قبل فوات الأوان
الحاجة الماسّة إلى انتقال عادل في شمال أفريقيا
حمزة حموشان وكايتي ساندويل
14/10/2022
“اللحظة المناسبة هي الآن وإلا فلا، إذا كنا نريد حصر الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية”. هذا هو التحذير الذي أطلقه جيم سكيا، الأستاذ في كلية لندن الملكية والرئيس المُشارك في فريق العمل المسؤول عن أحدث استعراض شامل (2022) لعلوم المناخ نفّذته الهيئة الحكومية المعنية بتغير المناخ (IPCC –آي بي سي سي – هيئة المناخ). يحذر التقرير من أن العالم على شفا الوصول إلى احترار بواقع 1.5 درجة مئوية خلال العقدين المقبلين، ويذكر أن الاقتطاعات الهائلة من الانبعاثات الكربونية – بدءاً من اليوم – هي وحدها القادرة على تجنّب كارثة بيئية ومناخية. بما أن هذه الاستعراضات والتقارير لا تُعد إلا كل ست إلى سبع سنوات، فربما يكون هذا هو التحذير الأخير من هيئة المناخ قبل أن يمضي العالم إلى مسار لا رجعة عنه من الانهيار المناخي، ستكون عواقبه وخيمة. الكوكب يعاني من ارتفاع درجات الحرارة بوتيرة سريعة للغاية، مع ظهور آثار كارثية بالفعل. كما أعلن أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في سياق إطلاق التقرير: “على أرض الواقع، هذا يعني غرق مدن كبرى، وموجات حرّ غير مسبوقة، وعواصف مروعة، وندرة مياه على نطاق واسع، وانقراض مليون نوع من النباتات والحيوانات“.
ولقد بدأت تظهر أعراض الانهيار المناخي في شمال أفريقيا والمنطقة العربية،1 في صورة تقويض الأسس الإيكولوجية والاجتماعية-الاقتصادية للحياة. تعاني دول مثل الجزائر وتونس والمغرب ومصر من موجات حر متكررة وحادة، وفترات جفاف مطولة، وهي الظواهر التي لها آثار كارثية على الزراعة وصغار المزارعين. في صيف 2021، واجهت الجزائر حرائق غابات غير مسبوقة ومدمرة، وتعرضت تونس لموجة حر خانقة، حيث اقتربت درجات الحرارة من 50 درجة مئوية، وعانى جنوب المغرب من جفاف مروع للموسم الثالث على التوالي، وفي جنوب مصر، فقد 1100 شخص بيوتهم في فضيانات وأصيب المئات بسبب لدغات العقارب التي خرجت من الأرض بسبب الظروف المناخية المتطرفة. وفي السنوات المقبلة، تُقدّر هيئة المناخ أن منطقة حوض المتوسط ستتعرض لاشتداد للأحداث المناخية المتطرفة، مثل حرائق الغابات والفيضانات، مع زيادة في معدلات القُحولة والجفاف2.
آثار هذه التغيرات تقع بقدر غير متناسب على المهمشين في المجتمع، لا سيما صغار المزارعين والمشتغلين بالرعي والعمال الزراعيين والصيادين. بدأ الناس بالفعل يشعرون بالاضطرار إلى ترك أراضيهم بسبب موجات الجفاف والعواصف الشتوية الأقوى والأكثر تواتراً، وتوغّل الأراضي الصحراوية وارتفاع مستوى سطح البحر.3 تعاني المحاصيل من الفشل في مواسم الحصاد، وتقلّ مصادر المياه تدريجياً، فيشتدّ تأثيرها على الإنتاج الغذائي في منطقة تعتمد بشكل مزمن على الواردات الغذائية.4 سوف تطرأ ضغوط هائلة على إمدادات المياه القليلة بالفعل بسبب التغيرات في أنساق تساقط الأمطار وتوغل مياه البحر في خزانات المياه الجوفية، فضلاً عن الإفراط القائم في استخدام تلك المياه. بحسب مقال نُشر في دورية “لانسيت”، فسوف يعرّض هذا أغلب الدول العربية لمستوى فقر مائي مُطلق بواقع 500 متر مكعب للفرد سنوياً بحلول عام 2050. 5
يتنبأ علماء المناخ بأن المناخ في قطاعات واسعة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد يتغير بشكل يهدّد قدرة بقاء السكان على قيد الحياة نفسها.6 في شمال أفريقيا على سبيل المثال، ستشمل الفئات التي ستتغير حياتها بأكبر قدر صغار المزارعين في دلتا النيل والمناطق الريفية في كل من المغرب وتونس، والصيادين في جربا وقرقنة (تونس) وسكان عين صالح في الجزائر واللاجئين الصحراويين في مخيمات تندوف (الجزائر) والملايين ممن يعيشون في عشوائيات القاهرة والخرطوم وتونس العاصمة والدار البيضاء.
ما يحرك عنف التغير المناخي هو قرار الاستمرار في حرق الوقود الأحفوري، وهو اختيار اتخذته الشركات والحكومات الغربية، بالتعاون مع الطبقات الحاكمة في مختلف الدول. تضع الأنظمة السلطوية في المنطقة خطط الطاقة والمناخ بمساعدة داعميها في الرياض وبروكسل وواشنطن. وتتعاون النُخب المحلية الثرية مع الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية. ورغم وعودها، فإن تصرفات هذه المؤسسات تُظهر أنها عدوة للعدالة المناخية وبقاء الجنس البشري.
في كل عام، يجتمع قادة العالم السياسيين والمستشارين والإعلام ولوبيات الشركات في مؤتمرات الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP – كوب). لكن على الرغم من التهديد الذي يواجه الكوكب، تستمر الحكومات في السماح بتصاعد الانبعاثات الكربونية وبتفاقم الأزمة. بعد ثلاثة عقود مما وصفته الناشطة البيئية السويدية غريتا ثونبرغ بـ “بلاه بلاه بلاه”، أصبح من الواضح أن المحادثات المناخية مفلسة وفاشلة. اختطفتها الشركات والمصالح الخاصة التي تروج لحلول كاذبة هدفها جني الأرباح، مثل أفكار تجارة الكربون وما يُسمى بـ “الصفر الصافي” و”الحلول المستندة إلى الطبيعة”، بدلاً من إجبار الأمم الصناعية والشركات متعددة الجنسيات على تقليل الانبعاثات الكربونية وترك الوقود الأحفوري حيث ينتمي، في باطن الأرض.7
جذب مؤتمر كوب26 الذي انعقد في غلاسغو في عام 2021 اهتماماً إعلامياً هائلاً لكنّه لم يحقق أيّ عوائد كبرى. و يُرجح أنّ محادثات 2022 و2023 التي ستنعقد في المنطقة العربية (كوب27 في مصر وكوب28 في الإمارات) لن تؤدي إلى إنجاز يُذكر، لا سيما على ضوء اشتداد التنافس الجيو-سياسي العالمي على خلفية الحرب في أوكرانيا، وهو سياق لا يسمح بالتعاون بين القوى الكبرى، ويمثل ذريعة إضافية لاستمرار الإدمان العالمي على الوقود الأحفوري. سيكون هذا هو المسمار الأخير في نعش محادثات التغير المناخي.
إن بقاء الجنس البشري يعتمد على ترك الوقود الأحفوري في باطن الأرض، وعلى التكيف مع المناخ المتغير مع الانتقال إلى طاقات متجددة ومعدلات مستدامة من استخدام الطاقة وتحولات اجتماعية أخرى. سوف تُنفق المليارات على محاولة التكيف، من البحث عن مصادر مائية جديدة وإعادة هيكلة الزراعة وتغيير المحاصيل وبناء حواجز بحرية (مصدات أمواج) لإبقاء الماء المالح بعيداً عن اليابسة، وتغيير شكل وطبيعة المدن، ومحاولة الانتقال إلى مصادر خضراء للطاقة من خلال بناء البنية التحتية المنشودة والاستثمار في الوظائف والتكنولوجيا الخضراء. لكن مصالح مَن ستخدم هذه التحولات والانتقال الطاقي؟ ومن هم المتوقع أن يدفعوا أغلى أثمان الأزمة المناخية والتعاملات معها؟
تصيغ حالياً نفس القوى وبنى السلطة الشرهة التي أسهمت في حدوث تغير المناخ الردَّ عليه والتعامل معه. هدفها الأساسي هو حماية المصالح الخاصة وجني أرباح أكبر. في حين أن المؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تعكف على وضع تصورات عن الحاجة إلى الانتقال المناخي، فإن تصوراتها هي تصورات بانتقال رأسمالي بقيادة الشركات في أغلب الأحيان، وليست تصورات بخطط تقودها المجتمعات المحليّة وفي خدمة مصالحها. لا تجد أصوات منظمات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية عادةً آذاناً صاغية عندما يتعلق الأمر بعواقب هذا الانتقال والحاجة إلى بدائل عادلة وديمقراطية. على النقيض من ذلك فإن المؤسسات المالية العالمية ومعها وكالة التنمية الألمانية ومختلف هيئات الاتحاد الأوروبي تتحدث بوضوح وبصوت مسموع، وتنظم الفعاليات وتنشر التقارير في دول المنطقة العربية. إنها تسلط الضوء على مخاطر العالم الذي يزدد حرارةً وتدعو إلى تحركات عاجلة، بما يشمل استخدام طاقة متجددة أكثر وخطط للتكيف. لكن تحليلاتها للتغير المناخي والانتقال المنشود ضيّقة ومحدودة وهي في واقع الأمر خطرة، إذ تهدد بإعادة إنتاج نفس أنماط الاستلاب ونهب الموارد التي وسمت حقبة الوقود الأحفوري الحالية.
رؤيةَ المستقبل التي تدفعها أطرافٌ مثل البنك الدولي ووكالة التنمية الألمانية والهيئة الأمريكية للتنمية الدولية ووكالة التنمية الفرنسية والكثير من هيئات الاتحاد الأوروبي، يكون الاقتصاد فيها خاضعاً لمنطق الربح الخاص، بما يشمل الدفع بالمزيد من الخصخصة للمياه والأرض والموارد والطاقة، بل وحتى الغلاف الجوي. تشمل المرحلة الأخيرة في هذا التّوجه الشراكات بين القطاعين العام والخاص التي يتم تنفيذها في كل قطاع في المنطقة، وتشمل كذلك قطاع الطاقات المتجددة. الدفع نحو خصخصة الطاقة وهيمنة الشركات في مجال الانتقال الطاقي ظاهرة عالمية لا تقتصر على شمال أفريقيا والمنطقة العربية، لكن آليات هذه العملية هنا متقدمة أكثر، ولم تصادف إلى الآن مقاومة كبيرة. المغرب ماضٍ بقوة في هذا المسار، وكذلك تونس. وهناك دفع قوي بالخصخصة وتوسيعها في قطاع الطاقة المتجددة في تونس، مع تقديم محفزات هائلة للمستثمرين الأجانب لإنتاج الطاقة الخضراء في البلاد، بما يشمل إنتاجها لأغراض التصدير. وتسمح القوانين التونسية باستخدام الأراضي الزراعية في تنفيذ مشروعات الطاقة المتجددة في بلد يعاني بالفعل من تبعية غذائية حادة8 (كما تبين أثناء انتشار جائحة كوفيد ثم حتى وقت كتابة هذه السطور، مع اجتياح الحرب لأوكرانيا).
تشدّد حتمًا تطورات كهذه في المنطقة على أهمية طرح سؤال: “الطاقة من أجل ماذا ومن أجل من؟ من الذين سيخدمهم الانتقال الطاقي؟” تستعرض المؤسسات المالية الدولية والشركات والحكومات “الاقتصاد الأخضر” أو ما تسمّيها ب”التنمية المستدامة” بصفتها منظورًا جديدًا. لكنها في واقع الأمر امتداد لنفس منطق التراكم الرأسمالي والتسليع والتعامل بمنطق مالي بحت، بما يشمل تطبيق كل هذا على الطبيعة ذاتها.
إن الواقع التاريخي والسياسي والجيوفيزيائي لمنطقة شمال أفريقيا يعني أن كلًّا من الآثار والحلول الخاصة بالأزمة المناخية ستكون مختلفة في المنطقة عن وضعها في أية سياقات أخرى. إنخرطت شمال أفريقيا في الاقتصاد الرأسمالي العالمي من موقع تابِعٍ: أثّرت القوى الاستعمارية على دول شمال أفريقيا أو أجبرتها على القبول ببناء اقتصاداتها بالأساس حول استخراج وتصدير الموارد – عادةً ما تُقدم رخيصة في صورة خام – اقتراناً باستيراد السلع الصناعية عالية القيمة. النتيجة هي نقل واسع النطاق للثروة إلى المراكز الإمبريالية على حساب التنمية المحلية.9 يؤكد استمرار هذه العلاقات غير المتكافئة أو المتعادلة حتى اليوم على دور دول شمال أفريقيا بصفتها جهات مُصدِّرة للموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز والسلع الأساسية المعتمدة بشكل مكثف على المياه والأرض، مثل المحاصيل الزراعية النقدية. يفاقم هذا التجذّر للنمط الاقتصادي الاستخراجي التصديري من التبعية الغذائية والأزمة الإيكولوجية مع تكريس علاقات هيمنة امبريالية وتراتبيّات استعمارية جديدة.10
ومن ثم فهناك أسئلة مهمة يجب طرحُها عند الحديث عن التصدي لتغير المناخ والتحول نحو الطاقات المتجددة في المنطقة: كيف سيكون التعامل العادل مع التغير المناخي هنا؟ هل يعني حرية الانتقال إلى أوروبا وفتح الحدود معها؟ هل يعني تسديد الدين المناخي والإنصاف والتعويض من قبل الحكومات الغربية والشركات متعددة الجنسيات والنخب المحلية الثرية؟ هل يعني الانتقال بعيداً عن النظام الرأسمالي؟ ما الذي يجب أن يحدث لموارد الوقود الأحفوري في المنطقة والجاري استخراجها حالياً من قبل شركات غربية؟ من الذي يجب أن يسيطر على الطاقة المتجددة لدينا؟ ما معنى التكيّف مع المناخ المتغير ومن سيشكل هذه الآليات ومن سيستفيد منها؟ ومن هي الأطراف التي ستكافح من أجل تغيير حقيقي وتحوّلات جذريّة؟
بينما بدأت بعض الحكومات عبر العالم في التعامل مع تغير المناخ بجدية، فهي كثيراً ما تفعل هذا انطلاقاً من منظور “الأمن المناخي”،11 من تدعيم للدفاعات ضد ارتفاع مستوى سطح البحر إلى مواجهة الحوادث المناخية المتطرفة، ولكن كثيراً ما تُفعّل إجراءاتها أيضاً ضد “تهديد” اللاجئين المناخيين وضد إعادة التفاوض على توزيع السلطة عالمياً. علينا أن نبدأ بالبحث في قضايا التغير المناخي من خلال منظور العدالة، لا منظور الأمن. مستقبلٌ يَتم تشكيله حول منظور “الأمن” سيُخضع نضالاتنا لأطر مفاهيمية وتخيّلية تعيد في نهاية المطاف تمكين قوى الدولة القمعية، مع فرض المنطق الأمني والعسكري على الاستجابة لتغير المناخ. المزيد من الدبابات والبنادق، وجدران أعلى، وحدود أكثر “عسكرة”، هي إجراءات لن تحل الأزمة المناخية. في أفضل الأحوال، سوف تسمح للأغنياء بالبقاء في أوضاع مريحة مع دفع باقي العالم ثمن الجمود في التعامل مع التغير المناخي. علينا أن نُقدِم على قطيعة نهائية مع نظام الاستغلال الرأسمالي للناس والكوكب، الذي أدى إلى الأزمة المناخية، لا أن نُمكّن هذا النظام بتسليحه وتعميق وجوده.
الاستشراق البيئي
كما قوّض الإخضاع الاقتصادي والهيمنة الإمبريالية من الاستقلالية السياسية والاقتصادية للمنطقة العربية، فإن إنتاج المعرفة عن الشعوب العربية وتمثيلهم هم وبيئتهم يُستخدم بالمثل من قبل القوى الكولونيالية لشرعنة مشاريعها الاستعمارية وأهدافها الإمبريالية. تستمر استراتيجيات الهيمنة تلك حالياً في دول المنطقة ويجري إعادة تشكيل التصورات عنها (مرة أخرى) بصفتها أشياء يجدُر تنميتها، بما يدعم مرة أخرى أفكار “رسالة التحضر الأوروبية” من العهود الكولونيالية.
تحاجج ديانا كيه ديفيز بأن التصوّرات البيئية الأنغلو-أوروبية في القرن التاسع عشر مثّلت البيئة بالعالم العربي بصفتها “غريبة ومختلفة وفانتازية وغير طبيعية، ومتدهورة كثيراً بشكل من الأشكال”. استخدمت بدقة ومهارة مفهوم “الاستشراق”12 الذي صكه إدوارد سعيد، كإطار مفاهيمي لتفسير التمثيلات الغربية المبكرة للبيئة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كشكل من أشكال “الاستشراق البيئي”. تم سرد البيئة من قِبل من أصبحوا أصحاب سلطة إمبريالية – بالأساس من بريطانيا وفرنسا – بصفتها “غريبة وناقصة”، مقارنة بالبيئة الأوروبية “الطبيعية والمثمرة”. انطوى هذا على استخدام قدر من التدخلات التي هدفت إلى “تحسين وترميم وتطبيع وإصلاح” البيئة.13
استخدمت السلطات الاستعمارية هذا التمثيل/التجسيد المخادع للتدهور البيئي والكارثة البيئية المفترضين في تبرير جميع أشكال الاستلاب التي أقدمت عليها، فضلاً عن السياسات التي صممتها للسيطرة على السكان في المنطقة وعلى بيئتهم الطبيعية. في شمال أفريقيا، شيد الاستعمار الفرنسي سردية بيئية انطوت على مقولات التحلل والتفسخ والتدهور من أجل تنفيذ “تغيرات دراماتيكية، اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية”.14 انطلاقاً من هذا المنظور، فإن السكان المحليين وبيئاتهم احتاجوا معاً إلى مباركة “رسالة التحضر الأوروبية” وعناية الرجل الأبيض.
دائماً ما تكون السرديات نتاجاً للحظة تاريخية، وهي لا تكون بريئة النوايا أبداً، ومن ثم على المرء أن يطرح السؤال: لمصلحة من يتم إنتاج المعرفة والتمثيلات والسرديات؟ ثمة مثال معاصر واضح، هو التمثيل الحالي لصحراء شمال أفريقيا، التي عادة ما توصف بأنها أرض فسيحة وخالية وميتة فيها قلة من السكان، وكأنها الجنة الموعودة للطاقة المتجددة. بناءً على هذا التصور، فهي تمثّل فرصة ذهبية لتقديم الطاقة الرخيصة لأوروبا حتى تستمر في نمط حياتها الاستهلاكي الباذخ وفي استهلاك الطاقة المفرط. تتجاهل هذه السردية الكاذبة أسئلة الملكية والسيادة وتخفي وراءها علاقات الهيمنة والسيطرة العالمية التي تيسّر نهب الموارد وخصخصة المشاع وسلب المجتمعات، من ثم تدعم سبل الإدارة غير الديمقراطية والإقصائية للانتقال الطاقي. كما هو الحال في مناطق عديدة حيث حياة الناس وسبل معاشهم خفية أو “مخفية” في عين الدول المستعمرة، “لا توجد أراضٍ خالية” في شمال أفريقيا.15 حتى عندما تكون الأراضي قليلة السكان، فلا تزال البيئات التقليدية والأراضي مغروسة في قلب الثقافات والمجتمعات القائمة، ولابد من احترام حقوق الناس وسيادتهم في سياق أي تحول اجتماعي-إيكولوجي.
من الضروري تحليل الآليات التي يتم بموجبها نزع إنسانية الآخر، وكيف تُستخدم سلطة التمثيل وبناء التخيلات حوله (وحول بيئته) في تعميق بنى السلطة والهيمنة والاستلاب. في هذا الصدد، ما وصفه إدوارد سعيد في “الاستشراق” بأنه “احتقار واختزال ونزع الطابع الإنساني” عن الثقافات أو الشعوب أو المناطق الجغرافية الأخرى، مستمر حالياً في تبرير العنف الموجه ضد الآخر وضد طبيعته. يتخذ هذا العنف قالب تهجير السكان والسيطرة على أراضيهم ومواردهم، وجعلهم يدفعون الثمن الاجتماعي والبيئي للمشروعات الاستخراجية ومشروعات الطاقة المتجددة، مع قصف وتقتيل الشعوب المظلومة وترك المهاجرين يغرقون في المتوسط، وتدمير الأرض تحت لواء التقدم.
كما قالت ناعومي كلاين بوضوح في محاضرتها عام 2016 في ذكرى ادوارد سعيد،16 لمّا كانت تصف الثقافة البيضاء الاستعلائية/العنصرية: “الثقافة التي تعطي قيمة ضئيلة للغاية لحياة الناس السود وداكني البشرة، الثقافة المستعدة لترك البشر يختفون تحت الأمواج العالية، وينتحرون بإضرام النار في أنفسهم في مراكز الاحتجاز، سوف تكون مستعدة لقبول فكرة أن تختفي الدول التي يعيش فيها هؤلاء تحت الأمواج العالية، وأن تحرقها الحرارة الشديدة”. ولن تطرف لها عيناً وهي تلقي بعبء التكاليف الاجتماعية-البيئية الكارثية على فقراء هذه الدول. إن مقاومة وتفكيك الاستشراق والسردية البيئية النيوكولونيالية عن شمال أفريقيا سوف تمكّن من وتتطلب بناء رؤى بحراك جماعي ضد التغير المناخي، ومن أجل العدالة البيئية والتحول الاجتماعي-الإيكولوجي التي تضرب جذورها في تجارب وتحليلات وأفكار تحرّرية من مناطق أفريقيا والعالم العربي وغيرها من المناطق.
لماذا هذا الكتاب؟ ولماذا الآن؟
على العموم، تهيمن على أغلب الكتابات عن التغير المناخي والأزمة الإيكولوجية والانتقال الطاقي في شمال أفريقيا والمنطقة العربية المؤسسات النيوليبرالية الدولية. تحليلاتها متحيزة ولا تتعاطى مع أسئلة الطبقة والعرق والجندر والعدل والسلطة أو التاريخ الكولونيالي. حلولها المقترحة ووصفاتها للمشاكل تستند إلى السوق، وتأتي من أعلى لأسفل، ولا تتصدى للأسباب الجذرية لأزمات المناخ والبيئة والغذاء والطاقة. تؤدي المعرفة التي تنتجها هذه المؤسسات وبشكل عميق إلى عدم التمكين، وتتجاهل أسئلة القمع والمقاومة، وتركز بقوة على نصائح “الخبراء”، مع إقصاء الأصوات “القادمة من أسفل”.
هذا الكتاب محاولة لتصليح هذه الأوضاع. إنه مجموعة مقالات من مختلف دول شمال أفريقيا، تركز على جوانب متعددة من الانتقال الطاقي وكيفية جعله عمليّة منصفة وعادلة. تغطي الفصول جملة عريضة من الدول، من المغرب والصحراء الغربية والجزائر حتى تونس ومصر والسودان، كما تشمل إسهامات إقليمية عن الانتقالات الزراعية والهرولة وراء الهيدروجين في الآونة الأخيرة في شمال أفريقيا.
حتى الآن، لم تظهر مجموعة متوفرة على نطاق واسع من الكتابات بأقلام باحثين أو نشطاء نقديّين من شمال أفريقيا عن الانتقال الطاقي العادل، باللغات العربية أو الإنكليزية أو الفرنسية، سواء ضمن كتاب أو موارد متوفرة عبر الإنترنت. بينما تكتسب كتبٌ عن الصفقات الخضراء الجديدة17 والانتقال الطاقي المنشود اهتماماً متزايداً، تبقى كتابات المؤلفين الناقدين من الجنوب العالمي مهمّشة، ومنهم كُتاب من شمال أفريقيا والمنطقة العربية. نظراً للأهمية البالغة لتحدي المركزية الأوروبية والحاجة إلى نهج واعٍ بالتحليل الطبقي في التعامل مع تخفيف آثار والتكيف مع التغير المناخي (بما يشمل التحرك بشكل عاجل نحو الطاقات المتجددة)، نجد أنفسنا بصدد فجوة هائلة.
يعتمد هذا الكتاب بشكل صريح منظور “العدالة”. إنه يهدف إلى كشف السياسات والممارسات التي تحمي النخب السياسية والشركات متعددة الجنسيات والنظم السلطوية والعسكرية. ويسعى إلى الإسهام في عمليات إنتاج المعرفة والمقاومة لسلب الأرض/الموارد والأجندات النيوكولونيالية، وذلك من أجل الوصول إلى الاستدامة القادرة على إحداث تحولات جذرية، من أسفل لأعلى، بناء على افتراض أن هذا النهج يتيح أكبر إمكانات للتعامل مع الأزمات البيئية والغذائية والطاقية والاجتماعية.
هذه هي أول مجموعة من المقالات باللغة العربية، تتناول مسألة الانتقال الطاقي في شمال أفريقيا، بالاستعانة بمنظور العدالة وإطار عمل الانتقال العادل (انظر-ـي أدناه).
يهدف مشروع الكتاب إلى:
- زيادة النقد البنيوي في نقاشات الانتقال “الأخضر”، من خلال وضع أصوات المناضلين والباحثين والكُتاب من شمال أفريقيا والمنطقة العربية في قلب النقاش.
- تسليط الضوء على أهمية الأزمة المناخية وإلحاحها في شمال أفريقيا، ومقاومة تجذر الاستخراجية والاستعمار الطاقي، بالتركيز على الحاجة إلى تحليلات متكاملة وشاملة وتغيرات هيكلية كبرى.
- مناوءة الخطابات النيوليبرالية/النيوكولونيالية المهيمنة فيما يخص الانتقال “الأخضر”، والتي تروّج لها أطراف دولية كثيرة في المنطقة.
- تجاوز الخطاب “الأمني”، إذ يتجنب الكتاب المطالب المُؤطّرة حول “الأمن”، مثل الأمن المناخي والأمن الغذائي والأمن الطاقي، بينما يروج لمفاهيم مثل العدالة والسيادة وإنهاء الاستعمار.
- دعم القوى/الحركات/المجموعات الشعبية التقدمية في شمال أفريقيا والمنطقة العربية بشكل أعم، على مسار وضع تصور استجابة محلي وديمقراطي وعمومي لتحقيق الانتقال الطاقي المطلوب، تصور يأخذ بعين الاعتبار تحليلات على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطبقية والبيئية.
- المساعدة في حشد مجموعات العمل في شمال أفريقيا والمنطقة العربية حول محادثات المناخ المقبلة (كوب27 في مصر وكوب28 في الإمارات).
يهدف هذا العمل التثقيفي والسياسي إلى الإسهام في الدراسات الجديدة عن الانتقالات الطاقية عبر منهجية الاقتصاد السياسي، الذي يحقق في العلاقات بين صناعات الوقود الأحفوري وقطاع الطاقة المتجددة والنخب الإقليمية ورأس المال الدولي. كما يهدف إلى وضع واستكشاف مفاهيم وأفكار سياسية قادرة على توجيه وحشد التغيير بقيادة الحركات الشعبية في المنطقة.
ما هو “الانتقال العادل”؟
كما أوضحنا أعلاه، غالبًا ما كانت المناقشات حول التحركات والإجراءات لمواجهة تغير المناخ ضيّقة المنظور وتكنوقراطية، نيوليبرالية وقائمة على اقتصاد السوق، حيث تقدم حلولاً تأتي دائماً من أعلى لأسفل، وتركز ضمنيًا على الحفاظ على البنى العنصرية والإمبريالية والأبوية للرأسمالية. على هذه الخلفية من المقترحات التي في أفضل الأحوال تتجاهل إلى حد بعيد أسئلة السلطة والعدالة، ظهر مفهوم “الانتقال العادل” بصفته إطار عمل يضع العدالة في القلب من النقاش. ويقرّ هذا النهج -على حد قول إدواردو غاليانو- بأنّ: “حقوق البشر وحقوق الطبيعة هما مسميان لنفس الكرامة”.18 من أين جاءت فكرة الانتقال العادل؟ وما الذي يمكن أن تقدمه لمشروع إعداد رؤى تعمل من أسفل لأعلى وتقاوم الإمبريالية من أجل الخلاص البشري والتحرك على ملف المناخ في سياق شمال أفريقيا والمنطقة العربية؟
يمكن تتبع جذور مفهوم الانتقال العادل إلى الولايات المتحدة في السبعينيات من القرن العشرين، عندما ظهرت تحالفات جديدة غير مسبوقة بين النقابات العمالية والحركات البيئية والشعوب الأصلية، للنضال من أجل العدالة البيئية في سياق مواجهة الصناعات الملوِّثة للبيئة. في مواجهة القوانين البيئية التي كانت تُنفّذ حينئذ للمرة الأولى أو شُدِّدت نصوصها خلال ذلك العقد، ادّعت الشركات أن السياسات الحامية للبيئة تطالبها بفصل الكثير من العمال. التفتت النقابات والجماعات المحليّة ضد محاولة “فرق تسد” تلك، وقالت بأن العمال والجماعات – لا سيما السود وغير البيض الآخرين ومجتمعات الشعوب الأصلية الذين عانوا أكثر من غيرهم من الصناعات الملوّثة للبيئة – بينهم مصلحة مشتركة في توفير بيئة مناسبة للحياة وعمل لائق وآمن بأجور معقولة.
على مدار العقود التالية، تبنّت مختلف المجموعات مفهوم الانتقال العادل واستكشفته وشرحته وفسّرته. في البداية تركزت المجموعات هذه في الولايات المتحدة وكندا، ثم انتقل النقاش إلى مجموعات في جميع أنحاء العالم، لا سيما في أمريكا الجنوبية وجنوب أفريقيا. تعاونت الحركات العمالية وحركات العدالة البيئية –مع الشعوب الأصلية والحركات النسوية والشباب والطلاب ومجموعات أخرى– على بناء تحالفات ورؤى مشتركة لتقديم حلول قادرة على إحداث تحولات جذرية في ملف الأزمة المناخية، بما يشمل التصدي للأسباب الجذرية، مع وضع حقوق الإنسان وسيادة الشعوب ومواجهة التدهور الإيكولوجي في الصدارة.
ومع اكتساب إطار العمل هذا الشعبية والانتشار، زادت الشركات والحكومات من محاولاتها لتقديم رؤاها الخاصة للانتقال العادل، وجاءت تلك المحاولات مفتقرة للتحليل الطبقي، مع إنكار الحاجة إلى تحولات جذرية. مع ذكر مفهوم “الانتقال العادل” في ديباجة اتفاق باريس –وهو انتصار اكتُسِب بشق الأنفس من طرف الحركات العمالية وحركات العدالة المناخية العالمية– اشتدت وتيرة هذا “الالتفاف” على المفهوم وتخفيف مغزاه السياسي القوي. اليوم، لم يعد “الانتقال العادل” مفهوماً واحداً، حيث أصبح واقعاً في حقل من الخلاف حوله، في مساحة تشهد نضالات حول الحلول المطلوبة والممكنة للأزمة المناخية. لا يعني المصطلح بالضرورة سياسات تقدمية مُخلصة للبشر، إذ تستخدمه الكثير من الأطراف لوصف مقترحات لا تعدو كونها “استمرار الحال على ما هو عليه” والدفاع عنها، أو على مسار تكثيف النمط الاستخراجي “الأخضر”. على ذلك، وبخلاف الحديث عن “التنمية المستدامة” أو “الاقتصاد الأخضر”، فيقدّم مفهوم الانتقال العادل مساحة يمكن للحركات استغلالها للإصرار على سموّ العدالة في جميع الحلول المناخية المقترحة. رغم محاولات “الالتفاف” على المفهوم ونزع حدته السياسية، تُعدّ مركزية “العدالة” في المصطلح في حد ذاتها نقطة قوة تحافظ على سلامة المفهوم.
مقترحات الانتقال العادل التي تقدمها الحركات الاجتماعية التقدمية مدفوعة بقناعة أنّ الناس الذين يتحملون أعلى كلفة للنظام الحالي، يجب ألا يصبحوا هم من سيدفعون ثمن الانتقال إلى مجتمع مستدام، بل يجب أن يكونوا في صدارة الأطراف التي ستشكل مسار هذا الانتقال. استكشفت ديناميّات عديدة جوانب مختلفة من هذه المسألة، سعياً لتحسين فهم تكاليف النظام القائم وإمكانات الانتقال، والنفقات المحتملة للبدائل المقترحة. من المنظورات النسوية وتلك الخاصة بالشعوب الأصلية، إلى البرامج الإقليمية والقُطرية، فإن الحركات المختلفة تدفع بتعريفاتها الخاصة بها لكل من “العدالة” و”الانتقال” في سياقاتها المتعددة.19
مع عدم الادعاء بأنه تعريف جامع مانع أو مجموعة نهائية ومستقرة من المبادئ الدائمة، فإن هذا التحليل يوضح التضاريس العامة لموقف يقرّ بأنه على المناقشات حول الانتقال العادل أن تستجيب لواقع التنمية غير المتكافئة الذي تسببت فيه الإمبريالية والكولونيالية، وأنه على الانتقال العادل أن يشمل تحولات راديكالية تزيد من سلطة “الناس العاملين” على تنوّعهم (انظر-ـي أدناه) ويقلل من سلطة النخب الرأسمالية والسياسية، مع الإعتراف بأنه لا يمكن التصدي للمشكلات البيئية دون التصدي للبنى العنصرية والمتعصبة جندرياً وغيرها من البنى القمعية للاقتصاد الرأسمالي. هذا الموقف يُقرّ كذلك أن الأزمة البيئية أكبر من كونها أزمة مناخية، إذ تشمل فقدان المواطن البيئية والتنوع الحيوي، والانهيار الشّديد للعلاقات البشرية مع “العالم الطبيعي”، ويعترف أنّ الانتقال العادل لا يمكن أن يتحقق دون تحولات في السلطة السياسية والاقتصادية نحو مزيدٍ من الديمقراطية. يُستخدم مفهوم “الناس العاملين” أو “البشر العاملين” كمفهوم جامع دال على العمال بكافة فئاتهم، بما يتجاوز مُحدِدات “الطبقة العاملة”. تحاول هذه الصياغة استيعاب فكرة تنوع صنوف العمل، من عمل بأجر وبغير أجر، في القطاعين الرسمي وغير الرسمي، دائم ومؤقت، وأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر التي تتحملها في الأغلب النساء، وكذلك أعمال ربما لا يُنظر إليها ضمن إطار “العمال” التقليدي، من قبيل الفلاحة والرعي والصيد، أو الأعمال بدوام جزئي أو موسمي، بما يشمل عمل مجموعات الشعوب الأصلية وفئات السكان الأخرى المشتغلة بأنشطة معيشية غير متعارف على كونها “عمل”. انظر-ـي أيضاً النقاش حول فئات العمال، الصفحة التالية. [هامش مُضاف للطبعة العربية].
الوجه الثاني لمتانة مفهوم الانتقال العادل هو تاريخه كأداة أو إطار موحّد للحركات المختلفة عبر خطوط الانقسام الكثيرة القائمة والمحتملة. كما أوضحنا أعلاه، فقد خرج المفهوم في الأصل للتعامل مع تكتيكات “فرّق تسد” التي تسلّحت بها الشركات المقاومة لتشديد القوانين البيئية. هذه الأساليب حية وتُمارس إلى الآن حيث تدفع الشركات بسياسات تحمي أرباحها بغض النظر عن التكاليف التي يتحمّلها المجتمعات والعمال والكوكب، مع قيامها بتحريض مختلف المناطق وفئات البشر العاملين ضد بعضهم البعض. تقرّ الحركات الدولية المعنية بالعدالة المناخية، والإئتلافات القُطرية والإقليمية والتحالفات المحلية في شتى أنحاء العالم بأننا جميعاً تقريباً مستفيدون من وجود بيئة مزدهرة وحية، وأننا نعاني عندما تتركز الثروة والسلطة في يد نخب ضئيلة تستفيد من حماية نفسها فقط من أسوأ آثار الأزمة المناخية. لكن بناء حملات ورؤى مشتركة وغرس الثقة والتضامن وتطوير مقترحات مشتركة والكفاح من أجلها، هي عمليات بطيئة ومليئة بالتحديات سياسياً ولكنها تبقى ضرورية إذ يُرجّح أن أي “طرق مختصرة” تحاول تجاوز هذه العمليات ستخاطر بالعدالة التي يجب أن تكون في القلب من الانتقال العادل. يمكن أن يساعد مفهوم الانتقال العادل، والتجارب المتنامية من عمل وحملات حول العالم إزاء هذا الملف، في توفير بعض الإرشاد والتوجيه على هذا الطريق الصعب.
لقد تشكّل مفهوم الانتقال العادل جزئياً على يد الحركات العمالية، لذا تبقى مسألة العمل اللائق في القلب من عدّة مقترحات مقدَّمة في إطار هذا المفهوم. لقد وصفت الكونفدرالية الدولية للنقابات العمالية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بصفتها المنطقة الأسوأ في العالم فيما يخص حقوق العمال، في ظل وفرة من الانتهاكات الممنهجة لحقوق العمال عبر المنطقة.21 تبلغ معدلات بطالة الشباب في مختلف أنحاء العالم العربي ضعف المعدل العالمي22 ويعمل نحو ثلثي العمال في شمال أفريقيا في القطاع غير الرسمي.23 في هذا السياق، ما الذي نقصده حين نتكلم عن العمل اللائق؟ وكيف يمكن أن نفهم مختلف فئات العمال/العاملين؟ بإلهام من المؤرخ والناشط السياسي الجوياني والتر رودني واستعماله السياسي لمفهوم “الناس العاملين”، فإن الباحث التنزاني عيسى شيفجي قد حاجج بأنه “في ظل النيوليبرالية، يتخذ التراكم البدائي أشكالاً جديدة ويصبح أكثر عمومية في مختلف القطاعات الاقتصادية، بما يشمل ما يُسمى بالاقتصاد غير الرسمي. يستغل المنتج نفسه/نفسها حتى يبقى على قيد الحياة، مع دعمه في الوقت نفسه لرأس المال“.24 ثم يقول شيفجي بأننا بحاجة إلى فهم جديد للعمال، يقرّ بالاستغلال الشائع الذي يواجه العمال الصناعيين المنظَّمين وكذلك العَمالة الهشّة وغير الرّسمية، والمؤقتة والمهاجرة، بالإضافة لغير مدفوعي الأجر وذوي الأجور المتدنّية (عادة النساء) الذين يقومون بأعمال منزلية وأعمال رعاية وأعمال إعادة إنتاج للمجتمع، والموظفين ذاتياً أو صغار المزارعين، والرعاة والصيادين الذين يعملون بشكل مباشر للبقاء على قيد الحياة.
في الوقت الحالي، يتخلّى أغلب البشر – بِغضّ النظر عن نوع العمل الذي يؤديه الإنسان – عن جزء من وقت الاستهلاك اليومي الأساسي الخاص بهم، وبعض حقوقهم الإنسانية أو قدرتهم على العيش بكرامة، من أجل الاستمرار في تدعيم الأرباح الهائلة للشركات متعددة الجنسيات. سواء تعلق الأمر بغذائهم أو صحتهم أو نظم الطاقة والرعاية التي تمت خصخصتها، أو وضع عبء الرعاية كاملاً على الأسرة، وهذا لأنهم خسروا أو أنهم عرضة لخسارة أراضيهم ومناطق الصيد التقليدية، أو لعدم قدرتهم على العثور على عمل مع الاضطرار من أجل تلبية حاجياتهم للمعاناة في الاقتصاد غير الرسمي حيث يفتقرون للأدوات السياسية اللازمة للمطالبة بأجور معيشية، وبغضّ النظر عن كل هاته المسارات، فالنتائج متماثلة. ليست صدفة أن هذه الأغلبية المُستَغَلة والمعرَّضة للعمل غير المستقر هي أيضاً المجموعة الأكثر عرضة لمخاطر التغير المناخي، والفئة الأقل قدرة على حماية نفسها من آثاره.
إذن بالاقتران مع مفهوم الانتقال العادل، يمكن أن نستخدم هذا التعريف لـ “البشر العاملين” أثناء إعداد رؤيتنا عمّن يجب أن تكون لهم الكلمة فيما يخص الانتقال الطاقي، والتعامل مع الأزمة المناخية بشكل عام. يمثّل المفهومان معاً المهاد والمبدأ لما يمكن أن تكونه العدالة في العمل المناخي (لمواجهة تغير المناخ)، والخطوات الملموسة التي نحتاجها لإنجاز الانتقال العادل في مختلف السياقات. يحاول الكتاب جمع هذه الرؤى المختلفة من منظور شرائح متنوّعة للناس العاملين عبر منطقة شمال أفريقيا، وأن يسلّط الضوء على بعض إمكانات بناء التحالفات والائتلافات.
ملخص لفصول الكتاب
يوثق محمد جاد تعامل مصر مع وقائع انقطاع الكهرباء واسعة النطاق والمتكررة في عام 2014 من منظور “تحرير” إنتاج الكهرباء اقتصادياً والانتقال من أسعار الكهرباء المدعمة لباقة عريضة من المواطنين. يرفض جاد زعم البنك الدولي بأن تحرير أسعار الكهرباء قد أنهى الدعم المقدم للأغنياء وأعاد توزيع الموارد باتجاه الفقراء. إذ يُظهر كيف مهّد هذا الإجراء الطريق لدخول رأس المال الدولي، على حساب الفئات الأفقر، وحوّل راديكالياً هذه الخدمة الأساسية إلى سلعة.
في فصله عن قطاع الطاقة في المغرب، يطرح جواد مستقبل أسئلة في غاية الأهمية: من أصحاب القرار في الملف المدعو بمسمى “الانتقال الطاقي” في المغرب؟ ومن المستفيدون منه ومن الذين يدفعون ثمنه؟ يحاجج بأن الشّرَاكات بين القطاعين العام والخاص تكفل أرباحاً كبيرة للشّرِكات، في حين يضطرّ الفقراء لدفع أسعار أعلى لاستهلاك الطاقة. يُقدِّر الباحث أنه لا يوجد انتقال عادل طالما يبقى قطاع الطاقة المغربي تحت سيطرة الشركات متعددة الجنسيات الأجنبية والنخبة المحلية الحاكمة، التي تسمح بنهب الدولة وتوليد الأرباح على هواها.
وفي إسهامهما حول تونس، يُظهر شفيق بن روين وفلافي روش كيف تعتمد خطط الانتقال الطاقي التونسية بقوة على الخصخصة والتمويل الأجنبي، مع إهمال صناعة القرار بشكل ديمقراطي ووضع البلاد في القلب من مخطط نيوليبرالي عالمي لتطوير وتنمية الطاقة المتجددة. يجادلان بأنه بدلاً من السعي وراء الأرباح للقطاع الخاص، فإن الانتقال العادل لتونس يعني منح العائلات والمجتمعات السبل لإنتاج طاقتهم بأنفسهم، ما يعني تقليل التبعية والترويج لتنمية صناعة محلية وتهيئة فرص عمل لائقة.
في فصلها عن الجزائر، تقول إيمان بوخاتم بأن الجزائر تواجه تحدٍ ثلاثي فيما يخص قطاع الطاقة: التبعية الاقتصادية للأرباح الهيدروكربونية (النفط والغاز)، وتنامي الطلب المحلي على الكهرباء، واتفاقات تصدير الوقود الأحفوري طويلة الأجل. تُسلِّط الضوء على الفرص والتحديات وأوجه الظلم المختلفة التي تواجه الانتقال الطاقي الأخضر في الجزائر، وتوضح كيف يجب أن تغيّر الجزائر سريعاً من طبيعة قطاع الطاقة الخاص بها، مع التركيز بشدة على العدالة الاجتماعية. تسلّط الباحثة الضوء على عوائق اجتماعية-اقتصادية ومؤسسية وسياساتية يجب تجاوزها لتحقيق الانتقال العادل.
في إسهامهما عن أزمة الكهرباء في السودان يوضح محمد صلاح ورزاز بشير تطور قطاع الطاقة في البلاد منذ العهد الاستعماري، ويعزيان تطوره اللامتكافئ إلى السياسات من ذلك العهد واستمراريتها في مرحلة ما بعد الاستعمار. يقدمان نقداً للمشروعات الهيدرو-كهربائية (السدود) في السودان من حيث كلفتها الاجتماعية-الاقتصادية والبيئية، إذ تعمق من أوجه اللامساواة القائمة وتُضرّ بسبل كسب الناس للدخل والمعيشة. كما ينتقدان أجندة البنك الدولي الخاصة بـ”تحرير” وخصخصة قطاع الطاقة في السودان، ويوضّحان كيف أن هذه الخطط لن تؤدي إلّا إلى إفقار الناس والحدّ من توفر الطاقة.
تُظهر كارين ريغنال كيف تُعَدّ الطاقة الشمسية مُضمَنةً في قلب تاريخٍ طويل من النمط الاستخراجي في المغرب، وتكشف عن نقاط استمرارية مذهلة بين سلاسل الوقود الأحفوري السلعية وتلك الخاصة بالطاقات المتجددة في المملكة. تثير هذه “الاستمراريات” تساؤلات عن كيفية العمل باتجاه الانتقال العادل، ليس في المغرب فقط، إنما في دول العالم المختلفة التي تشهد صعوداً حثيثاً في مشروعات الطاقة المتجددة، عادةً في مناطق لها تاريخ طويل من التنقيب واستخراج المعادن. تطرح تساؤلات عن كيفية المطالبة بأشكال جديدة من الطاقة مع عدم إعادة إنتاج بعض أوجه اللامساواة الاقتصادية والسياسية التي ابتلت رأسمالية الوقود الأحفوري.
يحلّل حمزة حموشان كيف تَجنَح مشروعات تصميم وهندسة الطاقة المتجددة إلى تقديم التغير المناخي بصفته مشكلة واحدة عابرة لجميع مناطق الكوكب، دون حتى طرح تساؤلات عن نموذج الطاقة الرأسمالي والإنتاجوي، أو النظر إلى المسؤوليات التاريخية للغرب المتقدم صناعياً. يقول بأن هذا يُترجم في منطقة شمال أفريقيا إلى ما يمكن وصفه بـ “الكولونيالية الخضراء”، أكثر من كونه سعياً للبحث عن انتقال طاقي يخدم البشر العاملين. يتناول المؤلّف في الفصل مثال الهرولة وراء الهيدروجين الأخضر ويحاجج بأن هذا المشروع وأمثاله هو بمثابة مخطط نيوكولونيالي للنهب والاستلاب.
في دراستهم، قام كل من جوانا آلان وحمزة لكحل ومحمود لمعدل بتسليط الضوء على كيفية عمل النمط الاستخراجي حالياً في الجزء المحتل من قِبل المغرب من الصحراء الغربية، بالتركيز بالأساس على تطورات الطاقة المتجددة، إذ يُحتَفى بالمغرب بشكل عام في الساحة الدولية لقاء التزاماته بما يُسمى “الانتقال الطاقي الأخضر”. يقدّم الباحثون قصّة مختلفة تركّز على أصوات السكّان الصحراويين ويحاججون بأن مشروعات الطاقة المتجددة في الصحراء الغربية تدعم ببساطة سمعة الكولونيالية بيئياً و”تغسلها” (الغسيل الأخضر)، وتقوّض من الانتقال العادل الذي يمكن أن يكون مفيداً بحقّ للمجتمعات المحلية.
وأخيراً وليس آخراً، يقول صقر النور في مقاله عن الانتقال الزراعي العادل المنشود في شمال أفريقيا بأن دول المنطقة معرَّضة لتبادل غير متكافئ مع الشمال العالمي، لا سيما مع الاتحاد الأوروبي، من خلال اتفاقات تجارة تُمكّن الشمال من الاستفادة من المنتجات الزراعية في شمال أفريقيا بأسعار تفضيلية. يقول إنّ شمال أفريقيا تحتاج إلى إعادة تشكيل سياساتها الزراعية والبيئية والغذائية والطاقية ويحاجج بإفحام ببدائل تركز على المستوى المحلي وقادرة في الوقت نفسه على الازدهار محلياً، بصورة مستقلة عن المصالح الأوروبية.
على سبيل الختام
من خلال هذه المقالات، يهدف المؤلفون والمؤلفات إلى بدء نقاش أعمق عن معنى ومغزى الانتقال العادل في سياق شمال أفريقيا والمنطقة العربية. تختلف الديناميات القائمة فعلًا من دولة لأخرى في المنطقة وهي معقّدة، لكن هناك أيضاً تحديات وأسئلة مشتركة كثيرة تظهر من هذه التحقيقات: احتياجات وحقوق من هي التي يجب أن تحصل على الأولوية في الانتقال الطاقي؟ ما هو نموذج إنتاج الطاقة – ونموذج الاستخراج – الذي يمكن أن يتيح النّفاذ للطاقة لكل الناس العاملين؟ كيف تدفع دول الشمال والمؤسسات المالية الدولية المنطقة إلى تحمل أعباء الانتقال الطاقي؟ وما هي الحلول الأكثر عدالة؟ ما الدور الذي يجب أن تلعبه الدولة في قيادة الانتقال العادل؟ وما هي إمكانات إضفاء الديمقراطية على سلطة الدولة على مسار تحقيق هذا الهدف؟ ما هي التحالفات بين الأشخاص العاملين وحركات العدالة البيئية والأطراف السياسية الأخرى بالمنطقة التي تُعَدّ ممكنة وضرورية؟ وما الدور الذي يمكن أن يلعبه التضامن والمقاومة الدوليّين في دعم هذه التحالفات؟
من الواضح –وبشكل متزايد– أن الانتقال العادل لشمال أفريقيا سيتطلب الإقرار بالمسؤولية التاريخية للغرب المتقدم صناعياً، فيما يخصّ التسبّب في الاحترار العالمي. ثمّة حاجة إلى الإقرار بدور السلطة/القوة في صوغ مسار تشكل التغير المناخي ومسبّباته، ومن يتحملون عبء آثاره و”الحلول” المقدمة للأزمة. العدالة المناخية والانتقال العادل مفاهيم يمكن أن تحدث قطيعة مع “استمرار الوضع الرّاهن” الذي يحمي النخب السياسية العالمية والشركات متعددة الجنسيات والنظم غير الديمقراطية، في مبادرة نحو تحول اجتماعي وإيكولوجي وعملية تكيف راديكاليين. تزداد أولويات العدالة والبراغماتية تقارباً مع الوقت، ونقطة الالتقاء بين العدالة والبراغماتية هي الحاجة إلى تعويضات مناخية، أو تسديد الديون المناخية لدول الجنوب العالمي من قبل الشمال الأكثر ثراء بكثير. يجب ألّا يتخذ هذا شكل قروض أو ديون إضافية على الجنوب العالمي، إنما تحولات كبرى في أنماط نقل الثروة والتكنولوجيا، وإلغاء الديون الكريهة الحالية، ووقف تدفقات رأس المال غير المشروعة، وتفكيك التجارة واتفاقات الاستثمار النيوكولونيالية، من قبيل معاهدة ميثاق الطاقة،25 ووقف النهب القائم للموارد. يجب أن يراعي تمويل الانتقال الخسائرَ والأضرار الحالية المستمرّة والمستقبلية، التي تنال بشكل غير متناسب من دول الجنوب. لكن، وفي ظل عدم اقتصار اللامساواة بين الشمال والجنوب فقط، بل نراها داخل مختلف دول العالم كذلك، كيف يمكن لبرنامج جبر الضرر المناخي/التعويض المناخي أن يقترن بتهيئة نظام طاقة ديمقراطي ومنصف داخل دول شمال أفريقيا والمنطقة العربية بشكل أعم؟ هذه أسئلة مهمة ومُلحّة.
تعاني المفاوضات الدولية لمواجهة تغير المناخ من الركود، في الوقت الذي نرى فيه تسارع عجلة تغير المناخ، وانتشار وتعاظم آثاره المميتة التي لم يعد الشكّ في ارتباطها بتغير المناخ ممكناً. هذا الكتاب هو بمثابة أداة للنشطاء والمناضلين، في شمال أفريقيا وحول العالم، يساعدهم على الاستمرار في طرح الأسئلة الناقدة وبناء التحالفات والائتلافات ومنصات القوّة الشعبية، دعماً لأطروحاتهم ومقترحاتهم من أجل انتقال عادل.