نحو انتقال عادل في القطاع الزراعي بشمال أفريقيا
صقر النور
15 December 2021
ملخص
تهدف هذه الورقة إلى فهم وتحليل محدّدات وصعوبات الانتقال العادل للقطاع الزراعي في مصر وتونس والمغرب والجزائر، ومن ثمّة امكانات بناء هذا الانتقال العادل للزراعة ارتكازا علي المقومات المحلية والتبادل والتعاون بين صغار الفلاحين ومنظماتهم والفاعلين الاجتماعيين بتلك الدول. تبدأ الورقة بتحليل واقع السياسات الزراعية الوطنية في بلدان الدراسة وتحوّلاتها، مع التركيز على علاقات القوى على المستويَيْن المحلي والدولي وموقع هذه الدول في الاقتصاد السياسي العالمي للغذاء. بعدها نتناول مسائل التبادل البيئي غير المتكافئ والديْن البيئي والمناخي المُستَحَقّ لدول المنطقة قبل أن تُعَرِّج الدراسة الى طبيعة الممارسات والمؤسسات والشبكات الداعمة للانتقال العادل للزراعة. وتخلص الورقة ان الانتقال العادل للزراعة بشمال أفريقيا يتطلب ان يكون مبنيا على الاستقلال الذاتي وانهاء التبعية وانهاء تهميش صغار الفلاحين وتخفيف حدة التغيرات المناخية والتكيف مع اثاراها عبر اعادة بناء النظم البيئية الزراعية المحلية ووقف التدهور البيئي.
1. المقدمة
مع كل تقرير جديد من تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ يزيد التشاؤم حول مستقبلنا المناخي الذي يبدو أنّه يسير من سيّء الي أسوأ. تشهد منطقة دول شمال أفريقيا حالة من الهشاشة في مواجهة التغيرات المناخية والأزمات البيئية والتي تمثّل واقع يوميًا لملايين البشر بالمناطق القاحلة وشبه القاحلة والصحراوية. خلال العقود القليلة الماضية واصلت معدّلات الجفاف ودرجات الحرارة في الارتفاع إلى أعلى مستوياتها، ممّا يؤدّي إلى تسارع التصحر. كما تعاني المنطقة أيضًا من ندرة شديدة في المياه وتدهور جودة الأراضي وحجم الثروة الحيوانية. هذا التسارع للأزمة البيئية له آثار مباشرة وغير مباشرة على الزراعة والرعي وصيد الأسماك، ويزيد من انعدام السيادة الغذائية في المنطقة . من الجدير بالذكر أنّ سكان الريف وصغار المزارعين وعمال وعاملات المزارع هم من الفئات الأكثر فقرا والأكثر تضررًا من الأزمات الزراعية-البيئية. علاوة على ذلك، فإنّ سكان الريف يمثّلون حوالي 52٪ من إجمالي سكان شمال أفريقيا.
من ناحية أخرى، تنفث منطقة شمال أفريقيا قدرًا ضئيلًا جدا من غازات الاحتباس الحراري. اذ ساهمت القارة الافريقية مجتمعة عام 2017 بحوالي 4% من انبعاثات ثاني اكسيد الكربون عالميا وبلغ معدل الانبعاثات لكل افريقي حوالي 0.9 طن سنويا وهو الأقل عالميا.. في دول شمال أفريقيا تساهم مصر بحوالي 0.6% والجزائر 0.5% وتونس 0.1 % والمغرب 0.15% من الانبعاثات العالمية. وتظهر دراسة حديثة أنّ المسئولية التراكمية للشمال العالمي عن اطلاق غازات الاحتباس الحراي تمثل 90% في حين يتحمل الجنوب العالمي المسؤولية عن 10% فقط ومع ذلك تتحمل تلك الدول أعباء كبيرة لهذه الظواهر وهي في امس الحاجة الى انتقال عادل لتخفيف حدة التحولات البيئية والتكيف مع نتائجها.
ولا تتأثر الزراعة سلبا بسبب التغيرات المناخية وتدهور الموارد الطبيعية فقط ولكنها تمثل بدورها مصدرًا للانبعاثات. اذ تسبّبت الزراعة واستخدامات الأراضي وادارة الغابات في اجمالي نحو 23% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بين 2007 و 2016 وذلك نتيجة هيمنة نظم غذاء عالمية رأسمالية في القطاع الزراعي. هذه النظم الغذائية عالية الانبعاثات ومنخفضة القدرة على التكيف مع التغيرات المناخية تهيمن أيضا على دول شمال أفريقيا كما سنوضح لاحقا. ومن هنا تنبع أهمية مناقشة امكانات ومعوقات الإنتقال العادل للقطاع الزراعي في المنطقة.
جدول رقم (1) : بعض المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية بشمال أفريقيا
المؤشر | الجزائر | مصر | تونس | المغرب |
---|---|---|---|---|
حصة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي (%) (2020) | 14.2% | 11.5% | 11.7% | 12.2% |
نسبة القوة العاملة في القطاع الزراعي (2020) | 10% | 21% | 14% | 33% |
الميزان التجاري للأغذية الزراعية (بالمليون دولار) مع العالم / مع اوروبا (2017) * | – 9063 (العالم)
– 2815 (اوروبا)
|
– 8750 (العالم)
– 1070 (اوروبا)
|
797 (العالم)
95(اوروبا) |
242 (العالم)
1907 (اوروبا) |
الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة (مليون هكتار، عام 2018) | 7.5 | 2.9 | 2.6 | 7.5 |
٪ الأراضي المرويّة من إجمالي الأراضي الزراعية | 3.2% (2017) | 100% | 3.9% (2013) | 4.6% (2011) |
سكان الريف (بالملايين) 2020 | 11.5 | 58.6 | 3.6 | 13.5 |
٪ نسبة السكان الريفيين لجملة السكان 2020 | 26% | 57% | 30% | 36% |
Source: World bank data 2021; *O. Bessaoud, J.-P. Pellissier, J.-P. Rolland, W. Khechimi. Rapport de synthèse sur l’agriculture en Algérie. [Rapport de recherche] CIHEAM-IAMM. 2019.
شهد القطاع الزراعي في بلدان شمال أفريقيا تحولات كبيرة في العقود الأخيرة. يوضح الجدول رقم (1) أنّ حصة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الاجمالي منخفضة. سجل الميزان التجاري عجزا مع أوروبا في الدول التي شملتها الدراسة فيما عدا المغرب وتونس (انظر جدول 1). ورغم انحسار حصة القطاع الزراعي من الناتج العام الاجمالي في هذه الدول الّا أنّ القطاع الزراعي مايزال يمثل مصدرًا أساسيًا للتشغيل، خاصة في مصر والمغرب، كما أنّ نسبة السكان بالمناطق الريفية ماتزال كبيرة رغم ما تشهده الأرياف من تحضّر. شهدت دول المنطقة خلال العقود الأخيرة أيضا ارتفاعا في معدلات الفقر الريفي وسوء التغذية وزيادة التفاوت الاجتماعي.
من أجل مكافحة الجوع والتكيّف مع تغير المناخ وتخفيف آثاره على القطاع الزراعي والعاملين به وسكان الأرياف، هناك ضرورة لإحداث انتقال اقتصادي اجتماعي وبيئي في هذا القطاع. مثل العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم، طُرحت في السنوات القليلة الماضية المعارف المحلّية، الزراعة البيئية والتجديديّة، ونُظم الغذاء المحلية كحلول لأزمات النظم الغذائية والزراعية والبيئية المهيمنة في شمال أفريقيا. ومع ذلك، فإنّ هذه الديناميكيات الجديدة لم يجر توثيقها أو دراستها بالقدر الكافي، وهناك نقص في تكوين صورة عامة حول هذه التطورات في الممارسات والشبكات المختلفة الداعمة لها. يأتي هذا النقاش أيضا في ظل تنامي النقاشات حول الانتقال العادل في القطاع الزراعي والتساؤلات حول امكاناته ومحدّداته في دول شمال أفريقيا .ويُعبّر مصطلح الانتقال العادل عن مجموعة من المبادئ والعمليات والممارسات التي تؤسس تحولًا من الاقتصاد الاستخراجي إلى الاقتصاد البيئي منخفض الكربون دون ترك أي بلد يتخلف عن الركب. ظهر مفهوم الانتفال العادل بدايةً عبر النقاشات بين الحركة البيئية والحركة العمالية في أمريكا الشمالية ثم تطور في التسعينات كمفهوم مرتبط بالعمّال ليعبّر عن ضرورة خلق عمل لائق ووظائف خضراء، وقد اعتمدته منظمة العمل الدولية كما سُلّط عليه الضوء في اتفاقية المناخ بباريس. لكن في الآونة الاخيرة أصبح المفهوم أكثر شمولاً ويدمج الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لا فقط داخل نطاق الدولة القومية، ولكن على المستوي العالمي.
هذا التعريف الأوسع والأكثر جذرية لـ “الانتقال العادل” يفتح المجال للنقا حول إعادة هيكلة اجتماعية واقتصادية طموحة تعالج جذور عدم المساواة في القطاعات المختلفة. كما أنه يفتح المجال ايضا للاشتباك مع قضايا النوع الاجتماعي والطبقة وكذلك مناهضة الاستعماري بأشكاله المتعدّدة في علاقتها بالانتقال نحو عالم منخفض الكربون. في هذا السياق، نناقش تحدّيات ومقومات وملامح الإنتقال العادل للزراعة في شمال أفريقيا.
تهدف الورقة الراهنة إلى معالجة هذه المسائل من خلال تقييم ومقارنة تحولات السياسات الزراعية في الجزائر ومصر والمغرب وتونس وامكانات بناء انتقال عادل للزراعة. نفترض بأنّه من أجل فهم دقيق لواقع السياسات الزراعية الوطنية وتحولاتها من المهمّ أن تشمل مناقشتنا الجهات الفاعلة الرئيسية في القطاع الزراعي، الى جانب تحليل علاقات القوى على المستوي المحلي والدولي وموقع المنطقة في الاقتصاد السياسي العالمي. تحتوي هذه الورقة ثلاثة أقسام، أولها يهتمّ بدراسة وتحليل السياسات الزراعية والمحدّدات الهيكلية للتنمية الزراعية بالمنطقة في حين يناقش ثانيها مسألة الديْن البيئي والمناخي وآثار عمليات التبادل البيئي غير المتكافئ على حالة الموارد الطبيعية وفرص التنمية بالمنطقة. وثالثها يناقش الممارسات الفعلية للزراعة البيئة والتجديدية والمبادرات المحلية وشبكات الفاعلين من أجل بناء تحول عادل للزراعة بشمال أفريقيا.
2. تحولات السياسات الزراعية بشمال أفريقيا
نحاول في هذا القسم تقديم قراءة تحليلية للتحولات في النفاذ للموارد والسياسات الزراعية في دولة ما بعد الاستعمار وواقع القطاع الزراعي والمجتمعات الريفية والموارد الطبيعية في بلدان المنطقة. يمكّننا ذلك من فهم تحولات الاقتصاد الزراعي والسياسات الزراعية في دول المنطقة وتحولات نموذج التنمية المهيمن. لا نقدم هنا مقارنة تفصيلية، ولكن قراءة متقاطعة لبعض القرارات والسياسات المركزية التي أحدثت نقلات نوعية في بنية السياسات الزراعية بدول شمال أفريقيا.
- 1.1 النفاذ للأراضي والمياه في دولة ما بعد الاستعمار
كانت المسألة الزراعية والنقاشات حول المستقبل الاقتصادي والاجتماعي حاضرة اثناء النضال ضد الاستعمار وفي أعقاب تحقيق التحرّر الوطني.مع نهاية الحقبة الاستعمارية اتخذت الدول المختلفة مسارات متعددة لإدارة مواردها الزراعية وميراثها الاستعماري. ومثلت المسألة الزراعية الموروثة عن الاستعمار لدى اغلب القوى الوطنية موضوعا سياسيا حاسما مع ميلاد دول ما بعد الاستعمار. لذلك شهدت السنوات 1950-1970 تحولات حاسمة في مسار السياسات الزراعية وواقع المجتمعات الريفية في بلدان شمال أفريقيا حيث طبقت كل من الجزائر ومصر وتونس والمغرب نماذج متعددة من الاصلاح الزراعي.
في الجزائر اعتمدت جبهة التحرير الوطني الإصلاحات الزراعية المستندة إلى التسيير الذاتي والثورة الزراعية المطبقة غداة الاستقلال (1962). عززت هذه السياسات التنمية الريفية وسهلت النفاذ للأراضي لصغار الفلاحين والفلاحين دون أرض، علاوة على تقديم الدعم الاجتماعي والتقني لهم كذلك أعيد توزيع 250 ألف هكتار على قدماء المجاهدين من خلال تجميعهم في 250 تعاونية فلاحية انتاجية. وُزِّعت أراضي المستعمرين على 2200 مزرعة وكان معظمها كبير بمتوسط 1000 هكتار وباجمالي مساحة 2.5 مليون هكتار. وخلال السبعينيات، أُمّمت ممتلكات الأراضي التي لم يزرعها أصحابها، وقُيّدت حيازات الأراضي الكبيرة. في المغرب احتلت المسألة الزراعية مكانة أساسية في الإدارة السياسية للمجتمع. كان هاجس التحديث الزراعي حاضرا منذ الاستقلال، وفي عام 1962 تأسس المعهد الوطني للبحث الزراعي بهدف تحديث القطاع الفلاحي وإعداد فلاحة ناجعة مرتكزة على الابتكار والتجديد. تحت ضغط النقاشات التي طرحتها نقابة الاتحاد المغربي للشغل وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية وحزب الاستقلال في البرلمان، أقرت الحكومة قوانين الاصلاح الزراعي في عام 1963 لاسترجاع اراضي المستعمرين على مرحلتين تنتهيان عام 1973. وفي عام 1969 أُقٍرّ ميثاق الاستثمارات الفلاحية، وفي عام 1972 القانون المتعلق بمنح الفلاحين أراضي فلاحية من ملك الدولة الخاص، وبعده القانون المتعلق بالتعاونيات الفلاحية المؤسَّسة بين الفلاحين الممنوحة لهم القطع الأرضية المحدثة في العقارات الجماعية القديمة. وقد مثّل القطاع الاستعماري في المغرب أكثر من مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة. قام النظام الملكي بإعادة توزيع الأراضي التي كانت بحوزة الاستعمار الفرنسي على النخب الريفية لتأمين سلطته وشراء ولاءاتها للمخزن. كما استثمرت الدولة بشكل أساسي في بناء السدود ومشاريع ريّ واسعة النطاق وتنمية طبقة جديدة موالية من المزارعين المتوسطين. ومع ذلك ظلّ نظام التحكم في الأراضي تحت سيطرة الدولة ويُستخدم كأداة لضمان الولاءات وخفض توتر أو احتجاج المجموعات التي لا تملك أراضي.
في تونس بعد ثلاثة سنوات من الاستقلال، وعبر قانون 48 بتاريخ 7 مايو 1959، استحوذت الدولة على العقارات الفلاحية المهمَلة أو غير المستغلة والأحباس وشمل هذا القرار الاراضي المشاع وقُدّرت المساحة بحوالي 500 ألف هكتار. وفي 12 مايو 1964 صدر قانون تأميم الاراضي الاستعمارية وقُدرت المساحة بحوالي 300 ألف هكتار. قبل نفاذ هذا القانون استطاع بعض الأعيان المحليين وبعض التجار وأصحاب المهن الحرة والأعضاء النافذين في حزب الدستور (الحاكم) من شراء جزء من الأراضي الاستعمارية. نتيجة لهذه العملية تكوّن لدى الدولة التونسية بنهاية الستينيّات ملكية عقارية زراعية تقدر بحوالي 800 ألف هكتار بما يقارب 10% من مساحة الاراضي الزراعية بتونس . ساهمت هذه الاراضي في تدشين التجربة الزراعية التعاونية (التعاضدية) بتونس والتي لم تستمر كثيرا، اذ تفككت عام 1969، أي بعد ثماني سنوات من انطلاقها. بعد ذلك بدأت تونس في التحول نحو المسار الليبرالي بشكل مبكر بخصخصة الاراضي الجماعية عبر قانون 14 يناير 1971، وقد استفادت القيادات المحلية والمتنفّذين من هذا التشريع
وفي مصر يحتل الإصلاح الزراعي مكانة مركزية في قراءة الحقبة الأولى لنظام يوليو 1952. قام الإصلاح الزراعي بإعادة توزيع حوالي 343 ألف هكتار في الفترة بين 1952 و1970 أي نحو 12.5% من الأراضي الزراعية، وقد وُزِّعت على 343 ألف أسرة تضم نحو 1.7 مليون فرد، أي نحو 9% من سكان الريف في تلك الفترة . ويمكن تلخيص الوضع بعد نهاية الحقبة الناصرية بأنّ تغيرات مهمة طرأت على الخريطة الطبقية والاجتماعية في القرى منذ سنة 1952.حيث فقد الكثير من كبار الملاك العقاريين والنافذين سياسيًّا جزءًا كبيرًا من أراضيهم بينما زادت المساحة المملوكة للفلاحين الصغار والمتوسطين وتحقق الأمان الإيجاري للمستأجرين وتحسنت أوضاع الفلاحين دون أرض وعمال الزراعة بشكل طفيف. ساهمت أدوات “الثورة الخضراء” التي تبنتها تلك الدول والتي تمثلت في استخدام الميكنة الزراعية والاعتماد على الاسمدة الكيماوية والمبيدات الحيوية والاصناف الهجينة من البذور في زيادة الانتاج الزراعي.
رغم تعدد اشكال ادارة الاراضي وتحقيق قدر من التنمية الزراعية الا ان النماذج التنموية التي اتخذتها دول شمال أفريقيا خلال العقدين الأولين تقريبًا بعد الاستقلال اتسمت بتمركزها حول تحديث القطاع الزراعي والحفاظ على المزارع الكبيرة سواء عبر ادارة الدولة أو عبر التعاونيات، التي كانت شديدة المركزية والرقابة. وقد تبنت هذه الدول بدرجات مختلفة سياسات تقدمية و/أو رأسمالية الدولة و/أو سياسات الثورة الخضراء سواء عبر الدعم التقني والمادي أو عبر دعم مستلزمات الانتاج أو من خلال بعث مشروعات ريّ كبيرة ودعم المعرفة الزراعية الحديثة ونشر الارشاد الزراعي وتأسيس مراكز بحثية ومدارس زراعية وبناء تعاونيات زراعية. تميزت تلك الحقبة بخطاب للدولة منحاز للتحديث والزراعة التجارية والتصديرية وتهميش الزراعة الصغيرة/العائلية والمعاشية. في نفس الوقت الذي هيمنت فيه سياسات تحقيق الاكتفاء الذاتي، فيما يتعلق بالأغذية الأساسية مثل الحبوب، استمرّ التركيز على المحاصيل التصديرية التي كانت تهيمن على المزارع الاستعمارية (مثل الحوامض والكروم والخضروات والقطن والزيتون).
- 1.2 التحولات النيوليبرالية وآثارها على الموارد الزراعية
منذ الثمانينيات، بدأ الانعطاف نحو سياسات الليبرالية الجديدة لدول شمال أفريقيا عبر تحرير السوق بضغط من المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي). اذ خضعت هذه الدول الى مشروطيّة تطبيق “توافق واشنطن” فبدأت تدريجيًا تحرير التجارة الخارجية وخفض سعر العملة المحلية وإحكام سيطرة السوق بتوالي خصخصة الشركات العمومية والتصفية التدريجية للخدمات العامة، وأُعطيَت الأولوية لخفض الديْن العامّ وتقليص الإنفاق الاجتماعي وخفض معدلات التوظيف في القطاع العام.
أحدثت هذه التحولات في بلدان شمال أفريقيا تغييرا كبيرا في إدارة المياه والأراضي الزراعية في المناطق الريفية؛ انسحبت الدولة من إدارة الموارد الطبيعية وتركت مساحة أكبر للقطاع الخاص. وقد أدى ذلك إلى زيادة نفاذ شركات الاستثمار الخاصة في الزراعة واستحواذها على الأراضي والمياه، خاصة في المناطق الصحراوية الشاسعة اعتمادا على المياه الجوفية عبر تسهيلات الحصول على الأراضي التي تقدمها الدولة لكبار المستثمرين الزراعيين.
في الجزائر، اُنهيَت مزارع الدولة وقُسِّمَت إلى مزارع أصغر (10-70 هكتارًا). في عام 1987 انتقلت هذه الأراضي تدريجيا إلى أيدي المستثمرين الزراعيين. ورافق هذا التغيير التحرك تدريجيا نحو قوانين السوق: حُرّرت أسعار مستلزمات الانتاج الزراعي منذ الثمانينات بشكل تدريجي وارتفعت أسعار الأسمدة والمبيدات والمعدات الزراعية ونتج عن ذلك زيادة اسعار المنتجات الزراعية. وبعد توقيع الجزائر على اتفاقية مع صندوق النقد الدولي عام 1994 رُفع الدعم عن جميع مستلزمات الانتاج الزراعي. في المغرب زادت حدّة التحولات النيوليبرالية في القطاع الزراعي في العام 2003 حيث تمّ خصخصة الشركتين العموميتين اللتين كانتا تديران الجزء الأكبر من الأراضي المسترجَعة، وهما شركة التنمية الفلاحية (صوديا) وشركة تسيير الأراضي الفلاحية (صوجيطا)، وتحولت ملكية 90% من الأراضي الزراعية الاستعمارية السابقة الى يد شريحة من الرأسماليين وأعيان الدولة الكبار في الإدارة والجيش والأمن. أمّا في تونس فقد طُبِّقت السياسات النيولبيرالية مبكّرا قبل توقيع برنامج التكييف الهيكلي مع البنك الدولي عام 1986. فقد اتجهت الدولة نحو توجيه الانتاج الزراعي نحو التصدير والمحاصيل عالية القيمة المضافة وتوفير التمويل للاستثمارات الزراعية وانهاء تسويق الدولة للمنتجات الزراعية . صاحب هذه السياسات ايضا انسحاب تدريجي للدولة من القطاعات الزراعية التقليدية..
وفي مصر ومنذ العام 1979 انتُهجت سياسات الانفتاح الاقتصادي وتمّ تفكيك المزارع المملوكة للدولة ووقع إعادة النظر في قوانين الاصلاح الزراعي وحلّ الاتحاد التعاوني الزراعي. كذلك اتخذت الدولة مجموعة من الإجراءات لتقليص الدّعم على الفلاحين بالوادي والدلتا مثل: تحرير أسعار توريد المحاصيل الزراعية والغاء دعم المبيدات والاسمدة والسماح للقطاع الخاص بالاتجار في مستلزمات الانتاج الزراعي . وأُلغيَ الحدّ الأقصى لملكية اراضي الاستصلاح للشركات الزراعية وتسهيلات تمكين المستثمرين من الاراضي. وفي عام 1992 صدر قانون تنظيم العلاقات الايجارية بين المالك والمستأجر (قانون 96 لسنة 1992) والذي أنهى الأمان الايجاري وتسبَّب في موجة من الاحتجاجات في الريف المصري. في جميع بلدان شمال أفريقيا، اهتمت الدولة بالتوسع في الزراعة الصحراوية من أجل التصدير وتوسيع تسليع اراضي الدولة وتوفيرها للمستثمرين الزراعيين. منذ التسعينيات، كانت سياسات التنمية الزراعية في الصحراء تُعتَبر الحلّ لتوفير أو انتاج المواد الغذائية في بلدان شمال أفريقيا .كانت سياسات التوسع الزراعي في الصحاري مدعومة من المؤسسات المالية الدولية وكانت مستوحاة من التجربة كاليفورنيا، أي تكثيف رأس المال والتكنولوجيا واستنزاف الموارد المائية والارضية من أجل انتاج محاصيل ذات قيمة مضافة عالية للتصدير.
أدّت هذه التحولات الى انهاء سياسات الاكتفاء الذاتي للغذاء. وذلك من خلال وقف دعم الانتاج المحلي والتوجه الى سياسات الأمن الغذائي، والتي تعني الحصول على الغذاء من أيّ مصدر سواء عبر انتاج الاستثمارات المحلية أو الاستيراد أو الاعانات الغذائية. كما حدثت تحولات كبرى في النُظم الغذائية وشهدت الدول ارتفاعًا في أمراض التغذية وزادت التبعية الغذائية واصبحت الجزائر أكبر مستورد للقمح في العالم وتتنافس في ذلك مع مصر.
يمكن تلخيص أهم الملامح الرئيسية للنظام الغذائي-الزراعي المهيمن في بلدان شمال أفريقيا بعد حوالي أربعين عامًا من تطبيق السياسات النيوليبرالية بالنقاط التالية:
- إلغاء دعم صغار الفلاحين وانسحاب الدولة التدريجي من كل أشكال السند التقني والعيني للإنتاج الزراعي الفلاحي والواحي، ويتضمّن ذلك تخلّيها عن دورها في التحكم في العمليات والممارسات الزراعية من التسميد ونوع البذور والمبيدات مركزيًّا، وكذلك تسعير مُدخلات الزراعة أو مُخرجاتها وترك كل ذلك لقوى السوق، وتخليها عن دعم مستلزمات الإنتاج، وكذلك الدعم الائتماني. وإطلاق حرية القطاع الخاص في استيراد وتداول المستلزمات.
- الترويج لنمط الإنتاج الكبير ودعم نموذج المزارع الزراعية الشاسعة، على غرار نموذج كاليفورنيا. وذلك عبر استصلاح الصحراء وتسهيل حصول المستثمرين الزراعيين على مساحات شاسعة من الأراضي، بالشكل الذي يعيد انتاج الاستعمار الجديد عبر استحواذ القلة على الأراضي ويَظهر ذلك بوضوح في حالات كُلٍ من المغرب ومصر.
- تبنّي سياسة الزراعة من أجل التصدير، بمعنى خلق حوافز للتصدير وتقديم تسهيلات لبناء مبرّدات بالمطارات وأيضًا إعطاء حوافز مالية للتصدير عبر صناديق دعم الصادرات والانخراط في منظومة علاقات تجارية دولية تُحقّق مصالح الشمال العالمي وليس مصالح السكان المحليين، ويتضّح ذلك في كُلٍ من المغرب وتونس ومصر
- هيمنة نمط غذائي استهلاكي مُعوْلم وعالي في استهلاك الكربوهيدرات الرخيصة مُحدثا ارتفاعا في معدلات الأمراض المرتبطة بالغذاء وارتفاع معدلات السمنة وسوء التغذية. واستبدال سياسات الاكتفاء الذاتي من الغذاء بسياسات الأمن الغذائي، بمعنى الحصول على الغذاء من أي مصدر بدلًا من إنتاجه محليا في جميع بلدان الدراسة.
- 1.3 الوضع الراهن: زراعة فلاحية مهمشة وزراعة رأسمالية استخراجية
بعد انحسار سياسات الرفاه لحكومات ما بعد الاستعمار في طور السياسات النيوليبرالية أعيد انتاج شكل أكثر محلية من الثنائية التي كانت حاضرة في الحقبة الاستعمارية: بين قطاعين زراعيّين، أحدهما يتمتع بالتطور وبالحيازات الكبيرة ودعم السلطة والآخر يوصم بالتأخّر ويَلقى التهميش ويمثل زراعات صغار الفلاحين في السهول والأودية والواحات والزراعات المطرية.
في شمال أفريقيا تُعَدُّ الزراعة قطاعا رئيسيا لتوظيف النساء، حيث تُوظِّف حوالي 55 في المائة من عمالة الإناث في مقابل 23 في المائة فقط من عمالة الذكور. يزيد أعداد العمال الموسميّين المهاجرين مع هجرات النساء والرجال الاقتصادية أو من جراء الحروب والنزاعات. في مصر، على سبيل المثال، وفقا للتعداد الزراعي لعام 2010 وصل إجمالي العاملات في القطاع الزراعي الى خمسة ملايين سيدة، تعمل 40% منهنّ دون أجر لدى عائلاتهنّ. مع نمو أشكال الزراعة الراسمالية زادت عمليات تأنيث العمل الزراعي والاعتماد بشكل كبير على الفتيات من سنّ صغير (يبدأ أحيانا من عمر 8 سنوات) في ظل ظروف عمل شديدة السوء. يَطرح العمل في القطاع الزراعي إشكاليات عديدة مرتبطة بظروف الشغل والمسائل الصحية وتقسيم العمل محليا ودوليا وعلاقة ذلك بتمكين النساء وتحقيق التنمية. تكتسب أوضاع عاملات المزارع أهمية خاصة في ظل اللحظة الحالية المرتبطة بالأزمة الصحية ومخاوف تكرار أزمة غذائية جديدة تزيد بُعدا إضافيا إلى الأزمات التي تشهدها المنطقة.
الزراعة أيضا هي واحدة من أكثر القطاعات الإنتاجية خطورة في العالم. وفقًا لتقديرات مكتب العمل الدولي، يُقتل حوالي 170.000 عامل أو عاملة زراعي كلّ عام. وهذا يعني أنّ العمال في الزراعة يتعرضون على الأقل لخطر الوفاة في العمل بمقدار الضعف مقارنة بالعاملين في القطاعات الأخرى. كما أنّ الملايين من العمال والعاملات الزراعيين يتعرّضون لإصابات عمل خطيرة في حوادث مرتبطة بالأدوات الزراعية أو التسمّم بالمبيدات الحشرية والمواد الكيميائية الزراعية الأخرى. علاوة على ذلك، بسبب قلّة الإبلاغ عن الوفيات والإصابات والأمراض المهنية في الزراعة، من المرجح أن تكون الصورة الحقيقية للصحة والسلامة المهنية لعمال المزارع أسوأ في دول المنطقة.
الأوضاع المتدهورة للزراعة بشمال افريقيا مدعومة بالعلاقات غير المتكافئة في النظام العالمي للإنتاج والاستهلاك. فدول المنطقة تخضع الى أحد اشكال التبادل غير المتكافئ مع الشمال العالمي، خاصة الاتحاد الاوربي محكومة بالاتفاقيات التجارية التي تدعم وصول المنتجات الزراعية لدول شمال أفريقيا الى الاتحاد الأوربي بأسعار تفضيلية للمستهلك الاوروبي وتسهل استغلال موارد المنطقة وفارق أجر العمل في القطاع الزراعي بالجنوب واستخلاص فائض القيمة لصالح المستهلك الاوربي. يتحمل الاتحاد الأوروبي مسؤولية كبيرة عن هيمنة الزراعة التصديرية بدول المنطقة باعتباره أكبر شريك تجاري لدول شمال أفريقيا وممول رئيسي لنموذج التنمية النيوليبرالي بالمنطقة. وبالتالي يؤثر على سياسات التنمية وعلى خطط التجارة والزراعة المهيمنة بالمنطقة. فالاتحاد الأوروبي يتبنّى شعار “التجارة من أجل التنمية” ويضغط بدعم من النخب المحلية من أجل توقيع اتفاقيات تجارية حرّة ومعمقة مع دول شمال أفريقيا تزيد من أزماتها الهيكلية .
يرى منظرّو التبعية أنّ الاستعمار ربما يكون قد رحل لكن نموذج التنمية للحقبة الاستعمارية ظلّ مهيمنا بدرجات مختلفة مكرّسا التفاوت بين الشمال والجنوب العالميين. ومع العصر النيوليبرالي لعب المستعمرون السابقون دورًا مركزيًا في ادماج اقتصاديات الدول المجاورة في الاقتصاد العالمي ومنظومة التجارة العالمية، خاصة في منظومة الاتحاد الأوروبي، كأطراف تابعة. تتطلّب تلبية احتياجات السوق الاوروبي التركيز على زراعة المحاصيل الأحادية والمزارع الكبيرة والالتزام بمتطلبات الذوق العام الاوروبي في طريقة اعداد زيت الزيتون مثلا أو زراعة أصناف محددة من التمور، أو الفراولة، أو اللأزهار أو التخصص في زراعة اصناف محددة من الحمضيات.
خلقت هذه السياسات والممارسات الزراعية وضع بيئي للقطاع الزراعي يعبّر عن ثنائية أخرى. من ناحية هناك استنزاف للموارد البيئية من أرض ومياه من قبل الزراعة الرأسمالية التي ترتكز على تكثيف رؤوس الأموال والطاقة وتزيد من هشاشة أوضاع العاملات وعمال الزراعة وزيادة التفاوت وتمركز الملكية العقارية الذي يظهر ذلك بشكل واضح في الزراعة الصحراوية، حيث تُخَصَّص مساحات شاسعة لكبار المستثمرين في حين يحصل الفلاحون الصغار على مساحات محدودة. ومن ناحية أخرى هناك تدهور في الموارد في الواحات والمناطق الريفية نتيجة لغياب دعم الزراعة الفلاحية الصغيرة. أضف إلى ذلك أنّ ميراث “الثورة الخضراء” من تكثيف للأسمدة والمبيدات والبذور الهجينة قد أدى إلى اهمال النظم الزراعية والبيئية المحلية الموروثة. وهو ما تسبب في تدهور الموارد الطبيعية من أراضِ ومياه وفقدان التنوع الحيوي للبذور والاخلال بالتوازن في التبادل بين الانسان والبيئة مُحدِثًا ما يُعرف بالتصدّع في التبادل المتكافئ الاجتماعي-الإيكولوجي Metabolic Rift
3. الانتقال العادل: مواجهة التبادل البيئي غير المتكافئ
رغم أهمية مفهوم “التبادل غير المتكافئ”، الذي طرحته مدرسة التبعية والذي يركز كما أشرنا على حركة قوة العمل ورؤوس الأموال، نرى أنّ فهم امكانات الانتقال العادل يستوجب منّا النظر الى عملية التبادل البيئي غير المتكافئ، وهو مفهوم أشمل ويتطلبُّ تحديدا النظر إلى أربع مجموعات من الموارد: 1) المواد الخام والطاقة المستخدمة في انتاج السلع والخدمات، 2) الأرض المطلوبة بشكل مباشر أو غير مباشر لإنتاج تلك السلع،3) الخدمات المستهلكة لإنتاج تلك السلع،4) العمل المنفق في سلاسل التوريد. تحدُّ مثل هذه التدفقات غير المتكافئة اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا من قدرة دول الجنوب على تحقيق التنمية الذاتية.
وفي دول شمال أفريقيا يبدو جلّيًا أنّ التبادل البيئي غير المتكافئ تاريخيا يُركّز على التبادل مع الدول الاوروبية ويتمثل في تخصيص الموارد المائية والأرضية والمناخية والطاقة وقوة العمل من أجل انتاج الغذاء لأوروبا، ومن ثمّة تحميل الدول الأولى التكاليف البيئية وتدمير بيئاتها المحلية واستنزاف مواردها الطبيعية وتوليد فائض من خلال التجارة الدولية للشركات الاوروبية والنخب المحلية. وهذا بدوره له آثار بعيدة المدى على استدامة الموارد والطاقة والاراضي بدول شمال أفريقيا وعلى قدرتها على بناء سياسات للسيادة الغذائية ولتحقيق الانتقال العادل محليا. يؤدي هذا التبادل البيئي غير المتكافئ الي استدامة نمط عيش امبريالي في المراكز الرأسمالية في الوقت الذي يَحُدُّ فيه من فرص حدوث انتقال عادل في الجنوب. فما يتم طرحه على أنّه انتقال عادل بيئيا واجتماعيا لأوروبا ليس بالضرورة كذلك للأطراف المُلحَقة بالقارة في جنوب المتوسط وغرب أفريقيا.
تتجاهل النقاشات حول الانتقال البيئي التي تتناول فقط المراكز الرأسمالية، سواءٌ من حيث أزمة نمط الانتاج أو الاستهلاك الغربي أو طرح التكنولوجيا كحل للأزمة البيئية (الحداثة البيئية)، تماما واقع الكثير من دول الجنوب وامكانات ومعوقات تحقيق تحوّل عادل لصالحها. يدفعنا هذا الى نقد الخطاب الليبرالي، الذي يتم تصويره على أنّه عالمي في الوقت الذي يتغاضى بدرجة كبيرة عن مسائل الدين البيئي والمناخي للدول الصناعية الكبرى. انّ طرح الدين البيئي كنتاج تدمير البيئة الطبيعية في شمال أفريقيا ومسألة تصدير الخضروات والفاكهة والعمالة الرخيصة الى أوروبا، والتي تعمل في ظل ظروف عمل غاية في السوء كما أوضحته الدراسات حول العاملات المغربيات بمزارع جنوب اسبانيا والتكلفة الاجتماعية والاقتصادية والبيئة لهذا التبادل غير المتكافئ، يجب أن تكون في قلب النقاشات حول الإنتقال العادل للزراعة بشمال افريقا. وهناك تقديرات عديدة لحجم الدين المناخي. مثلا في قمة كوبنهاجن، قدّرت دراسة للمعهد الدولي للبيئة والتنمية تكلفة التغير المناخ في البلدان النامية بما يصل إلى 6.5 تريليون جنيه إسترليني على مدى السنوات العشرين القادمة. وأوضحت دراسة أخرى للبنك الافريقي للتنمية أنّ تكاليف التكيف في إفريقيا تتراوح بين 20 و 30 مليار دولار أمريكي سنويًا على مدى السنوات العشرين القادمة. أمّا في دول الدراسة فتعطينا مراجعة تقارير دول المنطقة حول مساهمتها، والتي تم تقديمها الى أمانة اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ بعد قمة باريس المناخية، عن خطط خفض الانبعاثات والتكيف مع التغيرات المناخية وتصورات هذه الدولة عن تكلفة إحداث هذه التغيرات. أوضحت تونس أنّه لتحقيق انخفاض في الانبعاثات، بمقدار 41% بحلول العام 2030 مقارنة بمستوى عام 2010 وللتكيف مع آثار التغيرات المناخية،تحتاج الدولة تمويلا دوليا وبناء قدرات ونقل تكنولوجيا يقدره التقرير بحوالي 20 مليار دولار امريكي. بينما قدرت المغرب عن التزامها بخفض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 42٪ وتبلغ التكلفة الإجمالية للوصول إلى هذا الهدف 50 مليار دولار أمريكي في حين حددت مصر احتياجها الي 73 مليار دولار لتخفيف اثار التغيرات المناخية دون تحديد أهداف محدّدة كمّيا ولا خططا لخفض الانبعاثات ، بينما أوضحت الجزائر عن خططها للحدّ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 22٪ بحلول عام 2030، بشرط الدعم الخارجي من لجهة التمويل وتطوير التكنولوجيا ونقلها وبناء القدرات دون أن تحدّد قيمة هذا الدعم أو تكلفة التخفيف والتكيف. وهذه الأرقام أقل بكثير من دعم التنمية الذي تحصل عليه تلك الدول ومن الأعباء الاقتصادية للتغيرات المناخية، لكنّها تعبّر عن شقٍ يسير من المسئولية العالمية في تحمل آثار وتبعات التغيرات المناخية.
4. آليات بناء الانتقال العادل للزراعة الشمال افريقية: الزراعة الفلاحية البيئية والتجديدية
تندمج دول شمال أفريقيا بدرجات وطرق مختلفة في النظام الغذائي العالمي المعاصر، الذي تهيمن عليه الشركات عابرة الجنسيات والساعية نحو تحقيق الارباح والزراعة من أجل التجارة الدولية والتصدير. يتسبّب هذا النمط كما أوضحنا في تدهور البيئات الطبيعية والموارد بشكل متسارع ويُهمّش صغار الفلاحين والمجتمعات المحلية.
تحتاج المنطقة اذن الى إعادة رسم سياساتها الزراعية والبيئية والغذائية وسياسات الطاقة. من الضروري أن تتمركز هذه السياسات البديلة حول الداخل وعلى فكّ الارتباط مع خطط وأهداف ورؤى المركز الأوروبي.
لن ينزل هذا الانتقال العادل من الأعلى، مثل المخططات والسياسات التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية، ولكن يُبنى محليا من خلال الممارسات والنضالات اليومية للعاملين في الزراعة والناشطين والفاعلين المحليين بالمنطقة. تؤكد الملاحظات ـنّ بعض ممارسات الفلاحين والأفكار الآخذة في الانتشار في دول المنطقة تتقاطع مع مبادئ الزراعة البيئية التجديدية وتُمثّل بذور/لبنات الإنتقال البيئي في القطاع الزراعي. يحدُثُ تبنّي هذه الممارسات نتيجة لأسباب مختلفة، منها حاجة الفلاحين الصغار لمواجهة التحولات المناخية وارتفاع أسعار المبيدات والأسمدة الكيماوية، إلى جانب نمو قطاعات من السكان بالحضر والريف مهتمة باعادة استخدام تكنولوجيا زراعية قديمة أو ابتكار أفكار جديدة لمواجهة ندرة المياه وتدهور التربة وارتفاع درجات الحرارة. تمثّل هذه الممارسات الميدانية، التي تحدث على أرض الواقع، نقطة انطلاق ممكنة لبناء سياسات الانتقال العادل من أسفل الى أعلى وليس العكس. انّ الإنتقال العادل يجب أن يُمكّن السكان المحلّيين ويعيد تعريف التنمية بمضامين تشمَلُ المشاركة وصون وتجديد الموارد.
وتُعَرّف الزراعة البيئية بأنّها علم وممارسة وحركة اجتماعية تهدف الى انتاج كمية مناسبة من الغذاء عبر الاستغلال الأمثل للعمليات البيئية وخدمات النظم البيئية. والفكرة الرئيسية لعلم الإيكولوجيا الزراعية هي تجاوز النموذج المهيمن وتطوير نظم إيكولوجية زراعية بأقلّ قدر من الاعتماد على المُدخلات الملوثة للبيئة. الزراعة التجديدية هي إحدى فروع الزراعة البيئية وتمثّل خيارًا أكثر استدامة للنظم الزراعية. الزراعة البيئية والتجديدية Regenerate agriculture and agroecology هي الأكثر ارتباطا بمواجهة التغيرات المناخية حيث أنها تركّز علي صحة التربة وزيادة المكوّن الحيوي بها وعلى اعادة انتاج التنوع الييولوجي وكذلك تخزين الكربون بالتربة. ويمكن تلخيص فلسفة الزراعة البيئية التجديدية في ثلاثة نقاط: 1) الترابط بين جميع أجزاء النظام الزراعي، بما في ذلك المُزارع وعائلته؛ 2) أهمية التوازنات البيولوجية؛ و3) الحاجة إلى مضاعفة العلاقات البيولوجية المرغوبة في النظام، وتقليل استخدام المواد الكيماوية والممارسات التي تعطل تلك العلاقات.
تمكّن الزراعة البيئية والتجديدية الفلاحين من زيادة الإنتاج وتلبية الاحتياجات الغذائية وخفض آثار التغيرات المناخية واعادة إحياء بيئتهم الطبيعية والزراعية، كما أنّه يطرح علاقات النوع الاجتماعي قائمة على المساواة. سأركّز في القسم التالي على بعض الممارسات والمبادرات المحلية التي تندرج ضمن ممارسات متعلقة بالزراعة البيئية والتجديدية التي يطبقها صغار المزارعين وتدعمها حركات اجتماعية أو مؤسسات علمية.
الممارسات المرصودة حول الزراعة البيئية والتجديدية والسيادة على الغذاء
يوضح الجدول رقم (2) بعض الممارسات المتعلقة بالزراعة البيئية والتجديدية، والتي تمّ رصدها عبر الدراسات حول المعارف المحلية والأصيلة المرتبطة بالمحافظة على المياه في شمال أفريقيا أو عبر الدراسات القليلة التي تناولت الزراعة البيئية والتجديدية، في ثلاث دول في المنطقة المغاربية وهي تونس والمغرب والجزائر. وأيضا ملاحظاتي الميدانية في ريف مصر وتونس والمغرب من 2008 الى 2019 واللقاءات مع باحثين وناشطين في شبكة شمال أفريقيا للسيادة الغذائية.
توضِح هذه الملاحظات والدراسات كما هو مبيّن بالجدول رقم (2) أنّ هذه الممارسات ترتبط بزيادة الكتلة الحيوية بالتربة وضمان مستوى عالٍ من المادة العضوية فيها وتعزيز التنوع البيولوجي وزيادة التفاعلات البيولوجية والفاعلة بين مكونات النظام البيئي الزراعي لاستمرار تجدّدها وحفظ المنظر الطبيعي- الزراعي وصيانة الموارد المائية وتوفير المياه وتحسين سُبُل عيش العاملين بالزراعة وتوفير غذاء آمن وصحي ومناسب ثقافيا للسكان المحليين.
الجدول رقم (2) : رصد لأهم الممارسات الحاملة لإمكانات الزراعة البيئية التجديدية ببلدان شمال أفريقيا
الممارسة |
الفئة |
---|---|
زراعة بلا حرث الدورة الزراعية (تناوب المحاصيل النجيلية مع المحاصيل البقولية) تنوع التركيب المحصولي في المزرعة السماد العضوي غير المعالج السماد العضوي المعالج (كومبوست) السماد العضوي السائل (شاي الكومبوست) السماد العضوي للدود (فيرموكومبوست) السماد العضوي السائل للدود (شاء فيرموكومبوست) السماد العضوي غير المعالج |
ممارسات حسن ادارة التربة بشكل أفضل وتحسين خواصها وتخزين الكربون |
الخطّارة، الفوقارة، الماجل / القنوات المدفونة (المغرب والجزائر وتونس) الجسور (تونس) زراعة اصناف بلدية الريّ الليلي (مصر) التكثيف المحصولي زراعة المستويات الثلاث الواحي |
ممارسات تحسين ادارة المصادر المائية |
العمل اليدوي استخدام الحيوانات في العمليات الزراعية الري الانسيابي الري الليلي الري بالطاقة الشمسية |
ممارسات توفير الطاقة |
المصائد البيئية جمع الحشائش يدويا تعدد الاصناف وعدم تكرار زراعة نفس المحاصيل بنفس قطعة الارض |
ممارسات تعزيز الوقاية الطبيعية والمكافحة البيئة |
زراعة المدرجات (المناطق الجبلية بالمغرب والجزائر) النظم الواحية النظم الزراعية الرعوية المختلطة |
ممارسات ادارة المظهر الطبيعي |
انتاج البذور منزليا استخدام البذور البلدية/المحلية |
ممارسات السيادة على البذور |
Sources: Author’s fieldwork in Egypt and Tunisia, 2018 and 2010; Ameur et al., 2020; Hamamouche et al., 2018;Mohammed, and Ruf, 2010; Ayeb and Saad, 2013; Boualem et al., 2011.
لا نحاول هنا اعطاء صورة كاملة، بل فقط بعض المؤشرات عن وجود ممارسات مرتبطة بالزراعة البيئية والتجديدية بمناطق الدراسة. تتقاطع هذه الممارسات مع مبادئ الزراعة البيئية التجديدية لكنها لا تتجسّد بشكل متكامل. هذا يعني أنّ المزارعين يمزجون في أحيان كثيرة بين ممارسات الزراعة البيئية مع ممارسات الزراعة الرأسمالية، فيتمّ مثلا استخدام أسمدة كيماوية مع الأسمدة العضوية أو استخدام أساليب بيئية وغير بيئية في ريّ المحاصيل وما إلى ذلك. ولاتزال المزارع البيئية المتكاملة نادرة جدا ومحدودة العدد في شمال أفريقيا، وإن كان هناك تجارب بدأت في الظهور بدعم من مبادرات ومنظمات نشير الى دورها لاحقا.
نستطيع ارجاع أسباب ظهور هذه الممارسات الى نتاج تفاعلات متعددة يمكن تقسيمها الى شقين. الشق الاول مرتبط بالممارسات التي يطورها صغار الفلاحين للتحايل على الظروف البيئية أو الاقتصادية الصعبة. على سبيل المثال يواجه صغار الفلاحون في مصر ارتفاع أسعار الأسمدة الكيماوية والمبيدات باستخدام الأسمدة العضوية والمخلّفات الحيوانية، كما أنّهم يواجهون ارتفاع أسعار البذور المستوردة باستخدام البذور المحلية وإعادة انتاج البذور ذاتيا. كذلك يلجأ الفلاحون بالمنطقة المغاربية الى استخدام أساليب بيئية في صون المياه والاستخدام الأمثل لها لمواجهة ندرتها. يتم توفير الطاقة أيضا عبر التركيز على الجهد البشري. لا تنبع هذه الممارسات بالضرورة من تبنّي رؤية بيئية للزراعة، ولكنها تستند إلى محاولات تحسين سبل عيش صغار الفلاحين واستمرارهم في عمليات الزراعة في مواجهة التوغّل الرأسمالي في القطاعات الزراعية الفلاحية الصغيرة. وفي هذه الحالات يمكن وصف ممارسات الزراعة البيئية التجديدية بأنها زراعة الفقراء البيئية agroecology of the poor لأنها نتاج التركيز على سبل عيشهم. أمّا الشقّ الثاني من الممارسات فيخصّ التحولات المرتبطة بنموّ طلب محلي وعالمي على الغذاء النظيف وتوسع دوائر المعرفة والتعلم ونقل الخبرات، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الجمعيات الاهلية أو الجهات المانحة. سنعرض في القسم القادم بعض المؤسسات والهيئات الفاعلة في مجال دعم وممارسة الزراعة البيئية والتجديدية في دول شمال أفريقيا.
-
-
الفاعلون المحلّيون (تعاضديات – جمعيات – منظمات – شبكات … الخ)
-
إلى جانب الممارسات الفلاحية الحاملة لامكانات الزراعة البيئية والتجديدية (ولكنها لا تمثل في حد ذاتها تحولا متكاملا وممنهجا نحو الزراعة البيئة كما أشرنا) توجد مؤسّسات أهلية وهيئات بحثية حكومية تدعم الإنتقال نحو الزراعة البيئية عبر أدوات متعددة. تدفع هذه المؤسسات نحو تشبيك الجهود لتحقيق السيادة على الغذاء والزراعة البيئية على مستوي محلّي أو قُطري أو اقليمي. لا نحاول هنا تقديم خريطة كاملة لهذه المبادرات ولكنّ القاء الضوء على بعض النماذج قد يكون مفيدا لاعطاء صورة عامة.
ضمن المنظمات والهيئات المذكورة بالجدول (3) هناك من تلعب أدوارًا متعدّدة في نشر ثقافة الزراعة البيئية والتجديدية وتقديم التدريبات، وأحيانا الأدوات والممارسات وأيضا التقارير والأبحاث العلمية والتشبيك بين الفاعلين. في منطقة شمال أفريقيا تلعب تعاضديات صغار الفلاحين (التعاونيات) دورا مهما في دعم ممارسات الزراعة البيئية. ومعنى التعاضد (وهو المفهوم المحلّي بدول المنطقة المغاربية) أكثر دلالة من التعاون حيث يشتمل على التضامن والتعاون والأخوة أيضا. فهذه الأشكال المحلية من العمل المشترك والتحالفات تساعد في تحقيق المزيد من التكامل في النظم الزراعيّة البيئية عبر نشر معارف الزراعة البيئية التجديدية. وذلك من خلال توفير الأسمدة العضوية وعمل دورات تدريبية في عمليات صيانة وتجديد التربة وانتاج البذور وإكثارها محليا والعمليات الزراعية البيئية التي تحسّن من جودة المنتجات الزراعية. فشراكات المنفعة المتبادلة وتدوير المحاصيل وتبادل المعلومات والممارسات، كلّها ضرورية لتوسيع نطاق التجربة وتعميمها. كما تدفع نقابات عمال الزراعة، عبر مواجهتها للاستخدام المفرط للأسمدة وصحة العمال، نحو استخدام أساليب عضوية في مكافحة الآفات، كما تسمح جمعيات “الأكّيلة” (المستهلكين)ببناء علاقات تشاركية عبر البيع المباشر والاتحادات والدعم المتبادل في علاقات تتجاوز المفهوم الضيق للسوق والمنفعة والمصلحة.
جدول (3) : أمثلة لبعض المنظمات والمبادرات الداعمة للزراعة البيئية التجديدية بشمال أفريقيا
نطاق العمل |
المؤسسة |
---|---|
اقليم شمال أفريقيا |
شبكة السيادة الغذائية لشمال أفريقيا |
مصر (مؤسسة حكومية) |
مركز ابحاث التغيرات المناخية |
مصر |
جمعية الزراعة العضوية |
الفيوم، جنوب مصر |
جمعية الفيوم لتنمية الزراعة العضوية |
محافظة المنيا، جنوب مصر |
مكتب الخدمات الإنسانية |
محافظة أسيوط، جنوب مصر |
الجمعية المصرية للزراعة المستدامة |
تونس (مؤسسة حكومية) |
مركز ابحاث المناطق القاحلة |
تونس |
مرصد السيادة الغذائية والبيئة |
واحة شننّي، جنوب تونس |
جمعية أشكال وألوان واحة AFCO |
الجزائر |
مؤسسة تربة |
منطقة زرالدة، الجزائر |
المزرعة الإيكولوجية التربوية |
المغرب |
شبكة مبادرات الفلاحة البيئية بالمغرب RIAM |
مصر، تونس، المغرب، الجزائر |
مجموعات تربية الدود – انتاج سماد عضوي الدود |
مصر، تونس، المغرب، الجزائر |
تعاضديات/تعاونيات زراعية |
مصر، تونس، المغرب، الجزائر |
نقابات فلاحية |
مصر، تونس، المغرب، الجزائر |
روابط سلة الغذاء منتجين ومستهلكين (ربط الفلاحين بالمستهلكين بالمدن) |
مصر، تونس، المغرب، الجزائر |
الأسواق المحلية الفلاحية |
تونس، المغرب |
نقابات العاملات بالزراعة |
المصدر: جُمعت من طرف الباحث عبر مقابلات ولقاءات مع فاعلين ميدانيين، 2021.
ومع ذلك، ورغم النموّ المتزايد للاعتراف بأهمية المعارف المحلية والزراعة البيئية التجديدية لمواجهة الازمة البيئية والتغيرات المناخية على المستوى العلمي كما أشرنا، تظلُّ هذه الممارسات غير معترف بها على نطاق واسع ومُهمَّشة إلى حدّ كبير في دول المنطقة سواء في سياسات التحديث الزراعي أو في المناقشات حول تغير المناخ. كما أنّها تتم في الغالب على نطاق فردي (على مستوى المزرعة) أو محلّي (المجتمع المحلي) وبدعم من بعض منظمات المجتمع المدني وبعض المؤسسات البحثية. ولا يسمح ذلك بإحداث تغيير كبير في بنية السياسات الزراعية ولا بتحقيق اعادة بناء سياسات السيادة الغذائية للبلاد على أًسس الزراعة البيئية التجديدية.
هناك أيضا حاجز آخر مرتبط بإنتاج المعرفة العلمية، اذ أنّ الزراعة البيئية والتجديدية هي حركة اجتماعية وممارسة زراعية ومعرفة علمية تجمع علوم الزراعة بعلوم البيئة. تهيمن أفكار الزراعة الصناعية على المناهج التي تُدَرَّس بكليات الزراعة بدعم من الدولة والشركات العالمية المهيمنة على مستلزمات الانتاج الزراعي، فمثلاً في مصر تموِّل شركات مبيدات وشركات أسمدة وشركات تقاوي المؤتمرات العلمية بكليات الزراعة. كما أنّ مناهج كليات الزراعة في مصر تُقدّم للمهندسين المستقبليين برامج تفيد بأنّ الهندسة الوراثية أو الثورة البيوتكنولوجية هي حل أزمة الغذاء في العالم. وذلك رغم اتساع دوائر النقاش العالمي حول فشل هذه الوعود منذ اطلاقها خلفا للثورة الخضراء منذ عام 1990.
رغم حدود هذه الممارسات وعدم انتشارها على نطاق واسع فإنّ الملاحظات الميدانية توضح النمو المتسارع لعمليات الضغط من أسفل لبناء السيادة الغذائية ودعم الزراعة البيئية التجديدية في جميع دول الدراسة. ويمكن البناء على هذه الديناميكيات المحلية والممارسات الفلاحية للوصول الى الانتفال العادل للقطاع الزراعي في شمال أفريقيا.
5. الخاتمة
حاولنا في هذه الورقة القاء الضوء على التحولات الزراعية ومعوقات وفرص تحقيق الانتقال العادل للزراعة في دول شمال أفريقيا. لايزال النظام المهيمن على السياسات الزراعية في دول المنطقة هو الزراعة الرأسمالية كثيفة استعمال الطاقة ورأس المال والموجَّهَة أساسا للتصدير. هذه السياسات عاجزة عن مواجهة التغيرات المناخية والأزمة البيئية، كما أنها غير قادرة على تحقيق السيادة الغذائية لدول المنطقة وتزيد من تهميش وإفقار قطاعات كبيرة من العاملين بالزراعة وسكّان الأرياف. أظهرنا ديناميكيات المجتمعات الريفية ومحاولات الابتكار والتجديد، وأيضا المعارف المحلية لمواجهة تدهور الموراد الطبيعية وسبل عيش الفلاحين. كما بيّنا تعدّد ممارسات الزراعة البيئية والتجديدية التي يستخدمها المزارعون ممزوجة مع أدوات الزراعة الرأسمالية، وبالتالي لم يحدث تحول كامل أو تبنٍ كامل للزراعة البيئية. ويمكن ارجاع ذلك بشكل أساسي الى غياب أيّ ي دعم مُنَظَّم ومستدام لهذا الانتقال على مستوى السياسات العامة الزراعية والبيئية.
تحتاج المنطقة إذن الى إعادة رسم سياساتها الزراعية والبيئية والغذائية والطاقية استنادا الى التمركز حول الداخل وفكّ الارتباط مع الخطط والأهداف والرؤى المركزية الأوربية. يقع الاستقلال الذاتي وانهاء التبعية وخفض حدّة الفقر وآثار التغيرات المناخية والتدهور البيئي في صُلب أيّ برنامج جدّي للانتقال العادل للزراعة. يتطلبُّ بناء هذا البرنامج أكثر جذريةً وتشاركيةً محليا، من أجل الاستفادة وتجديد الموارد الطبيعيّة المحلّيّة وصيانة تجددها. ويتطلبّ هذا المسار التحرّري من التبعية بناء مهارات ومعارف علمية جديدة ومتجذرة محليا في ذات الوقت تدعم الزراعة البيئية والتجديدية. لم تكن الثورة الخضراء لدولة ما بعد الاستقلال ممكنة بمعزل عن تدخلات ودعم الدولة، ليس فقط عبر توفير مستلزمات الانتاج ومشروعات الريّ والمَكنَنة، ولكن أيضا عبر خدمات الارشاد الزراعي والمزارع الارشادية وتأسيس المراكز البحثية وكليات الزراعة، وبالتالي تحتاج الزراعة البيئية والتجديدية في شمال أفريقيا الى خطة انتقال عادل محلية للزراعة. ومع ذلك لن يتم هذا الانتقال العادل بدون الضغط من أسفل عبر الفاعلين المحلّيين والناشطية التي لا تقوم فقط على بناء لبنات الانتقال العادل، ولكن أيضا وبشكل أساسي تعمل على مواجهة هيمنة الزراعة الرأسمالية.