27 أكتوبر \ تشرين الأول 2021
نادرًا ما تُذكَر الحركة العمّالية عند الحديث عن الثورة المصرية في يناير 2011 -حيث أُهمِل جانب الثورة الاجتماعي إجمالًا وتمّ التركيز على حالة التمرد الشبابية المدعومة من وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. لكن -وبعد التّمعّن في تتابع الأحداث في الفترة التي سبقت الثورة وفي أثناء الثورة ذاتها- سيصعب تجاهل الجانب الاجتماعي والحركة العمّالية في أيّ محاولة لفهم مسار ثورة يناير.
برزت أهمية النضالات العمالية بوصفها فاعلًا ثوريًا مستقلًا عن «شباب ميدان التحرير» وعن «نشطاء شبكات التواصل الاجتماعية» أو حتى عن «القوى السياسية المعارضة للنظام» عقب الإطاحة بمبارك، أي مباشرةً بعد 11 فبراير 2011. فعلى الرّغم من خروج المتظاهرين من الميادين والنداءات المتزايدة للمصريين التي طالبت بـ«الرجوع إلى العمل» و«تشغيل عجلة الإنتاج» نُقلَ الملايين من عمال الثورة إلى مواقع العمل، وذلك مع انتشار معارك حاشدة ضد «فلول النظام» في المؤسسات الحكومية والقطاعين العام والخاص. عُدت الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات العمالية هذه استمرارًا فعليًا لموجة النضالات العمالية التي بدأت قبل سقوط مبارك، وخلال إسقاطه مع اندلاع الإضرابات في قطاعات واسعة بين 6 و11 فبراير 2011، نجد بينها الإضراب في شركات قناة السويس وهيئة النقل العام في القاهرة ومكاتب البريد والمؤسسات الحكومية ومصانع الإنتاج الحربي والمؤسسات الإعلامية التابعة للنظام وغيرها.
مثّل امتداد الكفاح الثوري إلى مواقع العمل تحديًا عميقًا لمحاولة القوى الإصلاحية -سواء ليبرالية أم إسلامية- اختصار معنى «الثورة» في حدود تعديل الدستور وتطوير الآليات الانتخابية. لكن اكتشف العمال -في أثناء نضالهم من أجل «تطهير المؤسسات» في بعض المواقع- استحالة الفصل الكامل بين الكفاح ضد الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم سياسيًا والكفاح من أجل العدالة الاجتماعية. نتجت تحولات جذرية عن هذا الاكتشاف في بعض الأحيان مثل حالة العاملين في مستشفى «منشية البكري» في القاهرة -الذين طرَدوا المدير وانتخبوا مديرًا جديدًا وسعوا إلى تحسين رعاية المرضى عبر آليات ديمقراطية مباشرة وليست تمثيلية-.[1] ونجد مثالًا آخر في العاملين بمطار القاهرة الذين فَرضوا توظيف مدير مدني لأول مرة، وموظفي بلدية الإسكندرية الذين رفضوا استمرار ترؤّس لواء غير منتخبٍ لأحد الأحياء، وفي المدرّسين الّذين نظّموا أحد أكبر الإضرابات في تاريخ مصر في سبتمبر 2011 -ليس بهدف تحسين أجورهم فحسب بل كذلك بهدف إصلاح مناهج التعليم وإيقاف الدروس الخصوصية التي شكّلت عبئًا ثقيلًا على المواطنين.[2] تشير هذه الأمثلة إلى أهمية «التفاعل المتبادل» بين البُعديْن الاقتصادي والسياسي من النضال الطبقي كما عبّرت عنه روزا لكسمبورغ في كتابها «إضراب الجماهير».[3]
يناقش المقال ما إذا كان هذا التفاعل لعب دورًا محوريًا في تطور العملية الثورية في مصر. ويركز من ناحية أخرى على استحالة فهم عملية الثورة المضادة من دون تحديد كيف ومتى تحول هذا التفاعل إلى الاتجاه المعاكس ونحو إعادة إنتاج الاستبداد وآليات القمع والاستغلال. كما سيحاول المقال توضيح أوجه قصور العفوية في تعميق التفاعل بين البعدين الاقتصادي والسياسي للثورة وخاصةً في سياق الاشتباك مع الدولة وقت الثورة. ما يلزم الثوار بكسب نشطاء كثر من صفوف الطبقة العاملة ضمن رؤية سياسية لدورهم في الثورة. فترتكز هذه الرؤية على أهمية تجذير وتعميق العملية الثورية، وخاصةً مواجهة أجهزة الدولة بهدف تمكين الحركة العمالية وتطوير تأثيرها في المجال السياسي. وتختلف هذه الرؤية بشكل أساسي عن رؤية فصل الحركة العمالية عن الحركة السياسية وعن فكرة دور قياداتها في حماية مصالح العمال من التسييس. ومن ناحية أخرى تختلف رؤيتنا عن موقف بعض العناصر من القوى السياسية المعارضة من الحركة العمالية، فترى الإضرابات والاحتجاجات العمالية سلاحًا مناسبًا في معاركها مع النظام بدل عده جزءًا لا يتجزأ من عملية التحرير الذاتي للطبقة العاملة. يركز هذا المقال إذا على العكس، أي على تحديات تعبير الطبقة العاملة عن رؤية سياسية ذاتية تخصها كما حاجج كارل ماركس.
جذور الحراك السياسي ونموه قبل الثورة
لعلّ انطلاق حركة التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية في عام 2000 نقطة مناسبة لتتبّع الأحداث التي توجتها ثورة يناير 2011، وذلك لسببين. أولهما تبلوُر حركة التضامن مع الانتفاضة بعد حالة فتور متواصل في الشارع المصري تراجعت خلالها أشكال الاحتجاج السياسي والاجتماعي على نحو ملحوظ كما هيمن وقتها شعار الحرب على الإرهاب والذي استخدمه النظام في السيطرة على قوى المعارضة ومنع الاحتجاجات. أما ثانيهما فهو الامتداد الزمني والجغرافي الذي اتسمت به حركة دعم الانتفاضة الفلسطينية، فانتشرت الحركة في محافظات مصرية عدة فضلًا عن القاهرة، كما نشطت في الجامعات والمدارس والأحزاب السياسية والنقابات المهنية، وتعلمت تنظيم الاحتجاجات في الشارع والأهم من ذلك أنها سعت بإصرار إلى توسيع نطاق المشاركة وسط الأحياء الشعبية ولم تقتصر على النخب السياسية -وهنا الامتداد الجغرافي- وتزامن انطلاقها مع الانتفاضة الفلسطينية في سبتمبر 2000 واستمرت في نشاطها حتى حرب غزو العراق في مارس 2003 -وهنا الامتداد الزّمني- وهو ما سنتناوله لاحقًا. كان الامتداد الزمني والجغرافي هذا فرصة جيدة لتطوير آليات الحركة على المستوى التنظيمي، كما ساهم في اندماج أجيال جديدة من الشباب في العمل السياسي وأعاد السياسة والعمل الاحتجاجي إلى الشارع المصري.
مهدت حركة التضامن مع الانتفاضة الفلسطينيّة -الممتدة جغرافيًا وزمنيًا- الطّريق للتّضامن مع حركة مناهضة الحرب الأمريكية على العراق، ليس عبر إعادة السياسة والاحتجاج إلى الشارع المصري فحسب بل كذلك عبر تفاعل القوى السياسية والأحزاب المعارضة وبعض النقابات المهنية مع بعضها البعض خلال التضامن مع الانتفاضة، ما جعل التحالف ضد الحرب الأمريكية أكثر سلاسة.
كانت حركة الاحتجاج ضد الغزو الأميركي للعراق في 2003 نقطة فارقة في حراك الشارع السياسي في مصر، وذلك لسببين. أولهما أنها نجحت بالفعل في الحشد ضد الحرب جماهيريًا، وبلغ الحشد ذروته يومي 20 و21 مارس، أي في نفس توقيت شن الحرب. كانت الحملة المناهضة لغزو العراق قد أطلقت نداءً قبل الغزو بالتظاهر بمجرد بدء العدوان، وبالفعل استجابت أعداد كبيرة للنداء وتظاهر الآلاف في ميدان التحرير في القاهرة مع بدء أنباء الحرب، واستمرت المظاهرات طوال اليوم حتى فضتها قوات الأمن بالقوة ليلًا. وفي اليوم التالي انطلقت مظاهرات من مساجد عدة عقب صلاة الجمعة، كان أكبرها مظاهرة جامع الأزهر. حاولت قوات الأمن تفريق المظاهرات أولًا بأول لكن بعضها نجح في الوصول إلى مشارف ميدان التحرير قبل أن تواجهها قوات الأمن وتفضها بالقوة وتعتقل أعدادًا كبيرة من المتظاهرين.
وهنا تحديدًا السبب الثاني الذي جعل حركة مناهضة غزو العراق فارقة في الحراك السياسي في مصر. تجاوزت قوات الأمن الحدود المتعارف عليها حينها في مواجهة المتظاهرين، فانتقلت من تفريق المظاهرات أو منعها واحتجاز بعض المتظاهرين إلى استخدام مستوى جديد من العنف. فقد شكلت قوات الأمن مفارز على مداخل جامع الأزهر يوم 21 مارس، وعقب الصلاة أطلقت في محيط الجامع قنابل غاز مسيل للدموع وألقت القبض على أعداد كبيرة من المصلين الذين شرعوا في التظاهر. طرح هذا المستوى من القمع -الذي مارسته قوات الأمن ضد المظاهرات المناهضة لغزو العراق- قضية هامة أمام الحراك السياسي في مصر، وهي قضية الديمقراطية وإفساح المجال العام للاحتجاج والعمل السياسي. لذا فالمرحلة التالية من الحراك السياسي -وهي مرحلة المطالبة بالإصلاح الديمقراطي- فرضها بالفعل القمع الذي واجهه الحراك السياسي في مصر بين عامي 2000 و2003، وخاصةً في حركة مناهضة غزو العراق.
على هذه الخلفية بدأت محاولات تشكيل حركات للمطالبة بالإصلاحات الديمقراطية. ومع تبلور مشروع تولي جمال مبارك (الابن) رئاسة الجمهورية خلفًا لأبيه خلال عام 2004 أصبح ملف الإصلاح الديمقراطي أكثر إلحاحًا، وتوالى تشكيل جبهات الإصلاح المطالبة بالديمقراطية والرافضة لمشروع توريث الحكم، وكانت أبرز تلك الجبهات «الحركة المصرية من أجل التغيير- كفاية» -والتي تكونت في ديسمبر 2004- بالإضافة إلى حركات أخرى أبرزها «شباب من أجل التغيير» و«أدباء وفنانون من أجل التغيير» و«صحفيون من أجل التغيير». ساعد صعود حركة التغيير الاجتماعي بتشكيلاتها المختلفة على دمج وتفعيل الجماعات الشابة التي ارتبطت بالحراك السياسي منذ عام 2000 كما ساعد على ضم مجموعات جديدة. وفي نفس الوقت أبقت الحركة على حالة الحراك السياسي في الشارع المصري حتى مع تراجع الانتفاضة الفلسطينية وانتهاء حرب العراق. وأصبح الحراك هذا مرتبطًا بأوضاع الديمقراطية في مصر كما أنه حصل على دفعة قوية مع حركة القضاة المطالبة باستقلال القضاء في عام 2006. ومع تطور وسائل الاتصالات في نفس المرحلة حظيت أفكار التغيير والإصلاح الديمقراطي بفرصة غير مسبوقة في الانتشار والتأثير، ما جعل محيط تأثير حركة الإصلاح الديمقراطي أكثر اتساعًا وتنوعًا، خاصةً مع درجة من الانفتاح في الإعلام تمثلت في ظهور محطات فضائية غير تابعة للدولة وصحف خاصة.
وعلى الرغم من الآمال التي أطلقتها حركة الإصلاح الديمقراطي في عام 2005 والتغيرات التي أحدثتها بالفعل في الشارع السياسي تمكن النظام من امتصاص تأثير تلك الحركة -حتى مع ارتفاع سقف النقد ليصل إلى مبارك نفسه، والذي ظل خطًا أحمر للمعارضة طوال فترة حكمه منذ عام 1981-. فمع حلول عام 2006 كان النظام قد أجرى التعديلات الدستورية التي تسمح بإتمام مشروع توريث الحكم لجمال مبارك عندما تحين اللحظة، كما كانت الانتخابات الرئاسية قد انعقدت وحصل حسني مبارك على ولاية رئاسية جديدة، فيما تمكن النظام من السيطرة على احتجاجات القضاة وتراجعت آمال التغيير التي كانت انطلقت في السنتين السابقتين.
نحو حركة عمالية جديدة
لم تستمر الاستراحة التي حظي بها نظام مبارك بعد ترتيب أوراقه عام 2005 وقتًا طويلًا. ففي نهاية عام 2006 كانت الحركة العمالية تطرح نفسها كرقم هام في معادلة التغيير في مصر. ويمكن هنا اعتبار إضراب عمال شركة مصر للغزل والنسيج التابعة لقطاع الأعمال العام في المحلة في ديسمبر 2006 بدايةً لمسار جديد للتغيير في مصر، وهي تُعد من أكبر شركات الغزل والنسيج في مصر، تأسّست في مطلع العقد الثالث من القرن العشرين لتصبح أحد أهم معالم الحركة العمالية في مصر.[4]
تواصلت الاحتجاجات العمالية في مصر فيما شهدت السنوات السابقة لديسمبر 2006 إضرابات عمالية هامة عدة وسط عمال صناعة الأسمنت والنسيج والسكك الحديدية وغيرها، ولكن يمكن اعتبار إضراب عمال المحلة في 7 ديسمبر 2006 بدايةً لمسار مختلف في الحركة العمالية، بل حتى بدايةً لحركة عمالية جديدة. لا يتعلق ذلك بحجم الإضراب وعدد المشاركين فيه فحسب -رغم أهمية ذلك- إنّما بمجموعة عوامل يجدر بنا تناولها لتوضيح طبيعة الحركة العمالية في مصر بعد عام 2006.
بدأ عمال غزل المحلة إضرابهم يوم الخميس السابع من ديسمبر 2006 للمطالبة بأجر شهر مكافأة سنوية مقررة بالقانون امتنعت الشركة العمومية عن صرفها، وأتى الإضراب عقب أسبوع امتنع فيه العمال عن صرف الأجر احتجاجًا على فشل الشركة بصرف المكافأة السنوية مع أجورهم. كان الاحتجاج هو الأكبر من حيث عدد العمال منذ احتجاج عمال شركة غزل كفر الدوار في محافظة البحيرة في سبتمبر 1994 والذي انتهى بصدام مع الأمن. استمر الإضراب من الخميس 7 ديسمبر حتى السبت 16 ديسمبر وانتهى بمفاوضات مع العمال أسفرت عن تلبية المطلب وانتهاء الإضراب.
كان هذا في حد ذاته تحولًا هامًا في تعامل الدولة مع الاحتجاجات العمالية وسيترك أثرًا هامًا على الحركة. اعتمدت الدولة على القمع وفض الاحتجاجات بالقوة في تعاملها مع الاحتجاجات العمالية عادةً، وهو ما حدث في احتجاجات العمال في ثمانينيات القرن الماضي في السكك الحديدية عام 1986، وشركة إسكو للغزل والنسيج عام 1987، وشركة الحديد والصلب عام 1989، وغيرها من الاحتجاجات التي فضتها قوات الأمن بالقوة. واللافت أن الدولة كانت تستجيب للمطالب بعد فض الاحتجاجات، وهو ما سنتوقف عنده لاحقًا. أزال انتهاء إضراب عمال غزل المحلة دون عنف أمني وتلبية المطالب المرفوعة الرهبة التي راكمتها خبرة الاحتجاجات السابقة، فتبعت إضرابَ غزل المحلة إضرابات متتالية وسط مختلف القطاعات العمالية، وأصبحت الإضرابات العمالية نشاطًا يوميًا في مصر.
بعث هذا التغير في تصرفات القوات الأمنية مع الإضرابات رسالة طمأنة للعمال مفادها أن الإضرابات لا تنطوي على نفس الخطورة السابقة، والتي كانت تتضمن إطلاق النار على المضربين أحيانًا فسقوط بعضهم قتلى، فضلًا عن الاعتقالات والفصل من العمل، ولكن كان هناك تأثير أعمق في الحركة العمالية يمكن رصده بوضوح.
حفز تراجع استخدام القوة المباشرة في قمع الحركة العمالية العمال على الاحتجاج ورفع مطالبهم، ولكنه جعل الاحتجاجات العمالية أطول أمدًا كذلك (تستمر أيامًا وأحيانًا أسابيع)، وهي أهم الظواهر التي شهدتها الحركة العمالية في تلك الفترة. قبل ذلك كانت قوات الأمن تتدخل فور وقوع احتجاج عمالي، وربما كان إضراب سكة الحديد عام 1986 واحتجاج عمال الحديد والصلب عام 1989 مثالين على ذلك، فكلاهما لم يكمل 24 ساعة قبل تدخل قوات الأمن للفض بالقوة.
يمكن ربط هذا التغير في سلوك الأمن مع العمال بعدة أسباب، أهمها الانفتاح الإعلامي الذي شهدته تلك الفترة، والذي أسهم في انتقال الأخبار سريعًا، وجعل الأمن أكثر ترددًا في المبادرة إلى هجمات تنتج عنها حملات إعلامية في الداخل والخارج. وكان للصراع أو التنافس الموجود بين اتحاد العمال (الجهاز النقابي التابع للنظام) ووزارة القوى العاملة أثرًا في جعل أجنحة السلطة غير موحدة في مواجهة الإضرابات.
وفر الامتداد الزمني للاحتجاجات العمالية فرصة جيدة لتطوير الحركة العمالية على المستوى التنظيمي، فالعمال الذين يحتجون لأيام وأسابيع هم أكثر احتياجًا لتنظيم التناوب في الوجود في مواقع العمل وتنظيم حماية المعدات والمنشآت من أي أعمال تخريب محتملة وتدبير وسائل الإعاشة خلال الاحتجاج، كما أن وجود مفاوضات جعل اختيار ممثلين للعمال أمرًا هامًا. هناك عشرات التفاصيل التي قد تختلف من موقع عمالي لآخر، وهي مواقع كانت بحاجة إلى تطوير آليات تنظيمية ضمن الاحتجاجات.
أنتج هذا التطور التنظيمي لجانًا للتفاوض ولجانًا لتنظيم وقيادة الاحتجاجات ولجانًا للإعاشة والحراسة، والأهم أن ذلك التطوير في آليات تنظيم الحركة أسفر عن تأسيس نقابات مستقلة عن التنظيم النقابي الرسمي الموالي للدولة. ومثلما تطورت الحركة العمالية تنظيميًا عقب إضراب المحلة عام 2006 تطورت أيضًا مطلبيًا. فقد سبق الحركة -التي انتشرت على نطاق واسع في عام 2007- تراجع في الاحتجاجات العمالية، ما أدى إلى تراكم المطالب العمالية فترة طويلة، خاصة مع تغيرات عميقة في ظروف وعلاقات العمل. ولكن لم يكن تطور مطالب الحركة العمالية في تلك الفترة حصيلة تراكم الفترة السابقة فحسب إنما حصيلة تطورات نوعية في المطالب.
كما اتسمت الحركة العمالية في صعودها بمشاركة واسعة من العاملات تفوق موجات الحركة العمالية السابقة. فإضراب المحلة عام 2006 مثلًا بدأته العاملات. وتعزز كذلك نشاط قطاع التمريض في الحركة العمالية والذي يغلب عليه الحضور النسائي، كما ظهرت قيادات عمالية من النساء في قطاعات عدة، وهو ما لم يكن بنفس القوة في الحركة العمالية من قبل.[5]
لعل حركة عمال غزل المحلة مثال جيد على كيفية تطور مطالب العمال، فكما كتب أعلاه أضرب العمال في ديسمبر 2006 للمطالبة بأجر شهرٍ مكافأةً سنويةً، وبعد تحقيق مطلبهم نظم العمال إضرابًا جديدًا في سبتمبر 2007 ورفعوا قائمة طويلة من المطالب تنوعت بين تحسين الأجور وتحسين ظروف العمل وتطوير الشركة ومحاسبة الفاسدين، واستمر الإضراب أسبوعًا كاملًا وانتهى بعد مفاوضات استجابت لبعض المطالب. ولكن بعد أشهر قليلة وفي فبراير 2008 نظم عمال الشركة مظاهرة خارج أسوارها للمطالبة برفع الحد الأدنى لعمال مصر كلهم. كان هذا تطورًا كبيرًا للحركة وقتها، فغالبًا ما رفع العمال في احتجاجاتهم مطالب تتعلق بالمنشأة وحسب وتعلقت المطالب بالأجور المتغيرة في العادة. أما أن يرفع العمال مطلب الحد الأدنى للأجور لعمال مصر كافة فكان طفرة في مستوى الوعي والتنظيم في الحركة وقتها. واللافت أن مطلب الحد الأدنى للأجور تحول إلى مطلب شبه ثابت على قائمة الإضرابات العمالية في مختلف المواقع بعد مظاهرة المحلة.
شكل الامتداد الزمني والجغرافي للحركة العمالية بيئة مواتية لتطور الحركة تنظيميًا ومطلبيًا، ولكن يمكن اعتبار التطور الأهم في الحركة ظهور النقابات المستقلة. انتهت الانتخابات النقابية في نوفمبر 2006، أي قبل أسابيع فقط من إضراب المحلة، وشهدت تلك الانتخابات تدخلًا غير مسبوق من أجهزة الأمن والحكومة بحيث استبعدت القيادات العمالية جميعها من التشكيلات. كانت الانتخابات النقابية تشهد تدخلات أمنية على العموم ولكن ما حدث في انتخابات 2006 فاق كل ما سبقها. لذا لم يكن مفاجئًا أن توازي الحركة العمالية بين النقابات الرسمية والإدارة في إضراباتها منذ اللحظة الأولى. هكذا -وإلى جانب هجوم إضراب المحلة في 2006 على الإدارة- هاجم العمال النقابةَ الرسمية وطردوا أعضاءها من الشركة، وجمع العمال قوائم لسحب الثقة من النقابة، ورغم فشل عملية سحب الثقة إلا أن العلاقة بين التنظيم النقابي الرسمي والحركة العمالية كانت قد اتخذت ذلك الطابع العدائي من اللحظة الأولى.
مع تطور الحركة العمالية وانتشارها ظهرت حاجة إلى تنظيم مختلف عن التنظيم النقابي الرسمي، وانطلقت أولى محاولات تأسيس نقابة مستقلة عن التنظيم النقابي الرسمي مع احتجاجات موظفي الضرائب العقارية التي انطلقت مع سبتمبر 2007 واستمرت حتى ديسمبر من العام نفسه وانتهت بتلبية مطالب المحتجين. ولكن أدّت هذه الفترة الممتدّة من الاحتجاجات إلى تشكّل لجنة لقيادة الحركة والتفاوض باسم الموظفين وتنظيم الاحتجاجات وإدارة الشؤون اليومية، وبمعنى أدق أصبحت اللجنة هذه هي النقابة الفعلية. وعقب انتهاء الاحتجاج شرع الموظفون في تأسيس النقابة بصفتها امتدادًا طبيعيًا للجنة قيادة الإضراب، وكانت تلك بداية لانطلاق النقابات المستقلة في مصر -بعد نصف قرن من مصادرة العمل النقابي وإخضاعه للدولة-.
لا يمكن فهم بدء تأسيس النقابات العمالية المستقلة في حدود علاقته بالحركة العمالية وحسب، فقد كان تأسيس الآلاف من العمال لنقابة خارجة عن سيطرة الدولة مكسبًا ديمقراطيًا كبيرًا وقتها، حتى إنه يمكن اعتبار النقابات المستقلة التي تأسست منذ عام 2008 التنظيمات الجماهيرية الوحيدة التي لم تكن تحت سيطرة السلطة. وتأسيس النقابات المستقلة جانب آخر لا يجب إغفاله، فقد كان تحديًا مباشرًا لأحد أهم أجهزة الدولة وهو اتحاد العمال الرسمي. كان هذا الاتحاد -الذي أسسه عبد الناصر عام 1957 وجعله التنظيم النقابي الوحيد الذي يحظى بالشرعية القانونية- إحدى أهم المؤسسات التي تعتمد عليها الدولة في الحشد والتعبئة في أي مناسبة، مثل الانتخابات أو الحشد الجماهيري لتأييد قرارات سياسية. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك أن الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات خلال زيارته للقدس في نوفمبر 1977 اصطحب معه وفدًا من اتحاد العمال لإثبات التأييد العمالي والجماهيري لمبادرته للصلح مع إسرائيل. وكذلك عندما أطلق مبارك مشروع التكيّف الهيكلي أصدر اتحاد العمال بيانًا لتأييد سياسة الخصخصة والتكيف الهيكلي رغم كل ما حملته للعمال. ويجدر ذكر دعمِ الاتحاد نفسه لعبد الناصر في بناء القطاع العام وفي الحرب على إسرائيل. لذا يمكن اعتبار انطلاق النقابات المستقلة -إلى جانب كونه مكسبًا هامًا للحركة العمالية ومكسبًا ديمقراطيًا للمجتمع- ضربةً قوية لسيطرة السلطة عبر ذراعها العمالية.
التأثير المتبادل بين الحركة العمالية والحراك السياسي
يمكننا الإطالة في الحديث عن طبيعة الحركة العمالية التي سبقت الثورة وعن أهم سماتها، ولكن ما يعنينا أكثر هنا هو إبراز أثر الحركة العمالية في المجتمع ودورها في إعادة بعث الحراك السياسي الذي كان متراجعًا في تلك المرحلة. لقد أعادت الحركة العمالية الحياة إلى الشارع المصري بعد خفوت الحراك السياسي عقب عام 2006. بالطبع لم تكن شعارات ومطالب الحركة العمالية بجذرية الحراك السياسي الذي وجه نقده إلى رئيس الجمهورية ورفض مشروع التوريث، لكن الحركة العمالية حشدت مئات الآلاف في المقابل بين عامي 2007 و2008 تحت شعارات ومطالب عمالية، كما عمقت الممارسة الديمقراطية في الوقت ذاته وطورت آليات تنظيمية وحركية عززت الحراك السياسي، كما أنها أسست للمرة الأولى تنظيمات جماهيرية خارج سيطرة السلطة وهددت مؤسسات راسخة في يد الدولة.
قد يكون ما حدث في 6 أبريل 2008 نموذجًا على التأثير المتبادل بين الحركة العمالية والحراك السياسي. أعلن عمال المحلة عزمهم الإضراب مرة أخرى في 6 أبريل 2008 رافعين المطالب التي لم تنفذ في إضراب سبتمبر 2007، وأضيف إليها مطلب توفير الحد الأدنى للأجور. كان عمال غزل المحلة قد نظموا إضرابين ناجحين ومظاهرة قبل هذا الإعلان، وهو ما لفت انتباه القوى السياسية للحركة العمالية وقدرتها على الحشد والتعبئة وتحدي السلطة. وعلى إثر إعلان موعد الإضراب أعلنت قوى الحراك السياسي -وعلى وجه الخصوص حركة كفاية التي كانت تضم أغلب القوى الساعية للتغيير- دعمها لإضراب عمال المحلة ويوم 6 أبريل إضرابًا عامًا في كل مصر. وبعيدًا عن جدية إعلان الإضراب العام دون مقومات حقيقية له فقد اُعتبِر السادس من أبريل نقطة فاصلة في مسار الحراك السياسي في مصر. فرغم عدم تحقق الإضراب العام الذي دعت له القوى السياسية ومقابلة إضراب المحلة بحصار أمني غير مسبوق (أُجبر أفراد الأمن العمال على التواجد عند خطوط الإنتاج) إلا أن اليوم انتهى بانفجار مظاهرات في مدينة المحلة كانت أقرب إلى انتفاضة شعبية ضد الغلاء والفقر، استمرّت ثلاثة أيام وحطمت خلالها صور الرئيس مبارك في الشوارع في مشهد فريد من نوعه. واضطر رئيس الوزراء ساعتها إلى زيارة المدينة والشركة ومحاولة تهدئة الأوضاع عبر تقديم مكاسب وتنازلات للعمال وأهالي المدينة.
يبدو تأثر الحراك السياسي في مصر بالحركة العمالية أكثر وضوحًا في انتفاضة 6 أبريل، والحقيقة أن الكثير من ملامح الحركة العمالية قد تركت أثرها بوضوح على ثورة يناير 2011 لاحقًا. فاحتلال الميادين وتنظيم لجان الدعم والإعاشة ولجان التفاوض وتنظيم حماية المنشآت والمشاركة الواسعة للنساء في الثورة وغيرها كلها تميزت بها الحركة العمالية قبيل الثورة ونقلتها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي للمجتمع كله كما انتقلت بسلاسة من ساحة الحركة العمالية إلى ساحة الثورة.
وقبل الانتقال من هذه النقطة تجدر الإشارة إلى أحد العوامل الذي نراه أثر بقوة في الحركة العمالية، وهو السياسات الاقتصادية التي اتبعها النظام قبل سنوات، تحديدًا منذ عام 1991، أي سياسات الليبرالية الجديدة (النيوليبيرالية) تحت إشراف صندوق النقد الدولي. فقد اتبعت الدولة المصرية منذ العهد الناصري بين عامي 1952 و1970 سياسة الاقتصاد المركزي المخطط والمبني على القطاع العام والمشروعات المملوكة للدولة. وحتى بعد نمو القطاع الخاص والتغيرات التي أدخلها أنور السادات على الاقتصاد ظلت الدولة اللاعب الرئيسي اقتصاديًا بما تملكه من مشروعات وشركات، والأهم أن علاقات العمل التي تأسست في الفترة الناصرية ظلت حاكمةً سوق العمل في مصر. ولكن مع تطبيق سياسات التكيف الهيكلي بدأت التغيرات تزحف إلى علاقات العمل، فمع خصخصة المشاريع التابعة للدولة وتغيير قانون العمل والتوسع في القطاع الخاص بدأ دور الدولة في التراجع، وبدأت علاقات العمل المستقرة التي تمتع بها العمال في الفترة السابقة في التفكك هي الأخرى لتهيمن عليها علاقات السوق.
وجسدت ذلك الحركة العمالية التي تلت عام 2006، فقد اعتمد العمال في مصر لفترة طويلة على التعبير عن احتجاجاتهم عبر الاعتصام في أماكن العمل دون توقف الإنتاج. ارتبط هذا الموقف بالثقافة الناصرية التي اعتبرت الإنتاج هدفًا وطنيًا وأن المصانع ملك الشعب. وكانت هناك إضرابات بالطبع، مثل إضراب سكك حديد مصر عام 1986، لكن كثر اعتماد العمال الاعتصامات التي كانت أكثر أدواتهم استخدامًا. وبالعكس من ذلك، بعد عام 2006 أكثر العمال في استخدام الإضراب وسيلةً، كنتيجة لسياسات التكيف الهيكلي التي خصخصت المصانع وأخضعت عملية الإنتاج لآليات السوق بدل تحقيقها لأهداف قومية. يمكن اعتبار الحركة العمالية الجديدة ردة فعل متأخرة على تطبيق سياسات برنامج الإصلاحات النيوليبرالية منذ عام 1991، والتي تراجعت ضمنه الدولة عن العقد الاجتماعي الناصري، فأدى إلى تغيرات هامة في الحركة العمالية ومنها لفظها للتنظيم النقابي الناصري الذي لم يكن قابلًا للتطور في المرحلة الجديدة.
دور العمال في مرحلة الانتفاضة الشعبية وسقوط مبارك
مع انطلاق الثورة في يناير 2011 كانت الحركة العمالية قد قطعت شوطًا هامًا في التنظيم والتعبئة، كما كانت قد أحرزت تأثيرًا قويًا في المجتمع وأصبحت معطًى رئيسيًا في أي حديث عن مستقبل التغيير في مصر. وبالإضافة إلى ذلك أصبحت صور اعتصامات العمال واحتلالهم الشوارع والميادين جزءًا من الثقافة الاحتجاجية وقتها. لكن بسبب غياب تنظيمات عمالية مستقلة ذات وزن اجتماعي أو خبرة سياسية اتخذت مشاركة العمال في الانتفاضة الشعبية بداية الثورة طريقين رئيسيين: أولًا عبر افتتاح جبهة جديدة للثورة في مواقع العمل بين 6 و11 فبراير مع الإضرابات والاعتصامات (واستمرت هذه الموجة الضخمة من الحشد العمالي -بعد سقوط مبارك- في معارك تطهير المؤسسات من أعضاء الحزب الحاكم في الإدارة)، وثانيًا عبر المعارك في الشوارع والميادين والأحياء الشعبية، سقط أثناءها عمال كثر ضحايا رصاص قوات الأمن.
تصعب ملاحظة المشاركة العمالية في المرحلة الأولى للثورة (بعد 28 يناير) خلال المظاهرات الحاشدة، فقد ضم الاعتصام في ميدان التحرير ملايين الجماهير. كان العمال ضمنهم بالطبع لكن لم يكن للحضور العمالي ما يميزه في تلك المرحلة. ومع تطبيق حظر التجول لساعات طويلة كانت هناك صعوبة في تجمع العمال في المنشآت وأماكن العمل التي أغلقت بمعظمها ومنح عمالها إجازات، ولكن مع تقليص ساعات الحظر بدأت الحركة العمالية تبرز في الثورة. ففي السويس مثلًا دعا عمال أكثر من عشر شركات إلى الاعتصام بعد 6 فبراير، منها أربع شركات تابعة لهيئة قناة السويس -وإن لم تكن متصلة بالعمل في الممر الملاحي- بالإضافة إلى «شركة لافارج للأسمنت والزجاج المسطح» وغيرها. كما أعلن عمال الشركة المصرية للاتصالات الاعتصام وبدأ عمال النظافة والتجميل في الجيزة الاعتصام والإضراب وقطعوا طريق أحد الشوارع الرئيسية في المنطقة، وهو ما فعله عمال شركة أبو السباع للغزل والنسيج في المحلة.
تلت الموجة الأولى من الاحتجاجات العمالية موجة أقوى في حيز زمني ضيق بين 6 و11 فبراير، نظم فيها عمال الاتصالات تظاهرات أمام العديد من السنترالات في القاهرة والمحافظات أسوة بزملائهم في شركة الاتصالات الأم. وأضرب عمال ورش سكك الحديد ودخل عمال هيئة النقل العام في القاهرة على خط الاحتجاجات، إذ بدأ موظفو ثلاثة فروع بالإضراب ثم انضمت باقي الفروع إليهم. ولم يتأخر عمال البريد عن التظاهر أمام مقر الهيئة الرئيسي في ميدان العتبة في القاهرة، ثم توالت حركتهم في المحافظات الأخرى. ولم تخل منشآت حيوية مثل المطار وشركات الإنتاج الحربي من التحركات سواء بالإضراب عن العمل أو التظاهر والاعتصام. وصلت الاحتجاجات كذلك إلى بعض شركات البترول والنسيج في حلوان جنوب القاهرة وكفر الدوار في محافظة البحيرة. ولم تستثن التحركات القطاع الصحي، فأعلنت قطاعات التمريض الاعتصام في مستشفيات أسيوط وكفر الزيات وقصر العيني ومعهد القلب في القاهرة وغيرها. وكان الحدث اللافت انتفاضةَ عمال المطابع والإدارة في مؤسسة روز اليوسف الصحفية، ومنعهم رئيسَ التحرير ورئيس مجلس الإدارة -المقربين من سلطة مبارك- من دخول المؤسسة. وكان عمال الجامعة العمالية قد سبقوهم إلى الاعتصام واحتجاز رئيس الجامعة -وهو نفسه نائب رئيس اتحاد العمال الموالي للدولة وعضو الحزب الوطني الحاكم-.
هذه مجرد أمثلة على التحركات العمالية خلال الثورة، وللأسف لا يوجد حصر كامل لها. ولكن بين 8-11 فبراير وقبل أيام قليلة من سقوط مبارك حصل ما يشبه الإضراب العام في مصر، لكنه افتقر إلى الإدارة المركزية. وبطبيعة الحال لم تنطلق الحركة العمالية كلها لمساندة الثورة مباشرة، فرفعت في بعضها بالفعل شعارات تأييد للثورة وردد فيها العمال الهتافات ضد النظام، لكن في المقابل اكتفى البعض الآخر برفع المطالب العمالية، اقتصادية كانت أم نقابية. ورغم ذلك لا يمكن إغفال التأثير المتبادل بين الثورة والحركة العمالية. والملاحظ أن المناطق ذات الطابع العمالي والتي اشتعلت فيها الحركة العمالية قبل الثورة -مثل السويس والمحلة والإسكندرية فضلًا عن القاهرة- كانت الأكثر انتفاضًا وفاعلية خلال أيام الثورة.
وقد يكون عدد الشهداء والمصابين الّذين قدمتهم الطبقة العاملة خلال الثورة أكبر دليل على دور الطبقة العاملة وحركتها ليس في التمهيد للثورة فحسب بل أيضا في حسم انتصار الثورة على نظام مبارك. يصعب الحصول على بيانات كاملة لشهداء الثورة لكن البيانات المتوفرة تحمل إشارة هامة. فوفق كتاب «ضوء في درب الحرية» الصادر عن «الشبكة العربية لحقوق الإنسان» كان عدد الشهداء 841 شهيدًا، ولكن للأسف لا بيانات متوفرة عن أغلبهم تدل على مهنتهم.[6] وفي حصر آخر للجنة نقابة الصحفيين تم إحصاء 279 شهيدًا كان لـ 120 منهم فقط بيانات تشير إلى مهنتهم. من هؤلاء الـ 120 كان 74 عمال والباقي طلاب ومهنيين. ورغم غياب حصر دقيق لبيانات شهداء الثورة تشير البيانات المتوفرة إلى أن نسبةً كبيرة من الشهداء كانوا من العمال، فضلًا عن أن بيانات محل السكن تشير إلى انطلاق أغلبهم من المناطق المفقرة. وتؤكد بيانات مصابي الثورة -والأكثر توفرا وإتاحة- هذا الاستنتاج. فوفق بيانات «جمعية أبطال ومصابي الثورة» -التي أحصت 4.500 مصابًا في الثورة- كان 70% من المصابين عمالًا بدون مؤهلات و12% عمالًا بمؤهلات متوسطة – أي أن 82% من المصابين كانوا من العمال- و11% طلاب مدارس و7% ذوي مؤهلات عليًا. يوضح الإحصاء هذا -بالإضافة إلى الإحصاءات والبيانات المتوفرة عن شهداء الثورة- ويحسم أن العمال والفقراء دفعوا أكبر ضريبة دم في الثورة المصرية وأن تضحياتهم العظيمة هي التي مكنت الثورة من الإطاحة بمبارك.
يوضح ما سبق دور الحركة العمالية وتأثيرها -سواء في التمهيد للثورة منذ نهاية 2006 وحتى اندلاعها في 2011- وكذلك دور الحركة العمالية خلال أيام الثورة ودور إضرابات العمال في حسم مصير مبارك في الأيام الأخيرة قبل 11 فبراير. هكذا شهدت الثورة مشاركة فعالة من الحركة العمالية تمثلت في احتجاجات واسعة النطاق دعمت الثورة وبلغت ذروتها في الأسبوع الأخير قبل الإطاحة بمبارك. وعقب انتهاء حكم مبارك استمرت الحركة العمالية في تصاعدها كما اتسع انتشار النقابات المستقلة.
مكاسب تنظيمية وتهميش سياسي
كانت الإطاحة بنظام مبارك محطة جديدة للحركة العمالية، أعقبها تصاعد النطاق للاحتجاجات العمالية في نواحي مصر جميعها والتوسع في تأسيس النقابات المستقلة على نحو استثنائي. وإلى جانب المطالبة بتحسين الأجور وظروف العمل رفعت الاحتجاجات العمالية مطالب أكثر شمولًا وتسييسًا، فطالبت بإقالة ومحاسبة المسؤولين الفاسدين وإعادة تشغيل المشروعات المعطلة واستعادة الشركات التي خصخصت في عهد مبارك بالإضافة إلى رفع الحد الأدنى للأجور والحق في التنظيم.[7]
مثّلت هذه الموجة من الإضرابات والاعتصامات العمالية خلال الفترة الأولى من الثورة اندماجًا نسبيًا للبعدين الاجتماعي والسياسي للنضال الثوري، ومثلت في نفس الوقت تهديدًا خطيرًا لقوى الثورة المضادة وخاصةً الأجهزة العسكرية والأمنية في قلب النظام القديم. فبدأت هذه القوى العمل من أجل فصل البعد السياسي عن الاقتصادي مرة أخرى. ويجب التّوقف عند مفارقة واضحة في تلك المرحلة، فرغم ما رأيناه من دور وتأثير للحركة العمالية في الثورة المصرية، لم ينعكس هذا الدور ولا التأثير هذا على مسار الثورة بعد الإطاحة بمبارك. بل على العكس، فما أن أطيح بمبارك بدأ الهجوم على الحركة العمالية. إذ نص أول القرارات التي اتخذها المجلس العسكري -الذي تولى السلطة خلفًا لمبارك- على حظر الإضرابات العمالية وإحالة العمال المضربين للمحاكمات العسكرية في 24 مارس 2011. وبالإضافة إلى ذلك انطلقت حملة واسعة ضد الحركة العمالية في مختلف وسائل الإعلام، واعتبرت أن احتجاجات العمال تحمل مطالب فئوية ولا تعد جزءًا من الاتجاه العام للثورة.
في هذه اللحظة لعبت هيمنة القوى الإصلاحية الإسلامية والليبرالية على المشهد السياسي دورًا سلبيًا، إذ شارك نشطاء معارضين للنظام كثيرين في الحملات الإعلامية ضد الإضرابات العمالية ومطالبها «الفئوية». ولم يدافع عن الحركة العمالية بوضوح إلا اليسار الثوري والنقابات المستقلة النامية. ومن ناحية أخرى تجاهلت أغلبية القوى الثورية الشبابية قدرة النضالات العمالية على تطوير النضال الثوري نفسه وتعميقه وامتداده عبر مواجهة النظام داخل مؤسسات الدولة والشركات في معارك من أجل تطهيرها من فلول النظام، فبدلًا من التنسيق المباشر مع النشطاء في الحركة العمالية ركزت هذه القوى الثورية على النضال في الميدان.[8]
بعد الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 2011 ويناير 2012 والانتخابات الرئاسية في يونيو 2012 برزت حالة الاستقطاب السياسي بين القوى الإسلامية والعلمانية مع مشاركة الإسلاميين في الحكومة وفوز محمد مرسي برئاسة الجمهورية. هيمنت حالة الاستقطاب بين التيارين العلماني والإسلامي هذه على الساحة المصرية بشدة، وعلى الرغم من استمرار وتصاعد الحركة العمالية بقوة ظل الاستقطاب هو العنوان الأبرز لتلك الفترة. حتى إن القوى العلمانيّة فسرت تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بفشل الإخوان في إدارة البلاد وليس بالسياسات المطبقة منذ حكم مبارك وحتى مرسي. أما الإخوان ففسروا تردي الأوضاع بتواطؤ أجهزة الدولة ضد مرسي لإفشاله لا بتمسكه بتطبيق السياسات الاقتصادية نفسها الّتي سبقت الثورة وتسببت بانطلاقها.
ومع تصدر جبهة الإنقاذ[9] للمشهد وقيادتِها المعارضة ضد الإخوان، ازداد تراجع القضايا الاجتماعية والاقتصادية. أعلنت بعض القوى السياسية تأسيس الجبهة في نوفمبر 2012 لمواجهة محاولة الرئيس محمد مرسي لتعديل الدستور. لم تتكون الجبهة من الإصلاحيين فحسب إنما كذلك من القوى السياسية المقربة من نظام مبارك، وركزت على الدفاع عن إعادة الاعتبار لهيبة الدولة وشرعية مؤسساتها مثل القضاء والجيش والشرطة. ورغم استمرار النضالات العمالية خلال 2012 وبداية 2013 شهدت الفترة نفسها تراجع إمكانيات التنسيق بين أهداف الحركة العمالية والنضالات السياسية في الشوارع والميادين.
ولكن يبقى التحول الأهم في مسار الحركة العمالية ما حدث في أعقاب الإطاحة بمحمد مرسي في 30 يونيو/حزيران 2013.[10] كان التحول في مستوى قمع الحركة العمالية هامًا بالطبع، لكنّ التحول الأخطر كان إعلان قطاع لا بأس به من النقابات المستقلة عن دعمِ السلطة الجديدة ووقفِ الإضرابات العمالية، دعمًا لها. واللافت أن اتحاد العمال الحكومي والاتحاد المستقل حديثَ التأسيسِ اتفقا معًا على نفس الموقف. لم تكمن خطورة هذا الإعلان في توقف الاحتجاجات العمالية –والتي استمرت بعد ذلك وإن بوتيرة أبطأ– بل في تحوّل مسار النقابات المستقلة من السعي إلى التحرر من هيمنة السلطة على الحركة النقابية إلى الارتباط بالسلطة، وهو ما عنى في واقع الأمر خسارة أهم إنجازات موجة الحركة العمالية منذ عام 2006.
يضعنا مسار الحركة العمالية منذ 2006 وعلاقتها بالمسار السياسي أمام تناقض بين حجم الحركة العمالية وتأثيرها الكبير في الأحداث قبل وأثناء الثورة من جهة وضعف تأثيرها في المسار السياسي في أعقاب سقوط مبارك من جهة أخرى. ولا يكفي الحديث عن هيمنة القوى الإصلاحية أو سيطرة الاستقطاب العلماني-الإسلامي على الساحة لتفسير هذا التناقض -حتى إن كان له دور فيها- بل يجب فهمه من خلال نقاط ضعف الحركة العمالية نفسها، سواء على صعيد علاقتها بالسياسة أو على صعيد التنظيم أو على صعيد القيادة العمالية طبعًا -التي لم تكن على درجة عالية من الخبرة والتماسك-.
تجدر الإشارة أولًا إلى حالة التراجع التي عانت منها الحركة العمالية في التسعينيات وحتى وقت مبكر من الألفية. شهد هذا التراجع خروج أعداد كبيرة من كوادر الحركة العمالية والنقابية من الساحة، من دون دخول كوادر جديدة محلها، وهو ما جعل الحركة العمالية الصاعدة في 2006 تفتقر إلى الكثير من الخبرات التي كانت الحركة اكتسبتها في الفترات السابقة. تشكلت قيادات الحركة العمالية في تلك الفترة من كوادر جديدة لم تراكم خبرات سابقة ولم ترتبط بالعمل النقابي (بمعنى الصراع من أجل الدفاع عن مصالح العمال داخل مواقع العمل) والعمل السياسي، أي اختلفت عن كوادر الحركة العمالية في ثمانينيات القرن الماضي التي ارتبط أغلبها بأحزاب وتنظيمات اليسار. وهذا بالذات ما ساهم في انفصال الحركة العمالية عن السياسة بشكل عام وخلق كذلك -في بعض الأحيان- حالة من العداء بين الحركة العمالية والعمل السياسي نتيجة للدعاية الرسمية. حدث هذا في لحظة لم تكن حركة اليسار -التي ساهمت بشكل تاريخي في دعم الحركة العمالية- على درجة كافية من القوة والتماسك، فتنظيمات وأحزاب اليسار التقليدية كانت تفككت تقريبًا عقب انهيار الاتحاد السوفيتي فيما كانت تنظيمات اليسار الجديد ما زالت في مرحلة البناء في بيئة معادية. من ناحية أخرى كانت النقابات المستقلة ما زالت في مرحلة البناء هي الأخرى ولم تستكمل قدراتها التنظيمية بعد، ولم تكن قد تمكنت من توسيع حضورها وسط القواعد العمالية بعد. فعندما انطلقت الثورة كانت قد تأسست نقابة الضرائب العقارية ونقابة الفنيين الصحيين ونقابة المعلمين واتحاد أصحاب المعاشات -وهي النقابات المستقلة التي اجتمعت في ميدان التحرير خلال الثورة- لتعلن تأسيس الاتحاد المستقل، ولكن لم يعن ذلك وجود جسم تنظيمي متماسك ولا جذور عمالية قوية لتلك النقابات.
خاتمة
لقد برز الانفصال بين البعدين السياسي والاجتماعي من النضال العمالي على مستويين رئيسيين خلال فترة الثورة. أولًا فشلت القوى الثورية في استمالة كثير من النشطاء في صفوف الطبقة العاملة إلى رؤية سياسية تعتمد على دور الطبقة العاملة في الثورة وأهمية تجذير وتعميق العملية الثورية، وخاصة المواجهة مع أجهزة الدولة من أجل فتح مجال لتطور تأثير الحركة العمالية في المجال السياسي. وثانيًا شكل ضعف الخبرة التنظيمية في النقابات المستقلة نفسها عائقًا آخر، إذ هيمن فيها نموذج تنظيمي غير متجذر بما فيه الكفاية وتغيب عنه آليات ديمقراطية راسخة في مواقع العمل، مع ضم قطاعات واسعة من القواعد العمالية النقابية.[11] برزت هذه المشكلة رغم تأسيس النقابات المستقلة الأولى في وسط الإضرابات الجماهيرية وتوفر خبرات مهمة من التنظيم الذاتي ضمن القواعد العمالية.
ولكن المقصود بضعف الخبرة هو نقص الممارسة السياسية المتجذرة والمرتبطة بمبادئ التحرر الذاتي للطبقة العاملة، والتي لا تنحصر في حدود الاقتصاد بل تعكس قدرة العمال على تحرير أنفسهم في المجال السياسي كذلك وعدم حصر دور الحركة العمالية في النضال من أجل تحسين الأجور أو شروط العمل وحسب. أي يجب على دورهم هذا أن يمتد إلى القضايا السياسية -من التضامن مع الشعب الفلسطيني إلى تحرير المرأة ومن منع الطائفية الدينية إلى حماية البيئة- وخوض غمار هذه القضايا السياسية بصفتهم عمالًا لا مواطنين في الشوارع أو منتخبين عند صندوق الاقتراع وحسب.
شهدنا خلال المرحلة الأولى للثورة بدء تفكيك النضالات العمالية الجدار الذي يفصل بعدها الاجتماعي عن السياسي، فوسعت مطالبها من تحقيقها أهداف اقتصادية إلى مواجهة ممثلي النظام في مواقع العمل ومؤسسات الدولة. لكن لم تكفِ قوة العفوية هذه الموجة في ظل غياب علاقةٍ عضوية بالحراك الثوري وراسخة في الطبقة العاملة. وهو ما يعزز أهمية التنظيم السياسي العمالي فضلًا عن تنظيمه النقابي، وذلك لضمان انعكاس ثقل الحركة العمالية في مسار التغيير.