27 أكتوبر \ تشرين الأول 2021
مــقــدّمة: عندما «أراد الشعب الحياة، واستجاب القدَر»[1]
الناس المتحلّقون وسط شارع بورقيبة في قلب العاصمة التونسية يتناقشون الوضع السياسي بكلّ حماس على بعد أمتار من وزارة الداخلية سيّئة الصيت، الطوابير المنتظمة أمام المخابز والمتاجر، الاحترام الاستثنائي لإشارات المرور وإفساح سوّاق السيّارات الطريق والابتسامة تعلو محيّاهم، لجان حماية الأحياء ليلًا… وفي النهار مسيرات مطلبيّة لا تنتهي لفئات وقطاعات مختلفة من الشعب، حملة عزل المسؤولين السابقين على رأس الإدارات… صار الجميع يتحدّث في السياسة في كلّ مكان، بعد أن كان ذلك أمرًا محرّمًا لا يجرأ عليه سوى بعض «المجانين»… وأنت تستعيد هذه الشذرات من ذاكرة الأحداث التي أعقَبت مغادرة الديكتاتور بن علي البلاد يوم 14 جانفي/كانون الثاني 2011 إثر تفاقم الاحتجاجات الشعبيّة، تُدركُ عظمة تلك «الأيّام التي هزّت العالم»، كما وصف جون ريد الثورة الروسية قبل حوالي قرن.
اليوم، بعد انقضاء عقد كامل على ذلك الحدث التاريخي، مازال الكثيرون يتساءلون في تونس وخارجها، هل ما وقع في تونس كان ثورة أصيلة أم انتفاضة عابرة أم «مؤامرة خارجية» أم لعلّها «أكثر من انتفاضة وأقلّ من ثورة»، كما وصف سمير أمين ما حدث العام نفسه في مصر؟ وكيف يمكن إذًا تفسير استمرار الشباب المُهمَّش، في الجهات الداخلية –التي شهدت اندلاع أحداث 17 ديسمبر/كانون الأول 2010– والأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة في التظاهر ومواجهة البوليس؟
هل «الإجابة هي تونس» فعلًا، كما يقول بعض المصريّين المتحسّرين على عودة الديكتاتوريّة في بلدهم؟ ما حقيقة «الاستثناء التونسي»، مقارنة بفشل الثورات في ليبيا ومصر والبحرين واليمن وسوريا، وماذا عن النجاح المفترض للثورة والانتقال الديمقراطي؟
للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها قد نحتاج بدايةً إلى العودة إلى ما قبل اندلاع الثورة.
لا شكّ في أنّ تزايد بطالة الشباب وتهميش الجهات الداخلية كانت السبب الرئيسي لاندلاع الانتفاضة الشعبية أواخر 2010. إذ أتَت حادثة حرق الشابّ محمّد البوعزيزي (الذي قاوم البطالة بالعمل غير النظامي كبائع خضار متجوّل) لنفسه في سيدي بوزيد (ولاية في وسط تونس) بصفتها تكثيفًا لإحباط فئة الشباب المُعطَّل عن العمل في الجهات المُهمَّشة، التي راكمت الاحتجاجات خلال السنوات السابقة (انتفاضة الحوض المنجمي 2008، أحداث الصخيرة ثمّ بن قردان في 2010). إذ تشير الأرقام إلى ارتفاع نسب المعطّلين عن العمل خلال سنوات ما قبل الثورة. فرغم اجتهاد الأجهزة الإحصائية للديكتاتورية في تثبيت نسبة البطالة في 13% (من خلال احتساب من يعملون في قطاعات هشّة موسميّة كالسياحة والحصاد الزراعي) فإنّ بطالة فئة الشباب (بين 15 و29 عامًا) بلغت 31% على أقلّ تقدير.
وهي أرقام عكست فشل الخيارات الاقتصادية النيوليبرالية لنظام بن علي، الذي راهن على الترفيع في نسب المتخرّجين الجامعيين المؤهلين للعمل في القطاع الخاصّ ولجلب الاستثمارات الأجنبية، وعلى اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي منذ عام 1995. تلك الاتفاقية التي لم تنجح في حلّ معضلة البطالة، بل أدّت الى تدمير قطاع النسيج وإضافة حوالي نصف مليون عامل إلى صفوف فاقدي الشغل.
ومن سمات هذه السياسات التنموية الفاشلة تَرَكُّز أهم البنى التحتية العمومية واستثمارات القطاع الخاص في الولايات الساحلية على حساب الولايات الداخلية. وقد مَثَّل ذلك استمرارًا لخيارات اقتصادية وضعها المستعمر الفرنسي تسهيلًا لنهب ثروات البلاد. وهذا ما يفسر إلى حد كبير ارتفاع نسب الفقر والبطالة في المناطق غير الساحلية،[2] ومن ثم اندلاع انتفاضة/ثورة 17 ديسمبر في وسط البلاد في سيدي بوزيد، ثم انتقالها الى القصرين، الولاية الداخلية المجاورة، ومن هناك إلى ولايات مهمشة أخرى وصولًا إلى الأحياء الفقيرة المحيطة بالمدن، حيث يعيش في ظروف صعبة كثير من أبناء المناطق الداخلية الذين قدموا إلى العاصمة والمدن الكبيرة بحثًا عن الشغل وظروف عيش أفضل.
إثر نجاح نظام بن علي في السنوات الأولى من حكمه (وصل إلى السلطة إثر انقلاب طبّي عام 1987) في القضاء على أهم خصومه السياسيين، ممثّلًا في حركة النهضة الإسلامية، بادر من أجل اكتساب شرعية شعبية إلى اتخاذ إجراءات تنموية لصالح المناطق الداخلية الأكثر عزلة، مثل تشييد الطرقات والربط بشبكات الماء والكهرباء (من خلال ما عُرف بالصندوق الوطني للتضامن، المموّل من ميزانية الدولة ومن اقتطاعات جبائية وتبرعات المواطنين). إلا أنه سرعان ما انكشف الطابع الدعائي والمؤقت لهذه «الإنجازات»، كما كان يسميها الإعلام الرسمي وسط التسعينيات. إذ لم يلبث النظام أن واصل في نفس السياسات «التنموية» الفاشلة. وما زاد الطين بلّة هو سماح بن علي لعائلته وعائلات أصهاره بالاستيلاء على بعض الشركات العمومية، وما توفره من سيولة، والصفقات العمومية، وباستنزاف البنوك المملوكة للدولة من أجل الإثراء السريع الفاحش. أدى ذلك تقريبًا إلى حصر تراكم رأس المال وتركيزه في يد هذه القلة القليلة من العائلات المتصاهرة (تحكمت بـ21% من الاقتصاد التونسي وفق تقرير للبنك العالمي). وهو ما ساهم في توسيع رقعة السخط على النظام إلى جزء من البرجوازية التي حُرمت من المنافسة في عدد من القطاعات المجزية. ومع ارتفاع نسب البطالة لدى أصحاب الشهادات الجامعية منتصف الألفينيات (بلغت حسب الأرقام الرسمية المشكوك في نزاهتها 22%)، فَقَد النظام مصداقيته لدى شرائح عريضة من الطبقة الوسطى التي كان يفاخر بها.
بتضافر أسباب الغضب وتعدد أطرافه، جاءت حادثة بوعزيزي كقادح أشعل الاحتجاج الشعبي على امتداد البلاد.
يمثل بائع الخضار المتجول الذي أشعل الانتفاضة في سوق سيدي بوزيد شريحةً اجتماعية واسعة على امتداد البلاد من الشباب الذين انقطعوا عن مواصلة الدراسة، ولم يجدوا صيغة «قانونية» لـ«الإندماج» في سوق الشغل الضيقة وشديدة الانتقائية. تهمة «الانتصاب الفوضوي» التي وجّهها أعوان الشرطة البلدية في سيدي بوزيد للبوعزيزي، هي تهمة شائعة في مختلف ولايات تونس، ويعاني منها خاصةً أبناء الأحياء الشعبية الفقيرة في المدن. إلا أن ما يميز البوعزيزي هو انتماؤه إلى منطقة فلاحية بالأساس، عانت وما زالت تعاني من تهميش وتفقير صغار الفلاحين وانتزاع أراضيهم لصالح البرجوازية الزراعية (خاصة من ولاية صفاقس). إذ شهدت مدينة سيدي بوزيد قبل بضعة شهور من حادثة البوعزيزي اعتصامًا لفلاحين صغار من منطقة الرقاب ندّدوا بمحاولة البنك الوطني الفلاحي (التابع للدولة) سلبَهم أراضيهم، وقَمعَ البوليس تحرّكهم.
يمكن القول إذًا إن الانتفاضة بدأت على يد عامل يومي غير نظامي، من وسطٍ فلاحي مُفقَّر، أو بعبارة أخرى: فلاح محروم من الأرض وممارسة الفلاحة، رفض الانضباط لقواعد السوق التي تُوجب عليه أن يكون مُعطلًا عن العمل، وأحد جنود جيش الاحتياط لدى رأس المال المتمركز بإحدى الولايات الساحلية. وسرعان ما امتد لهيب الانتفاضة إلى بقية معتمديات ولاية سيدي بوزيد، مثل منزل بوزيان والمكناسي والرقاب، حيث سقط شهداء آخرون، ثم إلى ولايات القصرين وسليانة والكاف المجاورة، حيث نجد تقريبًا الفئات الاجتماعية نفسها: شباب مُعطل عن العمل ومحروم من وسائل ممارسة الفلاحة، النشاط الرئيسي لمنطقتهم في ظل افتقارها لأنشطة صناعية، وَجدَ في الاحتجاج على قتل شبان آخرين فرصةً للتعبير عن رفضه لنفس سياسات التهميش المُسلطة عليه أيضًا.
وسرعان ما احتُضِن احتجاج الفلاحين المُفقرين المحرومين من الأرض ومن العمل من طرف مناضلين سياسيين محليين ونقابيين من المنتسبين إلى الفروع الجهوية للاتحاد العام التونسي للشغل، وهو أكبر وأهم منظمة نقابية في البلاد، تدافع أساسًا عن مصالح الطبقة الوسطى المرتبطة بالوظيفة العمومية (نقابات التعليم الأساسي والثانوي من أهمها) في تعبيرٍ عن تدهور ظروف عيش هذا القطاع من الطبقة الوسطى. وساعد الوعي السياسي والطموحات الديمقراطية للعديد من القيادات المحلية لهذه النقابات في إعطاء هذه الانتفاضة شعاراتها (من أهمها وأولها «التشغيل استحقاق يا عصابة السُرّاق!»).
ومع إصرار النظام على القمع الدموي (خاصّة مساء 8 يناير وسقوط خمسة شهداء في مدينة تالة في ولاية القصرين)، عم الغضب أرجاء البلاد وكثفت أحزاب «المعارضة الديمقراطية» (أساسًا حزب العمال الشيوعي والحزب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد[3]…) ومناضلو الاتحاد العام لطلبة تونس، والنقابيون، والمحامون المُسيسون والمناضلون الحقوقيون، تحركاتهم المساندة في الجامعة (قبل أن تُغلَق بقرار عطلة استثنائية) ثم في شوارع العاصمة وساحاتها. إذ وجدت هذه الأحزاب (التي تمثل بأغلبها شرائح برجوازية صغيرة مثقفة) الفرصة سانحة للتخلص من الاستبداد السياسي، ورديفه القمع الأمني، الذي سُلط بدرجات وأشكال مختلفة طيلة عقود على مختلف الطبقات الاجتماعية تقريبًا.
وسرعان ما كانت هذه التحركات تُقمع أو تحاصَر من قوات البوليس. إلا أن ما عدل الكفة لصالح الانتفاضة كان بلا شك انضمام شباب الأحياء الشعبية المحيطة بالمدن. فهذه الفئة الاجتماعية المُهمشة، والتي تُعد من أكبر ضحايا النظام اقتصاديًا واجتماعيًا ورمزيًا ولا تخشى على ثروة أو امتيازات تخسرها، هي من تَحَدّت بوليس النظام وبادرت إلى حرق مقراته، مقدمةً عشرات الشهداء في الأحياء المحيطة بوسط العاصمة -مثل باب الخضراء وباب الجديد والملّاسين والكبارية- أو في الأحياء الشعبية في الضاحية الجنوبية -مثل حمّام الأنف أو الضاحية الشمالية (تحديدًا الكرم الغربي الذي لعب شبابه دورًا محوريًا في تهديد بن علي يوم «هروبه» في 14 يناير[4])- أو الأحياء الشعبية لمدن سوسة (وكذلك القرى المهمّشة بولايات الساحل) وصفاقس وغيرها.
تضافر اندفاع شباب الأحياء الشعبية واستبسال شباب الجهات المُهمّشة مع التقاط بعض قيادات اتحاد الشغل -تحت ضغط قواعدها- لمعنى اللحظة التاريخية. فبادر اتحاد المنظمة الجهوي في مدينة صفاقس (ثاني أكبر مدينة في البلاد وتُعد عاصمتها الاقتصادية) إلى الدعوة إلى إضراب عامّ يوم 12 يناير. مَثَّل هذا الإضراب العام الناجح وما شهده من مظاهرة ضخمة غير مسبوقة ومواجهات عنيفة مع البوليس منعرجًا حاسمًا، وهز الحدث أركان النظام. تلا ذلك دعوة مماثلة من الاتحاد الجهوي للمنظمة نفسها إلى إضراب عامّ جهوي في العاصمة يوم 14 يناير. وفي الأثناء ارتكب بن علي (متأثّرًا بنصائح بعض بطانته) خطأ مميتًا عندما حاول تهدئة التونسيين في خطاب ليلة 13 يناير. فإلى جانب محاولته رشوة بعض المعارضة الديمقراطية بعرضه عليها المشاركة في حكومة انتقاليّة (وهو ما قَبِل به بعضها في الكواليس منذ 12 يناير)، فقد بدا مرتبكًا وهو يخاطب الشعب لأول مرة باللهجة الدارجة مدعيًا أنه «هم الجميع من المعارض إلى البطال [أي المُعَطَّل عن العمل] إلى رجل الأعمال»، بعد أن كان في خطابيه السابقين إثر اندلاع الأحداث يتوخّى لهجة التهديد و«الحزم». زعم الديكتاتور أن البعض قد «غالطه»، مبرئًا ذمته من إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، ووعد بإطلاق الحريات العامة وبعدم الترشح مجددًا لرئاسة البلاد وبمحاسبة «الفاسدين». كما أرفق بن علي هذا الخطاب بإعلانه وتنفيذه جملة من الإجراءات الهادفة إلى تخفيف الغضب الشعبي، مثل رفعه الحظر عن المواقع الإلكترونية السياسية والإعلامية المعارضة والمدوّنات وصفحات الفيسبوك المحجوبة.
ولم تنجح المحاولات البائسة لاحتواء الموقف من خلال خروج أنصار بن علي وحزبه للاحتفاء بالخطاب وتنظيم بعض البرامج التلفزية «الحوارية» التي استُدعيت إليها بعض الشخصيات المعارضة اللينة. بدأ صباح يوم 14 يناير المشهود بتدفق المتظاهرين -الذين لبّوا دعوات انتشرت على فيسبوك للتجمّع في ساحة محمد علي الحامي (مقرّ الاتحاد العام التونسي للشغل)- في وسط العاصمة. وقد شجّع انسحاب قوّات الشرطة واستبدالها بقوّات الجيش نزول الناس أكثر إلى أن امتلأ شارع بورقيبة -الجادة الرئيسية في العاصمة- في مشهد تاريخي غير مسبوق. وهناك اعتصم الآلاف أمام مقرّ وزارة الداخلية -رمز قمع الدولة وجبروتها- هاتفين بـ«إسقاط النظام» ورحيل بن علي. وقد دامت المظاهرة، التي قادها المحامون وبعض المناضلين السياسيّين، كامل النهار تقريبًا قبل أن تتحوّل إلى مواجهات مع قوّات البوليس التي خرجت من مقرّها بعد أن استشعرت على ما يبدو خطر اقتحامها مع وصول موكب جنازة أحد شهداء الأحياء الشعبية.
تكرّر المشهد نفسه تقريبًا في جلّ مدن البلاد، حيث تحوّلت إلى ساحات كرّ وفرّ بين المتظاهرين وقوّات البوليس. وكان من أبرز أحداثها هجوم المتظاهرين على بيوت بعض أصهار بن علي وإحراقها. وفي ظلّ هذا المشهد المتفجّر بدأت عائلة بن علي وأصهاره من عائلة الطرابلسي في الهروب من البلاد خوفًا على أرواحهم. وحسب ما تسرّب لاحقًا من تحقيقات[5] مع مسؤولين أمنيّين وعسكريّين ومن مؤلفّات حاولت فهم ما حصل ذلك اليوم، يبدو أن بعض المحيطين ببن علي -ومن ضمنهم صهره مروان المبروك [6]ورئيس جهاز الأمن الرئاسي علي السرياطي- ساهموا في إرباكه وتخويفه (نقلًا عن مصادر استخباراتيّة غربية) عبر إبلاغه بهجمات وشيكة محتملة على القصر. وهو ما دفع بالديكتاتور إلى ركوب الطائرة مع عائلته نحو السعوديّة آملًا العودة منها بسرعة لقيادة عملية السيطرة على الأوضاع.
يشير ما سبق سرده من أحداث إلى أن الانتفاضة الشعبية قد خلقت ارتباكًا وشرخًا داخل أجهزة الدولة، ممّا أدّى ببعض أركانها إلى محاولة إنقاذ النظام عبر التخلّص من رأسه مُمثّلًا في بن علي وعائلته، أي الرموز التي تختزل غضب ونقمة التونسيين. وقد مثّل تاريخ 14 يناير لحظة ارتباك حقيقي لطبقة البرجوازية الكمبرادورية المهيمنة على المجتمع التونسي، لحاجتها الماسّة إلى الاستقرار لتأمين مصالحها المتشابكة مع السوق الأوروبية.
فهذه الطبقة -المتمركزة تاريخيًا على الشريط الساحلي الشرقي (العاصمة ومنطقة الساحل وصفاقس) والمرتبطة مصلحيًا بالسلطة السياسية ودولتها المخزنية-[7] تكيّفت لاحقًا مع الاستعمار الفرنسي وارتبطت به اقتصادًا وثقافة وسياسة حتى بعد الاستقلال الرسمي للبلاد عام 1956. وبعد أن استفادت من السياسة الليبرالية لرئيس الحكومة الأسبق الهادي نويرة -الذي فتح بداية السبعينيات باب التفويت في الشركات العمومية للقطاع الخاصّ[8] إثر إجهاض تجربة التعاضد «الاشتراكيّة»- استغلّت هذه الطبقة أسبقيتها للاستفادة من اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لاحقًا.
ابتعدت هذه البرجوازية عن القطاعات المنتجة -ذات الطاقة التشغيلية العالية والضامنة لسيادة البلاد- مثل الفلاحة والصناعة الثقيلة أو تلك الموجّهة للسوق الداخليّة الضيّقة. ومع تدمير الاتفاق مع أوروبا لصناعة النسيج تقريبًا[9] -في ظلّ عدم حماية الدولة لها- اتجّه الرأسماليون التونسيون نحو القطاعات سريعة الربح وذات القيمة التقنية الضعيفة واليد العاملة منخفضة التكلفة. فنشطوا في المقاولة لرأس المال الأجنبي -الباحث عن تخفيض مصاريفه- في بعض حلقات سلسلة الإنتاج (مثل مكوّنات السيّارات والطائرات والكوابل وإلخ) أو في بعض الصناعات التحويلية الموجّهة للتصدير بالأساس (مثل النسيج والصناعات الكيمياوية والغذائية وإلخ)، مع توجّه متزايد نحو قطاع الخدمات (السياحة، والاتصالات، والبنوك، والمساحات التجارية، وخدمات شركات النفط، وإلخ) وفي بعض القطاعات التوريديّة لمختلف المواد الاستهلاكية الكماليّة (مثل توريد السيّارات الذي تحتكره فئة صغيرة). كما تَخَصّص جزءٌ منها في تصدير المواد الأوّلية (لا سيما في مجال الفلاحة التصديرية[10] كالتمور وزيت الزيتون والقوارص) بتشجيع من الدولة الساعية دومًا وراء العملة الصعبة. وقد أدّى هذا المنوال -على مرّ عقود- إلى تفاقم العجز التجاري، وساهم في تكريس التبعية الاقتصادية الهيكلية للاتحاد الأوروبي وتعاظم الارتهان للمؤسسات المالية المانحة وشروطها المجحفة التي تخدم رأس المال المصرفي في المراكز الإمبرياليّة.
إلّا أنّ هذه البرجوازية رأت كذلك في الثورة فرصة حقيقيّة لتنعتق بدورها من قبضة بن علي وأصهاره. لكن ارتياح هذه الطبقة وتفاؤلها كان مختلطًا بالخوف من تجذّر المسار الثوري بعد ما رأته من عزم وتصميم أبناء الجهات المهمّشة على مواصلة حراكها الذي بدأته، مسنودةً ببعض المجموعات اليسارية الثورية والنقابيين الجذريين.
إذ بادر شباب تلك الجهات (وتحديدًا ولايتي سيدي بوزيد والقصرين) إلى التنقل إلى العاصمة تونس والاعتصام أمام مقرّ رئاسة الحكومة، في ساحة القصبة في العاصمة (حيث تعاطف معهم أبناء الأحياء الشعبية في المدينة القديمة)، مطالبين بخروج بعض رموز سلطة بن علي الذين بقوا في الحكم، مثل وزيره الأوّل محمّد الغنوشي (الذي أسس حكومة انتقالية مع بعض أحزاب المعارضة الإصلاحية: الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد) وأحمد فريعة وزير الداخلية. وقد وقع قمع اعتصام القصبة الأوّل في 29 يناير، بعد ستة أيام على انطلاقه، لكن الاحتجاجات لم تتوقف في مختلف أنحاء البلاد وعاد المعتصمون مجدّدًا إلى القصبة يوم 20 فبراير.
لم يكتف المعتصمون هذه المرّة بمطلب استقالة حكومة محمد الغنوشي، بل طالبوا أيضًا بحلّ حزب التجمّع الحاكم السابق وبتنظيم انتخابات لمجلس تأسيسي، إلى جانب بقية المطالب المعروفة كمحاسبة قتلة الشهداء وتحقيق التنمية للجهات المحرومة. وكان لافتًا هذه المرّة مشاركة شباب من أحزاب معارضة أخرى كانت على خلاف مع الحكومة الانتقالية (حزب العمّال وبدرجة أقلّ عناصر من حركة النهضة)، وخاصّةً الدعم اللوجستي من قيادة اتحاد الشغل والهيئة الوطنية للمحامين.
وفي المقابل، شهدت منطقة المنزه المحاذية للعاصمة -حيث يعيش أبناء الطبقات البرجوازية والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة- ما عُرف باعتصام «القُبّة» (وهو اسم قاعة للرياضات الجماعيّة)، حيث تجمّع بضع مئات من أبناء الطبقة الوسطى (وصفوا أنفسهم بـ«الأغلبية الصامتة») يوميًا بعد دوام عملهم لمساندة حكومة محمّد الغنّوشي. إذ طالبوا باستعادة «الأمن والاستقرار» وبتنظيم انتخابات رئاسيّة، عوضًا عن انتخاب المجلس التأسيسي الذي طالب به معتصمو القصبة. ورفضوا كذلك «المجلس الوطني لحماية الثورة» الذي أسّسته بعض الأحزاب اليسارية، إلى جانب حركة النهضة واتحاد الشغل، في سياق ضغطها على الحكومة.
مثّلت تلك اللحظة تكثيفًا سياسيًا واضحًا للصراع الطبقي في تونس. فمن جهة، عبّرت ساحة القصبة عن أبناء الطبقات الشعبية والجهات المُهمّشة المفتقدة للقيادة والرؤية السياسية الواضحة، ما سهّل قيادتَها من طرف الشرائح الدنيا من البرجوازية الصغيرة ممثّلة في أحزاب يمينية (النهضة التي كانت مستمرّة بالسّعي إلى ترميم أوضاعها بعد عقدين من القمع) وأخرى يسارية صغيرة (كحزب العمّال الشيوعي والحلقات الوطنية الديمقراطية الخارجين من سنوات العمل السرّي والواجهات النقابيّة والجمعياتية) ومنظمات تسيطر عليها البرجوازية الصغيرة الانتهازية الساعية لتحسين مكاسبها ضمن التوافق الطبقي وبعض الإصلاحات السياسية (قيادة اتحاد الشغل والهيئة الوطنية للمحامين).
وفي الجهة المقابلة في ساحة القُبّة، كانت هناك البرجوازية التقليدية (وتحديدًا برجوازية الساحل والعاصمة) الخائفة على مصالحها -بعد سقوط حزب التجمّع الذي كان يحميها ويكبّلها في آن- ومعها الشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة المعنيّة أكثر بالاستقرار وبقيم «الحداثة» و«العلمانية» النسبيّة، اللتان تُعَدّان من مكاسب الدولة البورقيبيّة (وقد عبّر عنها في تلك اللحظة بالأساس حزبيْ الديمقراطي التقدّمي والتجديد).
نجح المعتصمون في تحقيق مطلبيْ رحيل حكومة الغنوشي والمجلس التأسيسي الذي سيضع دستورًا جديدًا إثر مسيرة حاشدة يوم 25 فبراير 2011. إذ استقال الغنوشي بعد يومين ليأتي مكانه وجه قديم من المنظومة (لم يتورّط كثيرًا مع نظام بن علي) هو الباجي قائد السبسي. مثّل ذلك ضربة موفّقة من البرجوازية التقليدية التي عرفت كيف تطمئن الجميع: قيادة اتحاد الشغل الخائفة من ملفّات الفساد التي قد تؤدّي بها إلى المحاسبة وهيئة المحامين (التي سيطر عليها الإسلاميون في ذلك الوقت)، وكذلك بقية الفئات الباحثة عن استرجاع الأمن والهدوء، وخاصّة السفارات الغربية المتوجّسة من تصاعد المسار الثوري. وكان الاتفاق على فضّ الاعتصام وتشكيل «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي» برئاسة أستاذ القانون الدستوري عياض ابن عاشور. وقد كانت هيئة انتقالية –من مهامها الرئيسية اقتراح قانون انتخابي جديد– وضمّت ممثّلين عن كلّ أحزاب المعارضة السابقة والجمعيات والمنظمات التي لعبت دورًا في معارضة بن علي إلى جانب بعض المستقلّين. وتمّ التوافق على المُضيّ إلى انتخابات المجلس التأسيسي لصياغة دستور جديد وانتخاب حكومة جديدة، وهو ما حصل في 23 أكتوبر 2011.
لم تكتف الطبقات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة بالالتفاف على انتفاضة الطبقات الشعبية (أيْ العمّال النظاميّين، وغير النظاميّين، وصغار الفلاحين والفلاحين بلا أرض وعموم المهمّشين). بل فتحت كذلك الباب واسعًا لتدخّل القوى الإمبرياليّة وفرض وصايتها على مسار «الانتقال الديمقراطي». هذا التدخّل كان واضحًا منذ الفترة الأولى تقريبًا. فبعد أن تفاجأت القوى الإمبريالية المؤثّرة في تونس (فرنسا والولايات المتحدة) بالانتفاضة، سارعت لاحقًا إلى مجاراتها واحتوائها (ابتداءً من بيان وزارة الخارجية الأمريكية في 9 يناير 2011 الذي دعا إلى احترام إرادة الشعب التونسي). ويُرجّح أنّ الأمريكيين كانوا وراء الإيعاز للسعوديّين بالاحتفاظ ببن علي ومنعه من العودة إلى تونس (ولاحقًا تقييد حركته ومنعه من التواصل مع الإعلام). إذ رأت واشنطن فيما يجري فرصة لتجربة مقولاتها عن «الشرق الأوسط الجديد»[11] وعن «تشجيع الديمقراطية» الليبرالية (كما أشار إلى ذلك أوباما في خطابه الشهير في القاهرة عام 2009) التي تحفظ هيمنتهم على المنطقة. ولذلك لم يكن غريبًا أن تُسارع حكومة محمد الغنوشي بعد يومين من خلع بن علي إلى تعيين النيوليبرالي مصطفى كمال النابلي، الموظف السابق في البنك الدولي، محافظًا جديدًا للبنك المركزي. وقد تصدّى النابلي منذ البداية لمطالبة مجموعات يسارية بالتدقيق في الديون الكريهة لنظام بن علي ورفض تسديدها. كما لم يكن مفاجئًا أن تبادر مجموعة الدول الثمانية إلى تنظيم مؤتمر دوفيل في فرنسا في مايو 2011. خلال هذا المؤتمر سعت القوى الامبريالية الرئيسية إلى احتواء بلدان «الربيع العربي» (تونس، مصر، اليمن…) عبر إغراق حكوماتها المؤقتة بالقروض ووعود وهميّة بإرجاع أموالها المنهوبة وبتقديم المساعدات والاستثمارات، وإلى طمأنة أنظمة أخرى تابعة لها، بدأت تشهد بدورها احتجاجات اجتماعية وسياسية (المغرب الأقصى والأردن). إلّا أنّ الأخطر كان التوريط المبكّر للدول التي شهدت ثورات شعبيّة في الوصفات «الإصلاحية» للمؤسسات المالية الدوليّة، والمشروطة بسياسات التقشّف والاقتراض.[12] وهو ما ترتّبت عليه التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السلبيّة التي نشهدها اليوم.
مثّل إخلاء ساحة القصبة يوم 3 مارس وتقلّد قائد السبسي رئاسة الحكومة وإشرافه على المرحلة الانتقالية تاريخ بداية هزيمة الانتفاضة وإجهاض تحوّلها إلى ثورة (أو هزيمة الثورة كما يرى البعض)، أو بعبارة أخرى بداية انتصار قوى الثورة المضادّة. عجز معتصمو الجهات المهمّشة والأحياء المفقّرة عن تقديم ممثّلين سياسيّين عنهم، ما أفسح المجال لاكتساح المشهد السياسي من عشرات الأحزاب السياسيّة المتعطّشة للنشاط القانوني. وكانت ضمنها أحزاب يساريّة ضعيفة عجزت عن القراءة السليمة لأولويات المرحلة (من ذلك انخراط جزء منها في الصراع الهويّاتي بين العلمانيين والإسلاميين[13] الذي أجّجته وسائل الإعلام البرجوازي كقناة نسمة) والتأثير في ميزان القوى، فانخرطت في وهم «التغيير عبر صندوق الانتخابات». ومنذ ذلك الوقت بدأ النظام باستعادة توازنه وترميم شوكته الأمنية. وتوقّف الحراك الجماهيري ذو الأهداف السياسية في العاصمة، ليتذرّر الزخم ويتحوّل إلى احتجاجات اجتماعيّة متفرّقة ومنفصلة عن بعضها في الجهات الداخلية – حول أولويات اقتصادية واجتماعية محلّية أو فئويّة (مثل تحرّكات عمّال شركات المناولة الذين نجح اتحاد الشغل في إدماجهم ببعض الشركات العمومية كشركة فسفاط قفصة). وحتى ملفّ حقوق عائلات شهداء وجرحى الثورة، الذي كان يفترض أن يكون جامعًا على مستوى وطني، فقد تضرّر خلال تلك الفترة من الانقسامات نتيجة توظيفها انتخابيًا من بعض الأحزاب. ومع بداية مسار«تأسيس الجمهورية الثانية»، تراجع حراك الشارع ليفسح المجال للتنافس الحزبي الانتخابي ولولادة «المجتمع المدني»[14] ذي التمويل الخارجي بالأساس. وهكذا انتقلت تونس من مرحلة الانتفاض ذي الأفق الثوري إلى «الانتقال الديمقراطي» بوصاية إمبرياليّة نحو مزيدٍ من التبعيّة والنيوليبراليّة.
شهدت انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأوّل 2011 فوز حركة النهضة التي نجحت سريعًا في تنظيم صفوفها بعد عقدين من الملاحقة الأمنية (لا شكّ أنّ الدعم المالي من قطر والسياسي من تركيا لعب دورًا أساسيًا في ذلك)، مستفيدةً لا من سهولة انتشار خطابها الديني فحسب، بل كذلك من صفتها أبرزَ ضحايا الديكتاتورية. وتحالفت الحركة مع حزبيْن محسوبين على وسط اليسار –تبيّن أنّهما أقرب لوسط اليمين– هما «حزب المؤتمر من أجل الجمهورية» (الذي حصل زعيمه المنصف المرزوقي على رئاسة الجمهورية من دون صلاحيات تُذكر ودون سعي منه للحصول على وزارات اقتصاديّة) وحزب التكتل من أجل العمل والحرّيات (الذي تبوّأ زعيمه مصطفى بن جعفر رئاسة المجلس التأسيسي المُخوّل بوضع دستور جديد للبلاد).
بقيت النهضة في الحكم حتى ديسمبر 2014. وقد عرفت تلك المرحلة زخمًا عاليًا من الأحداث يمكن تلخيص أهمّها وأكثرها دلالة في ما يلي:
- محاولة حركة النهضة في البداية مواجهة بقايا حزب التجمّع الدستوري السابق وامتداداته في الدولة، إلّا أنّها سرعان ما عدلت عن خطاب «التطهير الثوري» لتختار العمل على عقد صفقات مع جزء من المنظومة السابقة في مجالات السياسة والإعلام والأمن والاقتصاد.[15]
- بالتوازي مع ذلك انخرطت في معركة خطرة مع جزء من المجتمع يتمسّك بما راكمته تونس من قيم علمانية ومكاسب اجتماعيّة –خاصّة للنساء– وذلك من خلال تلويحها بمسودّة أولى للدستور تضمّنت بنودًا ذات مضمون رجعي.[16] كما عمدت الحركة إلى فتح الباب للتيّارات السلفيّة (التي استفادت من مناخ الحرّيات الجديد وضعف الدولة) والعمل على توظيفها في صراعها ضدّ خصومها من اليسار والليبراليين.
وفيما كانت الأحزاب السياسية المعبّرة عن البرجوازية الكمبرادورية التقليدية (مثل حزب المبادرة وحزب الوطن) تشكو من التشتّت بعد حلّ حزب التجمّع، وفي ظلّ فشل الأحزاب الليبرالية الجديدة (حركة آفاق، الحزب الجمهوري…) في تمثيل مصالح جميع أقسام البرجوازية الكمبرادوريّة، حاولت بعض أحزاب اليسار والتيّار القومي التقدّمي توحيد صفوفها في إطار «الجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة»، ومن خلال سعيها إلى الالتحام بالاحتجاجات الاجتماعية المتصاعدة في بعض المناطق.[17] وسرعان ما تصاعد التوتّر بين النهضة من جهة (بمساندة شقّ من السلفيين ومنظمة رديفة أطلق عليها تسمية «روابط حماية الثورة»)، ومن جهة ثانية حزب نداء تونس (الذي أسّسه الباجي قائد السبسي وجمع فيه شتات «التجمّعيين») المتحالف ضمنيًا مع اتحاد الشغل.[18] فيما تقاطع طريق الجبهة الشعبيّة مع الفريق الثاني تارةً للدفاع عن الحرّيات وحقوق النساء، وتارةً لرفض توجّهات الحكّام الجدُد النوليبرالية. أمّا اتحاد الصناعة والتجارة (المنظّمة الرئيسيّة للبرجوازية التقليدية تاريخيًا) فبَدا أنّه اختار الحياد في البداية. مثّلت القضايا الهويّاتية والثقافيّة العناوين الأبرز لهذا التوتّر، لكنّه كان في العمق صراعًا على السلطة بين نُخبة جديدة تسعى للسيطرة على مفاصل الدولة ونُخبة قديمة تأبى التخلّي عن امتيازاتها ومواقعها.
أثّرت الأوضاع الجديدة على مؤسّسات الدولة، ومنها الأجهزة الأمنية والاستخباريّة، ما أتاح للمجموعات السلفية المتشدّدة التنظّم والتسلّح (خاصةً من ليبيا المجاورة التي كانت تشهد حربًا أهلية إثر إسقاط حلف النيتو لنظام القذافي) وتنفيذ بعض العمليات الإرهابية.[19] وتُعدّ عملية السفارة الأمريكية، الّتي اقتحمها المحتجّون السلفيون –إثر عرض فيلم مسيء للرسول محمّد– علامةً فارقة. وقد مثّل اغتيال شكري بلعيد، القيادي البارز في الجبهة الشعبيّة، في 6 فبراير 2013 منعرجًا مهمًا طَبَع هذه المرحلة. إذ برز القيادي اليساري قبل اغتياله بخطابه الصدامي ضدّ حركة النهضة وبنشاطه الكثيف في مساندة الاحتجاجات الاجتماعية (يضاف إلى ذلك تاريخ حافل بالعداء بين التيّار الوطني الديمقراطي الذي ينتمي إليه الشهيد وحركة النهضة منذ فترة الجامعة). وهو ما جعل أصابع الاتّهام (لا سيما من عائلته وقيادات حزبه وجزء هامّ من اليساريين والعلمانيين) تتجّه مباشرة إلى قيادة النهضة وتحمّلها مسؤولية اغتياله.
شهدت البلاد احتجاجات عارمة إثر اغتيال بلعيد، ما أربك النهضة ودفع رئيس حكومتها، والقيادي في الحركة، حمّادي الجبالي قبوله بمطالب المعارضة (بتشكيل «حكومة تكنوقراط» برئاسته، دون موافقة زعيمها راشد الغنّوشي، الذي عدّ ذلك «انقلابًا على الشرعيّة». عيّنت قيادة النهضة وزير الداخلية القيادي علي العريّض مكان الجبالي لرئاسة الحكومة وقبلت بضمّ بعض الوزراء «التكنوقراط». لم ينجح هذا التغيير في التخفيف من حدّة توتّر البلاد. فتواصلت الاحتجاجات النقابية (كان لافتًا تشجيع قيادة الاتحاد نقاباتها في القطاع الخاصّ على التحرك في تلك الفترة) والاجتماعية، (مثلًا ما عرف بـ «الانتفاضة ضدّ الإتاوة» احتجاجًا على فرض ضريبة مسّت سوّاق سيارات الأجرة ونقل البضائع، وقد ساهمت النقابات المنضوية في اتحاد الأعراف في تأجيجها. وفي 25 يوليو 2013 حصل المنعرج الحاسم باغتيال –نُسب مجدّدًا إلى تنظيم «أنصار الشريعة» السلفي الجهادي وقد اعترف أعضاء منه بذلك لاحقًا– قياديّ ثانٍ في الجبهة الشعبية: محمّد البراهمي، وهو زعيم التيّار الشعبي – قومي تقدّمي.
وفي سياق إقليمي معادٍ (انقلاب السيسي على الإخوان المسلمين في مصر قبل ثلاثة أسابيع) وتحت ضغط جماهيري عبر «اعتصام الرحيل» (الذي نظمّته «جبهة الإنقاذ»، وهي تحالف ضمّ الجبهة الشعبية إلى نداء تونس وبقيادة الأخير، وبدعم من البرجوازية «الحداثية»[20] ووسائل إعلامها) أمام مقرّ المجلس التأسيسي طيلة شهر ونيف، اضطرّت حركة النهضة أخيرًا إلى التنازل. إذ اجتمع الغنوشي بقائد السبسي في باريس (بوساطة بعض رجال الأعمال والسياسيين اليمينيّين وبمباركة فرنسيّة) واتّفقا على صفقة تنازلت بموجبها النهضة عن الحكومة، مقابل المصادقة على دستور توافقي وإنهاء مهام المجلس التأسيسي في أقرب الآجال. وهكذا من خلال «الحوار الوطني» (الذي رعته محليا منظمات وطنية: اتحاد الشغل، اتحاد الأعراف، رابطة حقوق الانسان وهيئة المحامين، وخارجيًا سفراء مجموعة الثمانية) تمّ التوافق على «التكنوقراطي» مهدي جمعة (وزير الصناعة السابق في حكومة العريّض) رئيسًا للحكومة حتى انتخابات عام 2014.
بإبرام هذا الاتفاق، الذي احتُفيَ به محلّيًا ودوليًا، على أنّه إنجاز تاريخي استحقّ مهندسوه التونسيون جائزة نوبل للسلام، وقع إنقاذ مسار «الانتقال الديمقراطي» وتمّ أخيرًا التوافق على الدستور الجديد. إلّا أنّ واقع الطبقات الشعبيّة وسيادة البلاد لم يتحسّنا، بل ازدادا سوءًا. فبوصول المهدي جمعة، المدير السابق لشركة هوتشينسون (التابعة لشركة طوطال الفرنسية) الذي رشّحته رئيسة اتحاد الأعراف،[21] توقّفت «بقدرة قادر» الإضرابات العمّالية المؤطَّرة من اتحاد الشغل وتحديدًا في القطاع الخاصّ، ومُرّرت قوانين واتفاقيات خطيرة كرّست تبعيّة تونس لرأس المال الأجنبي (تحديدًا قانون خصخصة إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية) وغيرها من الملفات، ومن ضمنها التحضير للتفاوض على اتفاقية التبادل الحرّ الشامل والمعمّق بين تونس والاتحاد الأوروبي. كما ضغطت المؤسسات المالية الدولية وبعض جمعيات المجتمع المدني الليبرالي من أجل حشو الدستور الجديد بفصول تمسّ بسيادة البلاد وشعبها. لعلّ أخطرها كان الفصل المتعلّق بالتوازن المالي.[22] وقد مهدّت هذه الفترة الانتقالية القصيرة لما ستليها من مرحلة التوافق اليميني بمباركة إمبريالية.
وهنا لا يمكننا العبور عن نظريّة «عقيدة الصدمة» التي شرحتها الأكاديميّة اليساريّة ناعومي كلاين في بعض أعمالها. اذ أوضحت كيف تستغلّ القوى الامبرياليّة ومؤسساتها المالية الدولية –بتواطؤ مع البرجوازيات المحلّية– وقوع أحداث مزلزلة في بلد ما (كوارث، انقلاب، حرب وإلخ) من أجل الدفع بـ«تكنوقراط» ينفّذون سياسات نيوليبرالية لم تكن مقبولة سابقًا من الشعب. فمثلما استغلّ «صبيان شيكاغو» انقلاب بينوشيه في شيلي والغزو العسكري للعراق، استُغلّت الاغتيالات والإرهاب في تونس. ويثير ذلك أسئلة مشروعة عن الارتباطات المحتملة بين الحركات الإرهابيّة في منطقتنا والقوى الامبرياليّة.
انتهت فترة المهدي جمعة بتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية، شهدت انتصارًا لافتًا لحزب نداء تونس الليبرالي (حزب ليبرالي معتمد على الخلفية البورقيبية لمؤسّسه وعلى شبكات حزب التجمّع المنحلّ) الّذي فاز بأغلبيّة مقاعد البرلمان وبرئاسة الجمهورية لزعيمه الباجي قائد السبسي. وحصلت حركة النهضة على المركز الثاني في البرلمان، فيما حلّت الجبهة الشعبية بعيدًا وراءهما في المركز الثالث بـ 15 مقعدًا. وأخلت خطابات التنافس والشيطنة الانتخابية بين حزبَي النداء والنهضة مكانها لتجسيد ما عُرف بـ«صفقة الشيْخيْن» (أي السبسي والغنوشي)، ليتحالف الغريمين السابقين في حكومة اختار رئيسها قائد السبسي.
شهدت هذه المرحلة انتصار الدولة على الحركات الإرهابية (بعد عدّة عمليّات دامية، كان أخطرها محاولة تأسيس إمارة سلفية في بنقردان الحدودية مع ليبيا)، فيما عرفت الاحتجاجات الاجتماعية تحوّلًا لافتًا كمًّا ونوعًا. إذ طغت عليها خلال هذه السنوات اعتصامات الشباب المُعطّل عن العمل (لا سيما من أصحاب الشهادات الجامعية) في مقرّات السيادة من معتمديّات وولايات (على سبيل الذكر، في شتاء 2016 ظلّ المحتجّون معتصمين في مقرّ ولاية القصرين طيلة سنة كاملة دون جدوى) ووزارات لمطالبة الدولة بتوفير الشغل والتنمية لجهاتهم المُهمّشة. ولكن منذ عام 2015، بدأت النضالات الاجتماعية تشهد تنوّعًا في الموضوع وكذلك الأسلوب. إذ برزت قضية جمنة،[23] (في الجنوب الغربي، ولاية قبلّي) وهي المدينة الصّغيرة التي خاض سكّانها معركة هامّة بمساندة مجموعات وتنظيمات يسارية بالأساس من أجل استرجاع أرضٍ كانت لهم، واستولت عليها الدولة وسوّغتها لرأس المال الخاصّ، أداروها بصورة جماعيّة عادت بالنفع على عموم مواطني المدينة. وهو ما فتح الباب لأوّل مرّة للنقاش العامّ والواسع حول وضع الفلاحة ومواضيع السيادة الغذائية ونمط الإنتاج (أو المنوال التنموي في الخطاب السائد إعلاميًا). ثمّ طرح الشباب المُعطَّل في جزيرة قرقنة قضيّة التشغيل من زاوية جديدة، أضاءت على ملفّ التصرّف في الثروة الطاقية من خلال معركتهم البطولية ضدّ شركة بتروفاك لانتاج الغاز.[24] وقد سبقتها قبل فترة حملة «وينو البترول؟» التي طالب فيها ناشطون بالشفافية في مجال استخراج المحروقات. وفي نفس السياق شهد عام 2017 معركة (مازالت فصولها متواصلة بشكل متقطّع الى اليوم) في ولاية تطاوين الجنوبية، وذلك عندما اعتصم شباب الولاية وسط الصحراء، في منطقة تُعرف بـ«الكامور»[25] على تقاطع طريق تمرّ منه شاحنات نقل تابعة لشركات المحروقات الأجنبية. ومجدّدًا أثار الشباب قضيّة حقّ أبناء الجهة في الاستفادة من الثروات الطاقية التي تستغلّها تلك الشركات الأجنبية، مطالبين بالتشغيل والتنمية لكن بشعارات تعبوية جديدة من نوع «تأميم الثروات» مسترجعين موروث أجدادهم التاريخي وصراعهم ضدّ المستعمر الفرنسي. وقد استبسل شباب تطاوين في صمودهم طيلة شهور وعدم تراجعهم رغم التشويه الإعلامي والقمع البوليسي رافعين شعار «الرخّ لا!» (أي لا للتراخي).
ورغم ذلك لم تأبه الحكومتين اللتين أعقبتا انتخابات 2014 (حكومة الحبيب الصيد لسنة ونصف ثمّ يوسف الشاهد طيلة ثلاث سنوات ونصف) بمطالب الشباب المُعطّل والجهات المهمّشة. بل استمرّت السلطة في الخيارات النيوليبرالية نفسها وفي الاستجابة لإملاءات القوى الامبرياليّة ومؤسّساتها المالية الدولية. إذ واصلت في سياسات الاقتراض الخارجي والتقشّف والتفويت في مؤسسات القطاع العمومي. وشهدت فترة حكومة يوسف الشاهد اتخاذ بعض أخطر القرارات على سيادة البلاد وحقوق طبقاتها الشعبيّة، إذ صودق أثناءها على القانون الجديد للبنك المركزي، الذي كرّس «استقلاليته» عن الدولة، كما عرفت البداية الرسمية للمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول اتفاقيّة «الأليكا».
مثّلت هذه المرحلة منعرجًا هامًا في الصراع الطبقي بالبلاد، إذ تعلّمت الطبقات الشعبية من تجربتها ونضالاتها في السنوات السابقة أنّه لا يمكن تحقيق مكاسب إلاّ باستهداف رأس المال مباشرةً وعدم الاكتفاء بالضغط على هياكل الدولة العاجزة المرتهنة للبرجوازية الكمبرادورية في الداخل وللقوى الاستعمارية والمؤسسات المالية الدولية في الخارج.
رغم انخراط شباب اليسار في دعم مختَلَف هذه التحرّكات، إلّا أنّ قيادة الجبهة الشعبية اليساريّة كانت دائمًا متردّدة ومتأخّرة في دعمها (لابتعاد هذه التحرّكات عن التصوّر اليساري التقليدي للنضال الطبقي الذي يقوده العمّال). في المقابل سخّرت أغلب جهودها لأولوية البروز في وسائل الإعلام البرجوازي ومعارضة الحكومة في البرلمان، وللمنافسة في الانتخابات، مُهملَةً العمل القاعدي والاقتراب أكثر من النضالات اليومية للطبقات الشعبية.
في ظلّ عجز اليسار التقليدي (مُمثّلًا في الجبهة الشعبية التي انحلّت نتيجة صراعات داخلية قبيل انتخابات 2019)[26] على الالتحام بنضالات الطبقات الشعبية والتعبير عنها سياسيًا، كان فشله في الحصول على ثقة الناخبين أمرًا منطقيًّا (علمًا أنّ جزءًا هامًا من الطبقات تلك لم يعد يبالِ بالانتخابات)[27] في التشريعيّات والرئاسيات الأخيرة. وأمام إحباطها وتزايد كرهها لمختلف الأحزاب السياسية، بل ولـ«الديمقراطية» برمّتها لعجزها عن تحسين ظروف عيشها المتدهورة أصلًا، كان من الطبيعي أن تضع الطبقات الشعبية ثقتها في من مثّل في عينيْها «معاداة المنظومة» و«الاستقلالية عن الأحزاب الفاسدة» و«نظافة اليد». وهكذا حدثت مفاجأة وصول أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد إلى رئاسة الجمهورية في أكتوبر 2019.
وإلى جانب إحباط الطبقات الشعبية وبحثها عن «المنقذ النظيف» و«الحازم العادل» الذي سيرأف بحالها ويعيد «عطف الدولة» إليها، يُمكن تفسير صعود هذا الغريب عن عالم السياسة وأحزابها التقليديّة بكونه تعبيرًا عن «الأمل الأخير» لجزء من البرجوازية الصغيرة المحافظة وتحديدًا تلك التي تحنّ إلى استعادة «دولة الرعاية الاجتماعية» و«مصعدها الاجتماعي المُعطّل» منذ نهاية السبعينيات (أي منذ بداية ظهور نتائج انخراط تونس في الخيارات الليبرالية).
ومنذ وصوله للرئاسة، انخرط سعيّد في صراع محموم ضدّ الأغلبية البرلمانية بقيادة حركة النهضة وحليفيها اليمينيّين ائتلاف الكرامة (وهو تجمّع لسياسيين ديماغوجيين محافظين ثقافيًا) وحركة قلب تونس (تجمّع لانتهازيين يقودهم رجل الأعمل الفاسد نبيل القروي)، فيما حاول الحزب الدستوري الحرّ بقيادة عبير موسي (محامية خدمَت نظام بن علي) وراثة بقايا حزب نداء تونس الذي اندثر إثر وفاة مؤسّسه قائد السبسي في 25 يوليو 2019[28] ومن ثمّ المزايدة على سعيّد في الصراع مع النهضة.
بالتوازي مع ذلك واصلت الاحتجاجات الاجتماعية انتشارها وتنوّعها، لتشهد مزيدًا من انخراط صغار الفلاحين (مثلًا معركتي الهوايدية[29] وأولاد جاب الله)،[30] إلى جانب ما تعرفه البلاد شتاء كلّ عام من مواجهات بين شباب الأحياء الشعبيّة المُفقّرة وقوّات البوليس. ومثّل شتاء عام 2020-2021 علامة فارقة لما شهده (بمناسبة مرور عقد كامل على الثورة) من تحرّكات واسعة للأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة (حيّ التضامن، سيدي حسين) وبعض الجهات الداخلية المُهمّشة (سبيطلة في ولاية القصرين)، حيث يتراكم سخط الشباب المُحبط من دولة لا تقدّم له شيئًا غير قمع البوليس. وقد رافقت هذه المواجهات تحرّكات مساندة هامّة من مجموعات يسارية وشبابية.
إلّا أنّ حكومة هشام المشيّشي (وهو إداري عديم الكفاءة اختاره سعيّد لينقلب عليه ويتحوّل إلى بيدق في يد النهضة وحلفائها) فاقمت غضب التونسيّين من خلال فشلها الذريع في إدارة أزمة وباء كوفيد 19.[31] إذ بات موت العشرات خبرًا يوميًا في ظلّ انهيار المنظومة الصحّية العمومية وعدم تجرّأ الحكومة على تسخير المصحّات الخاصّة أو فرض حجر صحّي شامل قد تضطرّ من خلاله إلى المسّ بمصالح البرجوازية.
انفجر هذا المزيج من الغضب والإحباط والخوف من المستقبل يوم 25 يوليو المنقضي (2021) في تحرّكات احتجاجية طالبت بحلّ البرلمان وتميّزت باستهداف حركة النهضة وتحميلها مسؤولية الأوضاع (من خلال حرق مقرّاتها في عديد الجهات). وفي ظلّ عدم توفّر بديل ثوري قادر على تأطير هذا الحراك، كانت الفرصة سانحة لقيس سعيّد كي يصفّي حسابه مع الائتلاف الحاكم ويُعلن مساء نفس اليوم حالة «الخطر الداهم»،[32] سمح لنفسه بموجبها بتأويل متعسّف للفصل 80 من الدستور، فأقال الحكومة وجمّد البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه وتحكّم بالسلطتين التشريعية والتنفيذية (وحتى بجزء من القضائية) مع وعده بعدم المسّ بالحرّيات. وعكست حالة الفرح والارتياح الشعبي لهذه القرارات الاستثنائية (والمتواصلة حتى تاريخ كتابة هذا المقال، أواخر أوت/آب 2021) مدى فشل «الاستثناء التونسي» الديمقراطي المزعوم. إذ أكّدت مرّة أخرى أنّ الحديث عن الحرّية هو بمثابة سراب في ظلّ ديمقراطية تمثيلية تتحكّم بها رؤوس الأموال والقوى الإمبريالية وتفتقد لأيّ مضمون اجتماعي أو سيادي.
حاولتُ أن أوضح أنّ الانتفاضة الشعبيّة العظيمة التي أطلقها يوم 17 ديسمبر 2010 مُهمَّشو الجهات المحرومة وشباب الأحياء المفقّرة لم تنجح في التحوّل إلى ثورة، بمعنى تغيير جذري لنمط الإنتاج الاقتصادي يليه بناء منظومات سياسية وقيميّة وثقافية مغايرة. أو فلنقل إنّها كانت ثورة اندلعت بشعارات اجتماعيّة تعبّر عن مصالح الطبقات الشعبيّة وانتهت بمطالب سياسيّة تهمّ النخب البرجوازية الصغيرة بالأساس، وهو ما أدّى إلى هزيمتها. بدأ اجهاض تحوّل الانتفاضة الى ثورة –أو هزيمة الثورة– يوم نجحت قوى الثورة المضادّة في إخلاء ساحة القصبة من المعتصمين، بعد أن تكفّلت البيروقراطية النقابية وبعض الأحزاب اليسارية بإقناعهم بالفتات الديمقراطي الليبرالي. وتُوّج ذلك بتنظيم انتخابات 23 أكتوبر 2011 في ظلّ هيمنة رأس المال وإعلامه، وتحت وصاية إمبريالية جسّدتها قرارات مؤتمر دوفيل وتوصيات وفود صندوق النقد الدولي. ومنذ تلك اللحظة انتهى «المسار الثوري» ليحلّ محلّه «مسار الانتقال الديمقراطي» نحو مزيدٍ من النيوليبرالية والتبعيّة للمراكز الإمبرياليّة.
ماذا عن المستقبل؟ يصعب التنبّؤ بما سيحدث في المرحلة المقبلة. ففي ظلّ انقسام المشهد السياسي (بما في ذلك اليسار) بين من يندّدون بـ«الانقلاب» وبين من يرونه «تصحيحًا للمسار» أو «استجابة جزئية للإرادة الشعبية تستحق الدعم النقدي»، مازال زمام المبادرة في يد قيس سعيّد وحده حتّى الآن. وهو لا يكترث كثيرًا بآراء الأحزاب السياسية أو المجتمع المدني، بل يبدو منتشيًا بالتأييد الشعبي ومقتنعًا بأنّه مكلّف برسالة ربّانية أو بمهمّة تاريخية تتمثّل في تحقيق إرادة الشعب. إلّا أنّه باستثناء شعاره الانتخابي «الشعب يريد» ومشروعه لتغيير النظام السياسي من الديمقراطية البرلمانية المعدّلة إلى ديمقراطية تنطلق من المحلّي نحو المركز عبر انتخابات على قوائم فردية وليست حزبية ممزوجة بحكم رئاسي، لا يبدو أنّ الرئيس يملك تصوّرًا لما هو مطلوب من خيارات اقتصادية وسياديّة لإنقاذ البلاد. وهو ما يفتح الباب –في ظلّ صعوبة الأوضاع الاقتصادية والمالية– للتدخّل الأجنبي (خاصّة ما يبدو من مساندة محور السعودية/الإمارات[33] المتحالفيْن مع الكيان الصهيوني). كما أنّ افتقار الرئيس لتنظيم سياسي مُمَأسَس قادر على جسّ نبض المجتمع ومساعدته في المناورة الميدانية يجعله معتمدًا على مؤسّسات الدولة وتقارير أجهزتها الأمنية بصورة شبه كلّيّة. وفي حال عَجِز سعيّد عن إيجاد حلول بالسرعة الكافية للأولويات المعيشية والصحّية للطبقات الشعبية، فإنّه قد يُفسح المجال لخصومه المتضرّرين من أوضاع ما بعد 25 يوليو الإطاحة به (والأخطر أن يستغلّ الفرصة أنصار ما قبل 14 يناير للانقلاب عليه)، أو أنّه قد ينزلق نحو الاستبداد والاعتماد على الأجهزة لقمع أبناء تلك الطبقات التي رأت فيه «الأمل الأخير» في الدولة.
أمّا بخصوص اليسار، فلا بديل لديه بعد أن أضاعَ فرصًا ثمينة للانتشار الجماهيري في السنوات الماضية، سوى نزع أوهامه الثقافويّة والتفكير جدّيًا في سُبل الانغراس وسط الطبقات الشعبيّة.