة في البحرين، لكنها اشتملت أيضاً على التعبير عن مظالم داخلية. وفي الإمارات كذلك انطلقت احتجاجات داخلية، وإن كانت على نطاق أصغر بكثير. في عام 2011 صاغت مجموعة من الأفراد عريضة طالبت بإصلاح المجلس الاتحادي الوطني، بما يشمل مطلبًا بإجراء انتخابات مباشرة. وتمثّل الرد في زيادة المراقبة واعتقال نشطاء الإصلاح.

إذًا وفي ذلك التوقيت بدأت السعودية والإمارات تشعران بتنامي تأثير الانتفاضات، وتمكّنتا من رؤية كيف جرّأَت الانتفاضات –لا سيما تلك التي خرجت في عُمان والبحرين– المعارضةَ داخل حدودها. وبدافع من التنافس مع إيران على السيطرة الجيوسياسية ورغبةً في تقليص خطر الإخوان المسلمين، سعت الدولتان إلى التدخل بعدّة سبل للتأثير على مسار الانتفاضات.

وكانت التدخلات العسكرية العديدة التي نفذتها السعودية والإمارات مدعومة بمساعدات مالية، غايتُها تأمين أهداف السياسة الخارجية الخاصة بالدولتين، لا سيما عبر حُزم المساعدات التي قُدِّمت إلى كل من مصر والأردن والمغرب وتونس.[1]

يتطلّب فهم العنف ونطاق تدخلات ما بعد الانتفاضات التي أقدم عليها التحالف السعودي-الإماراتي تحليلًا أعرض للمنطقة، يتجاوز الكيانات الفرديّة للدول، لا سيما على ضوء تصاعد التوترات بين السعودية والإمارات من جهة، وإيران من الجهة الأخرى. من الواضح أنّ الإمارات والسعودية لجأتا إلى استراتيجية متعدّدة المسارات، اشتملت على الحملات العسكرية ودعمها بمساعدات خارجية تحقق مصالح رأس المال الخاص في تلك الدول. كما عكست التدخلات السعودية-الإماراتية إلى حد بعيد أساليب التدخل الأمريكية في المنطقة –سواء عسكريًا أو في ما يخص الأدوات الخطابية– ما يسلط الضوء على العلاقة التاريخية مع الولايات المتحدة بصفتها راعية للنظامين، وأيضًا على الصلات الدولية الخاصة بصناعة الأسلحة وحركة المعدّات والتقنيات العسكرية ونماذج مكافحة حركات التمرد والمعارضة.[2]،[3] وقد تجلَّت معايير مكافحة التمرد والمعارضة التي طبقها التحالف بقيادة السعودية بكلّ وضوح في حالة اليمن. تُسلّط هذه الحالة الضوء أيضًا على الاستراتيجية متعددة الأذرع للتدخل التي اشتملت على فرض القوة العسكرية بشكل مباشر وباستخدام وكلاء، وكانت مصحوبةً في الوقت نفسه بتقديم المساعدات للمناطق الخاضعة لسيطرة التحالف واستخدام تلك المساعدات وسيلةً للتأثير وتحقيق غايات سياسية.

السيطرة على اليمن

في عام 2011 انطلقت انتفاضة شعبية في اليمن، أجبَرت علي عبد الله صالح على تسليم السلطة بعد أن ظلّ في سُدَّة الحُكم 33 عامًا. كانت الصفقة برعاية السعودية أساسية في السماح لصالح بالتنحّي مقابل الحصول على الحصانة، على أن يَحُلَّ محلّه نائبَهُ عبد ربُّه منصور هادي. ودُشِّن مؤتمرٌ للحوار الوطني بهدف التفاوض والتوصّل إلى ترتيبات للسلطة بين مختلف الأطراف في اليمن. بعد عامين من المناقشات، أخفق مؤتمر الحوار الوطني في الوصول إلى إجماع ورُفضَت الفكرة التي عرضها والمتمثّلة في خريطة اتحادية جديدة لما شابها من مثالب في مراعاة مختلف الظروف الاقتصادية والمظالم القائمة منذ زمن بعيد في هذا الملف في مختلف أنحاء اليمن. استفاد الحوثيون –وهم جماعة مسلّحة من الشمال اشتبكت في نزاع مطوّل مع نظام صالح– من انتكاسات المؤتمر الوطني. وفي سبتمبر/أيلول 2014 تحرّك الحوثيون للسيطرة على عدد من مواقع الجيش في العاصمة صنعاء. وبعد سيطرة الحوثي على صنعاء في مطلع 2015، فرّ الرئيس هادي إلى السعودية. وبدعوى دعم الإرادة الديمقراطية للشعب اليمني، اشتبك تحالفٌ بقيادة السعودية في عام 2015 في تحرُّك عسكري مباشر ضد المتمرّدين الحوثيين. قالت السعودية إن الحوثيين يحصلون على الدعم من إيران. وبدأ التدخل بقيادة السعودية والإمارات في اليمن عندما وافق المتمردون الحوثيون على السماح بالرحلات الجوية المباشرة بين صنعاء وطهران وعندما أتاحوا لإيران الوصول إلى ميناء الحُدَيْدَة، وهو الميناء الرئيسي لليمن على البحر الأحمر.

كان التحالف بقيادة السعودية مدعومًا من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا ويتلقى مساعدات لوجستية واستخباراتية منها. قال التحالف إنّ الحملة العسكرية في اليمن ستكون سريعة وحاسمة. لكن بعد ستّ سنوات من عمل عسكري تسبّب في وفيات كثيرة ودمار هائل وخلق أسوأ أزمة إنسانية في العالم،[4] لم يُحَقِّق التحالف بقيادة السعودية أيًّا من أهدافه المعلنة. إنما اضطرّ الحوثيون إلى الاقتراب أكثر من إيران، وخلّفت تحرّكات التحالف السعودي–أينما ذهبت– معاناةً ودولة مُقطَّعَة الأوصال، يرتع فيها كثيرًا من الفصائل المسلحة (التي ساعد التحالف في خلقها).

وظهرت تقارير كثيرة عن انتهاكات واسعة النّطاق لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني قام بها التّحالف بقيادة السّعوديّة في اليمن، بما يشمل الهجمات الممنهجة على الأهداف المدنية والاستفادة من المساعدات الإنسانية في تحقيق مآرب عسكرية. لقد أصبح اليمن مخبر تجارب للتدخل العسكري المباشر بقيادة السعودية، فضلاً عن كونه مسرحًا لاستعراض ترسانة المملكة من الأسلحة، التي اشترتها بالأساس من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا. طبقًا لمعهد ستوكهولم للسلم الدولي والبحوث (SIRPI)، فإن «السعودية والإمارات كانت ثاني ورابع أكبر مستورد للأسلحة خلال الفترة 2013 – 2017»، إذ زادت الصادرات إلى السعودية بواقع 225 بالمئة، وزادت الصادرات الموجهة إلى الإمارات بنسبة 51 بالمئة خلال الفترة المذكورة.

ربما دُمّرَ اليمن على يد التحالف بقيادة السعودية، لكن الجهة التي أتاحَت  حدوث ذلك هي الولايات المتحدة عبر إدارتين سياسيتين متعاقبتين، أعطتا الضوء الأخضر للتحالف، فضلًا عن صناعة الأسلحة في الولايات المتحدة وأوروبا التي كانت متحمّسة للحفاظ على التجارة الرابحة مع دول الخليج وضمان استمرارها. الحقّ أنه بينما صدَرَت إدانات لا تُغني ولا تفيد المدنيّين اليمنيّين، لم تتراجع مطلقًا تجارة الأسلحة مع أعضاء التحالف بقيادة السعودية خلال تلك الفترة. باشرت إدارة بايدن بمراجعة صفقات الأسلحة للسعودية والإمارات –منها صفقة بمبلغ 35 مليار دولار اشتملت على بيع مقاتلات إف-35 إلى أبو ظبي– لكنّها غير مرتبطة بالضّرورة باليمن، والأرجَح  أنّ هذه المراجعة تعكس رغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على توازن عام في القدرات العسكرية في المنطقة بما يضمن استمرار تفوّق إسرائيل.

ورغم أنّ الإمارات كانت جزءًا من نفس التحالف، تجدُر ملاحظة عدم تطابق استراتيجيتها في اليمن مع استراتيجية السعودية. أدّى تعيين اللواء علي محسن الأحمر –الذي كان يُنظر إليه بصفته مقربًا من الإخوان المسلمين في منصب نائب رئيس اليمن– إلى تغيّر خطة الإمارات. اذ رأت الإمارات أنّ هذا التعيين يخاطر بتمكين الإخوان المسلمين وحزب الإصلاح اليمني المرتبط بالجماعة. وفي المقابل، استمرّت السعودية في التركيز على الحوثيين بالأساس وعلى إعادة تمكين حكومة هادي.

بالإضافة إلى تحرّكات التحالف ضد الحوثيين في اليمن، أدارت الإمارات على وجه التحديد فوهة مدافعها إلى تنظيم «القاعدة» في الجزيرة العربية أيضًا.

اشتمل تقسيم العمل بين السعودية والإمارات على قتال الإمارات للحوثيين في مناطق الجنوب والشرق في اليمن. كما استثمرت الإمارات في تدريب قوّات أمن محلية –منها قوات الحزام الأمني– لكنها موّلت ودرّبت كذلك قوات نخبة شبوان والحضرميين في الشرق، والقوات المشتركة في الغرب، ومقاتلي أبو العباس في الجنوب الغربي. (وأشار تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة المعنيّة باليمن لعام 2020 إلى أنّ الإمارات لديها سيطرة عملياتية على هذه الفصائل).

عندما أعلنت الإمارات تقليص قواتها في اليمن عام 2019 انتقلت إلى استراتيجية سيطرة غير مباشرة. إذ استفادت استراتيجيًا من قوى من قبيل المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يسيطر على مدينة عدن الساحلية، وذلك بعد إخراج قوات هادي من المدينة عام 2019.

في فبراير/شباط 2020 –بعد خمس سنوات من انطلاق الحملة العسكرية بوصفها جزءًا من أعمال التحالف بقيادة السعودية– انسحبت الإمارات رسميًا من اليمن، وذلك رغم بقائها في التحالف رسميًّا واستمرار ممارسة نفوذها على الأرض. وفي واقع الأمر، فإن الاشتباك غير المباشر يسمح للإمارات بإبعاد نفسها عن الدعاية السيئة المتعلّقة بانتهاكات حقوق الإنسان الحاصلة في الحرب وضمان حماية مصالحها هناك في نفس الوقت. طبقًا لاتفاق الرياض بين حكومة جمهورية اليمن والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات والموقّع في 5 نوفمبر/تشرين الثّاني 2019، تمكّن المجلس الانتقالي –بدعم من الإمارات– من ضمان مشاركته في أية حكومة يمنية في المستقبل.

لقد كانت الاستراتيجية العسكرية السعودية-الإماراتية في اليمن موجّهة بالأساس نحو تأمين مضيق باب المندب عند تقاطع البحر الأحمر مع خليج عدن. وضمن هذه الجهود سيطرة الجيش الإماراتي على موانئ اليمن في المحيط الهندي والبحر الأحمر، بما يشمل المُكَلّا وعدن والمخّا، فضلًا عن جزر سُقَطرى ومعيون (تقع الأخيرة في موقع استراتيجي في منطقة مضيق باب المندب، ومن ثمّ أصبحت مكسبًا بالغ الأهمية للإمارات). تقع هذه الموانئ على الخط التجاري البحري الرئيسي بين آسيا وأوروبا، وهي نقاط ازدحام كبرى على خريطة الشحن العالمية. رغم انسحاب الإمارات الآن رسميًا من بعض هذه المواقع، يحرس وكلاء لها في مواقع متعدّدة مصالحها، وهي تبني قواعد عسكرية على الجُزُر لاستمرار سيطرتها عليها. وفي هذا الصدد، لم تَجِد الدعوات لضمان السيادة اليمنية آذانًا صاغية.

ومع استمرار المناقشات بخصوص تراجع التحالف، ومع إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن عن انتهاء الدعم الأمريكي للتدخل في اليمن، تعكف السعودية والإمارات على إحكام سيطرتها على مواقع استراتيجية على امتداد البلاد. سيطر النظام السعودي على المُهْرة الواقعة على الحدود مع سلطنة عمان، ما يعطيه نفاذًا مباشرًا إلى المحيط الهندي، وهي ميزة يرغب النظام السعودي –حسب التقارير– في استخدامها لإنشاء خطّ أنابيب نفط من السعودية مرورًا بتلك البلدة. إضافةً للمذكور، تعمل القوات السعودية مع قبائل حليفة لها على تأمين سيطرتها على اليمن عبر شبكة من القواعد.

انعقدت آمال المتظاهرين في اليمن –مثل غيرهم عبر أنحاء المنطقة– على تمكّنهم أخيرًا من السيطرة على مصيرهم وعقد انتخابات حرّة وتشارُك موارد البلاد بالتساوي لصالح جميع أطياف الشعب. ومن البداية عمل التحالف السعودي-الإماراتي على مناوأة هذه الطموحات. أوّلًا عبر منحِهم الحصانة لصالح –وهو حليف الدولتين منذ زمن طويل– ومن ثمّ عبر دعمهم هادي.[5] وفي هذا السياق يجدر التذكير باشتمال سياسات هادي –أثناء إدارته الانتقالية قصيرة الأجل– على مزيد من تحرير الاقتصاد اليمني وخصخصة موارد اليمن الطبيعية. إذًا في ما يتعلّق باليمنيّين فلم يتغيّر المسار؛ فقد تغيّرت هوية أصحاب السلطة لكنهم استمرّوا في إثقال جيوبهم بثروات البلاد. خلقت انتفاضة 2011 الشعبية في اليمن فرصة جدّية وأملًا حقيقيًا في التغيير السياسي والاقتصادي لصالح جميع اليمنيين، لكنّ التدخل العسكري خلّف بلادًا موزعةً بين فصائل مسلحة عدّة ومُمَوّلة من الخارج. من الأفضل إذًا رؤية الحديث عن الانسحاب وإنهاء التدخل المباشر بصفته إعادةَ انتشارٍ عسكريّ يضمن السيطرة غير المباشرة على اليمن والحدّ من النفوذ الإيراني. فيما تحاول السعودية والإمارات الآن الحدّ من الضرر اللاحق بسمعتهما بسبب الحرب، تتنافسان في الوقت نفسه على السيطرة على مواقع استراتيجية وغرس حلفاء لهما في البُنَى السياسية اليمنية. فقد مُنيَت محاولات الوصول إلى «نصر سريع» بفشل ذريع، لكنّهما مستمرتان في حصاد أكبر قدر ممكن من الامتيازات من خلال ترتيبات تَشارُك السلطة الجديدة.

التدخل بالوكالة في ليبيا

مثل انتفاضات كثيرة في سائر أنحاء المنطقة، خرج المتظاهرون في ليبيا إلى الشوارع لمعارضة حالة القمع الشديد والركود الاقتصادي. تشجّعوا بأحداث تونس ومصر فخرج المتظاهرون احتجاجًا على اعتقال فتحي تربل، المحامي من بنغازي الذي تابع قضية قتلى النظام في أحداث سجن أبو سليم سيئة الصيت. تصاعدت المظاهرات، وردّ النظام بعنف شديد، وأطلقت قوات الأمن النار على المتظاهرين، وشنّت حملة اعتقالات جماعية. إلّا أنّ مُدُنًا عدّة خرجت عن سيطرة الجيش في شرق البلاد، فهربت القوات المسلحة في بعض المناطق أو غيّرت ولاءها. تُركت مخزونات كبيرة من الأسلحة بلا حراسة، وسيطر عليها السكان بغاية حماية أنفسهم بعد تصريحات القذافي ضدّ ما عُرف بثورة 17 فبراير. شكّلت القوات التي عارضت القذافي محلّيًّا المجلسَ الانتقالي الوطني في فبراير/شباط 2011.

ومع عسكرة الانتفاضة بسبب النظام وخوفًا من اقتحام قوات القذافي العسكرية المدنَ التي تحدّتها، خرجت دعوات بتدخّل الناتو. وأصدر مجلس الأمن قرارًا بفرض منطقة حظر طيران على ليبيا واستخدام «جميع السبل الممكنة» لحماية المدنيين. تبنّت عملية الناتو خطاب الدفاع عن المدنيين ومبدأ «مسؤولية الحماية»، لكنّ الدول الغربية التي دعت إلى التدخل كانت تربطها أصلًا علاقات بنظام القذافي على مدار العقود السابقة. وكان نظامه حينها قد اكتسب أهمّيّةً لتعاونه ضمن «برنامج تسليم المشتبهين» الأمريكي والترتيبات الّتي تربطه مع الاتحاد الأوروبي بشأن منع الهجرة من ليبيا.[6] مع تحوّل الاتحاد الأوروبي ضدّه، كانت ورقة لعب القذافي الأساسية هي الترويج لفكرة أنه في حال غيابه سوف «يُغرِق» المهاجرون أوروبا. ورغم هذا الخطاب لم يكن تدخل الناتو وثيق الصلة بانتهاكات حقوق الإنسان الّتي ارتكبها نظام القذافي، إنما رأت قوى الناتو في إصابة نظام القذافي بالوهن فرصةً لمكاسب جيوسياسية إضافيّة تحصدها من نظام جديد أفضل من القذافي المتقلّب إلى حدٍ ما. من المهمّ هنا ملاحظة أنّ دولًا مثل قطر والإمارات شجّعت التدخل وشاركت في بعثات الناتو وسعت لتأمين صدور قرار الأمم المتحدة. أضعف تدخل الناتو المباشر نظام القذافي، لا سيما مع حملة القصف ضد الأهداف العسكرية والمنشآت الحيوية التي أدت مباشرةً إلى سقوط نظام القذافي.

في حين تختلف الحالة الليبية عن اليمن بأوجه عدّة، تتمثّل أوجه الاتفاق بين الحالتين في التأثير الكبير للأطراف الإقليمية. بعد عقود من حُكم القذافي، لم يكن هناك كيان سياسي واحد متماسك قادر على تولّي السلطة، وسرعان ما انحسرت المساحات الأولى للانتفاض، حيث ظهرت حركة شعبية ذات مطالب تقدمية، أمام غلبَة الفصائل المعسكرة الأكثر قوّة. ومع سعي عدد من الميليشيات الأصغر للسلطة في المستوى المحلي داخل ليبيا، أقحمت القوى الإقليمية نفسها في العملية في محاولة لتجاوز المطالب الثورية وضمان عدم حدوث تغيير في توزيع السلطة على المستوى الإقليمي. وتشاركت الإدارة قوتان متواجهتان، دعمت كل منها أطراف إقليمية مختلفة. من جهة، تتبّعت مجموعة من الميليشيات الجنرال حفتر المدعوم من الاستخبارات الأمريكية تحت لواء الجيش الوطني الليبي، ومن جهة أخرى، دعمت الأمم المتحدة حكومة الوفاق الوطني في طرابلس. أي دعمت الأمم المتّحدة وتركيا وقطر حكومةَ الوفاق الوطني، في حين دعمت الإمارات وروسيا وفرنسا ومصر قوات حفتر. أوضحت تقارير أرسلت إلى مجلس الأمن في سبتمبر/أيلول 2020 أنّ ثماني دول خرقت حظر الأسلحة المفروض على ليبيا، وورد في تقرير مجلس الأمن بتاريخ 2 مارس/آذار 2021 أنّ حظر أسلحة 2011 كان «غير فعّال على الإطلاق». كما وثّق التقرير نقل طائرات حربيّة وطائرات مسيّرة وصواريخ أرض-جوّ ومركبات مصفحة من روسيا والإمارات ومصر وتركيا إلى ليبيا.

وفي الآونة الأخيرة ظهرت تحركات للمصالحة بين الفصائل الأساسية في ليبيا، لكن مثّلت مشكلة الفصائل والأسلحة الأجنبية عقبة كبيرة. في 23 أكتوبر/تشرين الأوّل 2020 توصّل الفريقان (الجيش الوطني الليبي وحكومة الوفاق) إلى اتفاق وقف إطلاق نار اشترط مغادرة المقاتلين الأجانب جميعهم ليبيا في ظرف ثلاثة أشهر. وشُكّلَت حكومة وحدة مؤقتة على أن تُعقد الانتخابات في 2021. في الوقت نفسه حاولت الإمارات قدر الإمكان تسليح حفتر لضمان تعزيز موقفه في المفاوضات وفي ترتيبات المستقبل. وفي حين لم تتحقق آمال الإمارات (والأطراف الأخرى) بانتصار حفتر الشامل، يستمرّ الأخير في السيطرة على مناطق كثيرة في ليبيا.

مازال تقييمُ تطورات ترتيبات السلطة في ليبيا مستقبلًا صعبًا. بدأ بعض النازحين الداخليين بالعودة إلى ديارهم، لكنّ الاقتصاد المحلي دُمِّر إلى حدٍ بعيد. ويدور شق كبير من المناقشات بين الفصائل الليبية حول كيفيّة تنظيم الاقتصاد وترتيب تشارك الأرباح النفطية. يُعدّ هذا الملف من أخطر القضايا العالقة، كما أنّه في لُبّ تبلوُر الانتفاضات في المقام الأول، فقد سعى المتظاهرون إلى تشاركٍ تكافؤيّ أكثر في الموارد وتوزيع أعْدَل للثروة بين السكان، بدلًا من استفادة القلّة القليلة المقرّبة من النخبة الحاكمة. للأسف، تُوجِّه أطراف دولية وإقليمية عدّة الترتيبات الجديدة هذه وتؤثّر فيها، وذلك بدل توجيه عموم الليبيين أنفسهم لها وتأثيرهم فيها.

المساعدات من أجل التدخّل

تُعَدُّ الحالتين الليبية واليمنية أمثلة واضحة على التدخل العسكري، لكن بالاقتران بالعمليات العسكرية كانت المساعدات في قلب استراتيجية الحلف السعودي-الإماراتي، مع تشديد الدولتين على أن تكون المنح والمساعدات المُقدَّمة منهما، والوعود بباقات المساعدات، مفيدةً في عقد التحالفات. على سبيل المثال، في حين تصاعدت الهجمات العسكرية في اليمن، استمرت السعودية والإمارات في تقديم المساعدات الإنسانية وإدارتها في المناطق الخاضعة لسيطرتهما، مع فرض الحظر والحصار على المناطق الخاضعة للحوثيّين. أي تزامنت التدخلات العسكرية مع باقات المساعدات المالية والانسانيّة والاستثمار في البنية التحتية. في واقع الأمر، أدّى التركيز على النزاع والتدمير في مختلف التقارير عن الانتفاضات في اليمن وليبيا إلى تغييم صورة ما يخصّ إعادة الإعمار والاستثمار، وهو ملَفٌ لا يقلُّ أهمّية عن الأعمال العسكريّة في تشكيل النتائج الجيوسياسية.

قبل الانتفاضات، كانت لدول مجلس التعاون الخليجي استثمارات كبيرة في القطاعات الحيوية في مختلف أنحاء المنطقة، بما يشمل الزراعة والقطاع المصرفي والإنشاءات.[7] ربطت الإمارات على سبيل المثال مساعداتها الخارجية بسياسات الاستثمار إلى حدّ بعيد. وهي بذلك تساعد مجموعات رأس المال المحلية الإماراتية على دخول الأسواق الإقليمية، لا سيما في قطاعات العقارات والزراعة والبُنية التحتية. منذ عام 2008 أسست الحكومة المكتب الإماراتي لتنسيق المساعدات الخارجية بصفته كيانًا مظليًّا يجمع المؤسّسات والمنظمات الخيرية في الإمارات، بالاستفادة من خبرات وكالات الأمم المتحدة وبالاستعانة بعاملين دوليين. خُصّصت أغلب مساعدات الإمارات الخارجية للتّنمية لا للمساعدات الإنسانية، وتمّت أغلب هذه الأعمال بصيغة اتفاقات ثنائية مع الحكومات، بما يشمل تبرّعات عينية بسلع مثل الغاز والنفط. طبقًا لوزارة الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي، فإن «المساعدات الخارجية الإماراتية سوف تسعى لفرص العمل مع القطاع الخاص –وتحديدًا الشركات المنشأة في الإمارات– وتشجيعها على التجارة مع الدول النامية والاستثمار فيها».

تُعَدُّ المساعدات الإماراتية لمصر مثالًا دالًا على استخدام المساعدات في محاولة تشكيل وإدارة نتائج العملية السياسية بعد الانتفاضات والسعي إلى زيادة استقرار المساحات المتاحة للاستثمار. أوقف انتخاب الإخوان المسلمين المساعدات الإماراتية المُخَصَّصة لمصر (في حين تولّت قطر دور المانح الرئيسي): خشيت السعودية والإمارات من تقارب الإخوان مع إيران ودور الإخوان الصاعد في تركيا. وجلب الانقلاب ضدّ الإخواني محمد مرسي إلى السلطة الجنرال العسكري الذي أصبح رئيسًا، عبد الفتاح السيسي. تزامن هذا مع الانتقال في التحالفات من قطر إلى الحلف السعودي-الإماراتي. وأسهمت المساعدات المقدّمة من الإمارات والسعودية منذئذٍ في دعم نظام السيسي. وبالتزامن مع المساعدات سعت الإمارات إلى فتح المجال أمام الاستثمار في القطاع الخاص في مصر، وانشأت فرقة عمل مصرية-إماراتية لهذا الغرض، وطلبت من مؤسسة استشارية خاصة تطوير خطة لجذب استثمارات القطاع الخاص إلى مصر. وفي عام 2014 طلبت فرقة العمل المذكورة من توني بلير مساعدتها في نصح السيسي فيما يخصّ الإصلاحات الاقتصادية. أدّى ذلك إلى انعقاد مؤتمر للمانحين عام 2014 برعاية الإمارات والكويت والسعودية. وتمثّل جزء من توصيات المؤتمر في توفير ظروف أفضل للاستثمار، بما يشمل إحداث تغييرات في قوانين الاستثمار المصرية. يُظهر ما سبق تزامُن المساعدات الرسمية مع تحسين الظروف لاستثمارات القطاع الخاص لهاتين الدولتين الخليجيتين.

تأمين طرق التجارة

غالبًا ما نفكّر في الانتفاضات في مستوى الدولة والثورة والثورة المضادة وتغيّر القيادة. لكن سيفيدنا التفكير كذلك في أهمية المنطقة للتجارة العالمية في النفط والسلع المختلفة بين آسيا وأوروبا ومحاولة فهم مساعي الأطراف المعنيّة وتنافسها على تأمين طرق تجاريّة من المحيط الهندي عبر البحر الأحمر إلى قناة السويس. تتوضّح هذه المسألة تمامًا في حالة اليمن، بموقعه الاستراتيجي وقدرة الجماعة المسيطرة المحتَمَلة على سدّ أحد أكثر طرق التجارة عسكرةً في العالم.[8]

على مدار السنوات العشر الماضية برز السعي الحثيث إلى بناء موانئ كبرى في منطقة الجزيرة العربية، مع تصريح  دول عدّة في مجلس التعاون الخليجي بأنّها تهدف إلى تحريك التجارة إلى أراضيها مباشرةً وبعيدًا عن ميناء جبل علي في دُبَيْ، المهيمن إقليميًا. إضافة إلى المذكور وفضلًا عن استبقاء قوة كبيرة في الجزر اليمنية الرئيسية، سعت الإمارات أيضًا إلى تطوير شبكة متنامية من الموانئ التجارية عبر القرن الأفريقي، وهي الأعمال التي ترتبط غالبًا بما تُقدّمه من تدريب عسكري وشُرطي و/أو قواعد عسكرية. من الاتفاق طويل الأجل على منح ميناء السخنة عند المدخل الجنوبي لقناة السويس، إلى الاستثمار في ميناء بربرة في جمهورية صوماليلاند، التي استقلت بقرار انفرادي، تتكشّف أمامنا قصّة مُهمّة. في صوماليلاند، وقّعت شركة موانئ دبي العالمية –وهي مجموعة استثمارية مقرّها دبي تُعنى بإدارة الموانئ الدولية– اتّفاق امتياز في مايو/أيّار 2016 تنازلت لها بموجبه السلطة المحلّية عن ميناء بربرة لمدة 30 عامًا بما يشمل بناء قاعدة لوجستية وتنظيم منطقة تجارة حرة. في عام 2018 أعلنت الإمارات أيضًا عن بناء قاعدة عسكرية مجاورة لمنشآت موانئ دبي العالمية هناك. كما وقع الجيش الإماراتي اتّفاقًا مماثلاً مدّته 30 عامًا يخصّ ميناء آصاب الإريتري. لا يقتصر الأمر على أهمّيّة هذه الموانئ  للتجارة، إنّما تُعَدُّ هذه المواقع مهمّة أيضًا لشنّ الحروب. لعب ميناء آصاب دورًا مهمًا في أعمال الإمارات العسكرية في اليمن، إذ استُخدمَ  كمنصّة لشن عملياتها هناك. نُشرت قوات عسكريّة من آصاب إلى عدن، بما يشمل مقاتلين سودانيين وإريتريين كان تعاقد الجيش الإماراتي معهم.

للسيطرة على هذه الطريق التجارية المهمة التي تربط أوروبا بآسيا تداعياتٍ مستدامة. إذ تسعى القوى الإقليمية إلى درء المنافسة في المستقبل، وفي الوقت نفسه تُيسّر الاندماج بشبكة «حزام واحد طريق واحد» التي اقترحتها الصين. بالنظر إلى طرق التجارة هذه، قد نعاين طرق بناء القوة الاقتصادية والعسكرية الإقليمية بنطاقها الأعرض. ولا تقتصر الرؤية الإنمائية السائدة والمهيمنة حاليًا على النّظر إلى كلّ دولة على حدة، إنما تشمل أيضًا ضرورة ربط تنمية بنيتها التحتية بالمساعدات والعسكرة، وذلك من أجل السيطرة على المنطقة من الخليج إلى القرن الإفريقي وحتى قناة السويس، أي من أجل تمكين أطراف مثل الإمارات –على سبيل المثال– من السيطرة بقوة على حركة السلع في المناطق الساحلية والتّأثير فيها، بما يشمل السودان وجيبوتي وإريتريا والصومال وصوماليلاند.

تجارة الأسلحة وصناعات الأسلحة المحلية

إضافةً إلى عقد صفقات سلاح كبيرة والالتفاف على قرارات حظر الأسلحة، دأبت الإمارات منذ منتصف التسعينيات على تطوير صناعة أسلحة وطنية بالتعاون مع شركات أجنبية. تُصدَّر أسلحة إماراتية الصنع إلى الحلفاء، بما يُسهم في عسكرة المنطقة. على مدار العقد الماضي، أحرزت الإمارات تقدمًا ملحوظًا في جهود إنتاج الأسلحة المحلية، وذلك بالتركيز على صناعة المركبات المصفَّحة والسفن والطائرات المُسيَّرة. في عام 2019، دعمت الإمارات صناعاتها الدفاعية عبر إنشاء EDGE، وهي شركة قابضة سيطرت على سابقاتها: الصناعات الدفاعية الإماراتية، ومجموعة الاستثمارات الإماراتية المتقدمة، وتوازن القابضة، وجملة من الشركات الأصغر. مجالات عملها الخمس الأساسية هي صناعة المنصّات والنظم وتكنولوجيا المقذوفات والأسلحة والدفاع الإلكتروني والحرب الإلكترونية والاستخبارات ودعم المهام العسكرية. في عام 2020، جاء تصنيف EDGE من بين أكبر 25 جهة تصنيع أسلحة دولية. طبقاً لبيتر ويزيمان، وهو الباحث الأول في SIPRI في برنامج الأسلحة والإنفاق العسكري، فإن «EDGE تعد مثالًا مهمًا على دمج الطلب الوطني المرتفع على المنتجات والخدمات العسكرية بالرغبة في تقليل الاعتماد على المُورّدين الأجانب، وهو العامل الذي يقود نمو شركات الأسلحة في الشرق الأوسط». إن صناعة الأسلحة المحلية هذه كانت وستبقى ذات  تأثير قوي في مسار النزاعات الجارية في المنطقة.

لابد من النظر إلى هذا التطور أيضًا على ضوء صفقات التطبيع والإيماءات الودودة الأخرى تجاه إسرائيل، الأمر الذي يمثل نقلة إقليمية تحدث حاليًا بسبب تكثف حركة الأسلحة وتكنولوجيا المراقبة. وقطعًا لم تكن صفقة تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل –التي عُرفت بمسمّى «اتفاقات أبراهام»– بداية العلاقات بين الدولتين، إنما جاءت بمثابة ترسيخ لها وتصريح بوجودها. قبل الصفقة، أي في عام 2018، نقلت وسائل الإعلام قضية رُفعت في إسرائيل وقبرص ضد شركة برمجيات التجسّس الإسرائيلية «إن إس أو» بسبب بيعها برمجية «بيغاسوس» إلى الإمارات. في ذلك الحين، استخدمت الإمارات البرمجية لتسجيل محادثات عبر الهواتف الذكية فيما بين المعارضين الإماراتيين، وأيضًا للتجسس على عناصر من الأسر الحاكمة في قطر والسعودية. وكانت الإمارات قد اشترت بالفعل معدات تجسّس من شركات إسرائيلية في القطاع الخاص (تعمل خارج إسرائيل). على سبيل المثال، هناك «نظام فالكون آي» الذي يدمج بين تكنولوجيا التعرف على الوجوه وبرمجيات مسح البيانات البيومترية من وجوه الأفراد لأغراض التحليل والتعرف على الأشخاص. يتلقى النظام تغذية حية من معدات المراقبة البصرية التي تعمل على شبكة الطرق. الشركة المدبرة لنظام «فالكون آي» هي «آسيا غلوبال تكنولوجي» ومقرها سويسرا، ويملكها عميل استخباراتي سابق هو ماتي كوخافي. إذًا حتى رغم حظر الصلات «التكنولوجية» بين الإمارات وإسرائيل حينئذٍ (أي قبل اتفاق تطبيع العلاقات الرسمي) كانت هناك صفقات تتم بعيدًا عن الأضواء. لكن مع الاتفاق الجديد أصبح منتظرًا أن تزيد الصفقات. يجعل هذا التطبيع  جهازَ الدولة الإسرائيلية القمعيّ أكثر توفرًا لاستفادة الإمارات (من المهم ملاحظة أنّ التكنولوجيا التي تشتريها الإمارات من إسرائيل تُختَبر في البداية على الفلسطينيين قبل تسويقها للإمارات، التي تتوسع بدورها في استخدامها في سائر أنحاء المنطقة الأخرى).

في حين أنّ السعودية ليست بمستوى تطوّر الإمارات في ما يخص صناعة الأسلحة المحلية، فهي تبحث بوضوح عن تقليل اعتمادها على الأسلحة الدولية. في عام 2021، أُعلن أنّ السعودية ستستثمر 20 مليار دولار في صناعة الأسلحة المحلية خلال السنوات المقبلة، مع تحديد هدف شراء 50 بالمئة من الأسلحة من الصناعة المحلية بحلول عام 2030. ومع التحرّك في هذا الاتجاه، وقّعت «الصناعات العسكرية السعودية» اتفاقًا في فبراير 2021 بعمل مشروع مشترك مع شركة «لوكهيد مارتن» الأمريكية، وذلك لتحسين قدرات الصناعات الدفاعية السعودية. شركة «الصناعات العسكرية السعودية» (سامي) مملوكة لصندوق الاستثمار الحكومي السعودي، وسوف يملك الصندوق 51 بالمئة من الشراكة مع الشركة الأمريكية. إذًا، ورغم تجميد إدارة بايدن لبعض صفقات الأسلحة للسعودية بسبب الحرب في اليمن، فإنّ التعاون على بناء القدرات العسكرية والتعاون بين شركات الأسلحة مستمر.

يتّسق هذا التوجه الخاصّ ببناء القدرات العسكرية مع استخدام الإمارات والسعودية أطرافًا تقاتل بالوكالة، أي نيابةً عنها. ومن المُقدّر للأسلحة المصنعة محليًا أن تغذّي مزيدًا من النزاعات، إذ ستُوهَب هذه الأسلحة إلى الأطراف الوكيلة و/أو الحلفاء عبر المنطقة وخارجها. والحظر المفروض في حالات مثل ليبيا والاتفاقات الدولية الخاصة بتجارة الأسلحة هي إجراءات يمكن الالتفاف حولها عبر السيطرة محلّيا على الإنتاج. غنيٌّ عن القول إمكانيّة توظيف المليارات –التي ستُنفق على شراء الأسلحة وإنتاجها محليًا– بصورة أفضل في منطقة تتسم بانتشار الفقر.

مسارات المستقبل وأجندات إعادة البناء

انتهجت السعودية والإمارات سياسة خارجية عدوانية من أجل تحقيق مصالحها في شمال أفريقيا وغرب آسيا والقرن الأفريقي. وفي الوقت نفسه قمعت المعارضة الداخلية بقوة. خلال السنوات المقبلة، تهدف القوّتان إلى التأثير على أجندات إعادة البناء في كل من سوريا واليمن وليبيا والعراق، بعد حصيلة الدمار الهائل للحروب في تلك الدول. رغم أن الإمارات والسعودية ليستا على اتفاق دائم، فهما مستعدتان دائمًا للتدخل لتشكيل أجندات إعادة البناء واكتساب النفوذ السياسي والاقتصادي في تلك الدول. سوف يشتمل هذا على تقديم باقات مساعدات مُحدَّدة الأهداف، ومشروعات بنية تحتية وتشجيع الخصخصة ومشاركة المجموعات الاستثمارية الإماراتية والسعودية في اقتصادات تلك الدول.

في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، جادلَ اليسار في المنطقة بأنّ أحد أعمدة استمرار الهيمنة الأمريكية هو نظم شبه الجزيرة العربية. إن الدور الذي لعبته هذه النظم في قمع حركات اليسار وسحق الانتفاضات ليس بالجديد. لكن أهمية رأسمالها تنامت مع تحول الاقتصاد السياسي الإقليمي إلى الأسواق المفتوحة. ولقد زادت أيضًا قوتها العسكرية مع تكثيف صفقات التسليح ومع ضمّ قادة عسكريين من الجيوش الغربية إلى مناصب قيادية استشارية في ما يخصّ سير العمليات العسكرية. وفي الوقت نفسه، فإنّ استخدام الأطراف الوكيلة المُمَوَّلة والمُسلَّحة لأداء مهام تصبّ في صالح هذه الدول أصبحَ سمةً غالبة تظهر بوضوح في تدخلاتها المختلفة، سواء في اليمن أو ليبيا، لكنّ سيطرتها ليست بالأمر المحسوم. لا يزال من الصعب على الحلف السعودي-الإماراتي –وهو يعاني من انقسامات واختلافات داخلية– أن يسيطر على الأراضي، حتى من خلال الأطراف الوكيلة. الحقّ أنّه في الوقت الذي بدأت تَسْوَدُّ الصورةُ فيه أمام مختلف الانتفاضات وبينما بدا الإكراه قد نجح، ظهرت شرارة أمل، تمثلت في موجة جديدة من الاحتجاجات. بما أنّ الوضع القائم لم يتغير ولأنّ المظالم الأصلية للمتظاهرين مازالت لم تُعالَج، سيصعب على أيّ تحالف –إقليمي أو دولي– أن يحتفظ بسيطرته على المنطقة، لكنّه سيستمرّ أثناء محاولاته  تلك  في التسبّب في دمارٍ ومعاناة لا حصرَ لهما.

نبذة عن الكاتب/ة

رفيف زيادة محاضرة في السياسة والسياسات العموميّة في قسم «التنمية الدولية» في جامعة كينغز كوليدج في لندن. تهتم في بحوثاتها بالاقتصاد السياسي للبنى التّحتية للنّقل، بالحرب والإنسانية، والعنصرية، ودولة الأمن، مع تركيزٍ على الشرق الأوسط.

تشكّرات

ترجمة من الانجليزية: عمرو خيري

مراجعة وتدقيق: ياسمين حاج وغسان بن خليفة

صور بيانية: فرات شهال الركابي

تمّ دعم هذه النشرية من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ من خلال الدعم المقدم لها من وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية للجمهورية الاتحادية الألمانية . يمكن الاقتباس من هذه النشرية أو أي جزء منها مجانا طالما تتم الاشارة إلى النشرية الأصلية.

محتوى هذه النشرية هو المسؤولية الحصرية للمؤلف ولا يعكس مواقف مؤسسة روزا لوكسمبورغ

[1]  انظر-ي:

Ziadah, R. (2019) ‘The Importance of the Saudi-UAE Alliance: Notes on military intervention, aid and investment’, Conflict, Security & Development 19(3): 295–300.

[2]  انظر-ي:

Khalili, L. (2012) Time in the Shadows. Stanford University Press.

[3]  انظر-ي:

Stavrianakis, A. (2019) ‘Controlling weapons circulation in a postcolonial militarised world’, Review of International Studies 45(1): 57–76.

[4] كانت حصيلة الحرب في اليمن بشعة. وثّقت المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة مقتل وإصابة أكثر من 20 ألف مدني جراء القتال منذ مارس/آذار 2015. وأفادت وكالات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني باضطرار 3.65 مليون نسمة إلى هجر بيوتهم منذ عام 2015، وبتحوّل 24.1 مليون نسمة إلى الاعتماد على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة. دُمّرت البنية التحتية وسُجلت انتهاكات بلا حصر لحقوق الإنسان.

[5]  انظر-ي:

Blumi, I. (2018) Destroying Yemen: What chaos in Arabia tells us about the world. University of California Press.

[6]  انظر-ي:

Kamat, A. and Shokr, A. (2013) ‘Libya’, in P. Amar and V. Prashad (eds.) Dispatches from the Arab Spring: Understanding the New Middle East. University of Minnesota Press.

[7]  انظر-ي:

Hanieh, A. (2018) Money, Markets, and Monarchies: The Gulf Cooperation Council and the political economy of the contemporary Middle East, vol. 4.

[8]  انظر-ي:

Jones, T. (2012) ‘America, oil, and war in the Middle East’, The Journal of American History 99(1): 208–218.