عشر سنوات على الثورة التونسيّة

عن خصوصيات وحدود "الاستثناء"

غسّان بن خليفة

مــقــدّمة: عندما "أراد الشعب الحياة، واستجاب القدَر"11

الناس المتحلّقون وسط شارع بورقيبة في قلب العاصمة التونسية يتناقشون الوضع السياسي بكلّ حماس على بعد أمتار من وزارة الداخلية سيّئة الصيت، الطوابير المنتظمة أمام المخابز والمتاجر، الاحترام الاستثنائي لإشارات المرور وإفساح سوّاق السيّارات الطريق والابتسامة تعلو محيّاهم، لجان حماية الأحياء ليلًا... وفي النهار مسيرات مطلبيّة لا تنتهي لفئات وقطاعات مختلفة من الشعب، حملة عزل المسؤولين السابقين على رأس الإدارات... صار الجميع يتحدّث في السياسة في كلّ مكان، بعد أن كان ذلك أمرًا محرّمًا لا يجرأ عليه سوى بعض "المجانين"... وأنت تستعيد هذه الشذرات من ذاكرة الأحداث التي أعقَبت مغادرة الديكتاتور بن علي البلاد يوم 14 جانفي/كانون الثاني 2011 إثر تفاقم الاحتجاجات الشعبيّة، تُدركُ عظمة تلك "الأيّام التي هزّت العالم"، كما وصف جون ريد الثورة الروسية قبل حوالي قرن.

اليوم، بعد انقضاء عقد كامل على ذلك الحدث التاريخي، مازال الكثيرون يتساءلون في تونس وخارجها، هل ما وقع في تونس كان ثورة أصيلة أم انتفاضة عابرة أم "مؤامرة خارجية" أم لعلّها "أكثر من انتفاضة وأقلّ من ثورة"، كما وصف سمير أمين ما حدث العام نفسه في مصر؟ وكيف يمكن إذًا تفسير استمرار الشباب المُهمَّش، في الجهات الداخلية –التي شهدت اندلاع أحداث 17 ديسمبر/كانون الأول 2010– والأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة في التظاهر ومواجهة البوليس؟

هل "الإجابة هي تونس" فعلًا، كما يقول بعض المصريّين المتحسّرين على عودة الديكتاتوريّة في بلدهم؟ ما حقيقة "الاستثناء التونسي"، مقارنة بفشل الثورات في ليبيا ومصر والبحرين واليمن وسوريا، وماذا عن النجاح المفترض للثورة والانتقال الديمقراطي؟

للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها قد نحتاج بدايةً إلى العودة إلى ما قبل اندلاع الثورة.

كيف وصلنا إلى "الثورة"؟ عودة إلى سياق اندلاع انتفاضة 17 ديسمبر/كانون الأوّل

لا شكّ في أنّ تزايد بطالة الشباب وتهميش الجهات الداخلية كانت السبب الرئيسي لاندلاع الانتفاضة الشعبية أواخر 2010. إذ أتَت حادثة حرق الشابّ محمّد البوعزيزي (الذي قاوم البطالة بالعمل غير النظامي كبائع خضار متجوّل) لنفسه في سيدي بوزيد (ولاية في وسط تونس) بصفتها تكثيفًا لإحباط فئة الشباب المُعطَّل عن العمل في الجهات المُهمَّشة، التي راكمت الاحتجاجات خلال السنوات السابقة (انتفاضة الحوض المنجمي 2008، أحداث الصخيرة ثمّ بن قردان في 2010). إذ تشير الأرقام إلى ارتفاع نسب المعطّلين عن العمل خلال سنوات ما قبل الثورة. فرغم اجتهاد الأجهزة الإحصائية للديكتاتورية في تثبيت نسبة البطالة في 13% (من خلال احتساب من يعملون في قطاعات هشّة موسميّة كالسياحة والحصاد الزراعي) فإنّ بطالة فئة الشباب (بين 15 و29 عامًا) بلغت 31% على أقلّ تقدير.

Gafsa mining basin revolt in 2008 and protests in Skhira and Ben Gardane in 2010. Figures indicate a rise in unemployment rates during this period: despite attempts by the dictatorship’s statistical agencies to put forward an unemployment rate of 13 per cent, youth unemployment وهي أرقام عكست فشل الخيارات الاقتصادية النيوليبرالية لنظام بن علي، الذي راهن على الترفيع في نسب المتخرّجين الجامعيين المؤهلين للعمل في القطاع الخاصّ ولجلب الاستثمارات الأجنبية، وعلى اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي منذ عام 1995. تلك الاتفاقية التي لم تنجح في حلّ معضلة البطالة، بل أدّت الى تدمير قطاع النسيج وإضافة حوالي نصف مليون عامل إلى صفوف فاقدي الشغل. half a million workers unemployed.

ومن سمات هذه السياسات التنموية الفاشلة تَرَكُّز أهمّ البنى التحتيّة العموميّة واستثمارات القطاع الخاصّ في الولايات الساحلية على حساب الولايات الداخليّة.وقد مثّل ذلك استمرارًا لخيارات اقتصاديّة وضعها المستعمر الفرنسي تسهيلًا لنهبه ثروات البلاد. وهذا ما يفسّر إلى حدّ كبير ارتفاع نسب الفقر والبطالة في المناطق غير الساحليّة،2 ومن ثمّ اندلاع انتفاضة/ثورة 17 ديسمبر/كانون الأوّل في وسط البلاد في سيدي بوزيد، ثمّ انتقالها الى القصرين، الولاية الداخلية المجاورة، ومن هناك إلى ولايات مهمّشة أخرى وصولًا إلى الأحياء الفقيرة المحيطة بالمدن، حيث يعيش في ظروف صعبة كثيرٌ من أصيلي المناطق الداخلية الذين قدموا إلى العاصمة والمدن الكبيرة بحثًا عن الشغل وظروف عيش أفضل

2 It also explains the 17 December revolution, which broke out in Sidi Bouzid in central Tunisia, moved to Kasserine, a neighbouring governorate, then to other marginalized governorates, all the way to the impoverished neighbourhoods in the urban peripheries, where many live in very difficult conditions.

إثر نجاح نظام بن علي في السنوات الأولى من حكمه (وصل إلى السلطة إثر انقلاب طبّي عام 1987) في القضاء على أهمّ خصومه السياسيّين، ممثّلًا في حركة النهضة الإسلامية، بادر من أجل اكتساب شرعيّة شعبيّة إلى اتخاذ إجراءات تنموية لصالح المناطق الداخلية الأكثر عزلة، مثل تشييد الطرقات والربط بشبكات الماء والكهرباء (من خلال ما عُرف بالصندوق الوطني للتضامن، المموّل من ميزانية الدولة ومن اقتطاعات جبائية وتبرّعات المواطنين). إلّا أنّه سرعان ما انكشف الطابع الدعائي والمؤقت لهذه "الإنجازات"، كما كان يسمّيها الإعلام الرسمي وسط التسعينيات. إذ لم يلبث النظام أن واصل في نفس السياسات "التنموية" الفاشلة. وما زاد الطين بلّة هو سماح بن علي لعائلته وعائلات أصهاره بالاستيلاء على بعض الشركات العموميّة، وما توفّره من سيولة، والصفقات العموميّة، وباستنزاف البنوك المملوكة للدولة من أجل الإثراء السريع الفاحش. أدّى ذلك تقريبًا إلى حصر تراكم رأس المال وتركيزه في يد هذه القلّة القليلة من العائلات المتصاهرة (تحكمت بـ 21% من الاقتصاد التونسي وفق تقرير للبنك العالمي). وهو ما ساهم في توسيع رقعة السخط على النظام إلى جزء من البرجوازيّة التي حُرمَت من المنافسة في عدد من القطاعات المجزية. ومع ارتفاع نسب البطالة لدى أصحاب الشهادات الجامعيّة في وسط عقد الألفين (بلغت حسب الأرقام الرسميّة المشكوك في نزاهتها 22%)، فقدَ النظام مصداقيّته لدى شرائح عريضة من الطبقة الوسطى التي كان يفاخر بها World Bank report). It also helped extend anti-regime sentiment into a section of the bourgeoisie that was thereby deprived of the ability to compete in a number of profitable sectors. With rising unemployment rates among university graduates in the mid-2000s (which reached 22 per cent, according to dubious official numbers), the regime lost credibility among large segments of the middle class.

بتضافر أسباب الغضب وتعدّد أطرافه، جاءت حادثة البوعزيزي كقادح أشعل الاحتجاج الشعبي على امتداد البلاد.

يمثّل بائع الخضار المتجوّل الّذي أشعل الانتفاضة في سوق سيدي بوزيد شريحةً اجتماعية واسعة على امتداد البلاد من الشباب الذين انقطعوا عن مواصلة الدراسة، ولم يجدوا صيغة "قانونية" لـ"الإندماج" في سوق الشغل الضيّقة وشديدة الانتقائيّة. تهمة "الانتصاب الفوضوي" التي وجّهها أعوان الشرطة البلدية في سيدي بوزيد للبوعزيزي هي تهمة شائعة في مختلف ولايات تونس، ويعاني منها خاصةً أبناء الأحياء الشعبية الفقيرة في المدن. إلّا أنّ ما يميّز البوعزيزي هو انتماؤه إلى منطقة فلاحية بالأساس، عانت ومازالت تعاني من تهميش وتفقير صغار الفلاحين وانتزاع أراضيهم لصالح البرجوازية الزراعيّة (خاصّة من ولاية صفاقس). إذ شهدت مدينة سيدي بوزيد بضعة شهور قبل حادثة البوعزيزي اعتصامًا لفلاحين صغار من منطقة الرقاب ندّدوا بمحاولة البنك الوطني الفلاحي –التابع للدولة– سلبَهم أراضيهم، وقَمعَ البوليس تحرّكهم. small-scale farmers and the expropriation of their land for the benefit of the agrarian bourgeoisie (especially from Sfax Governorate). A few months before the Bouazizi incident, small-scale farmers from the town of Regueb held a sit-in in Sidi Bouzid, denouncing the state-owned Banque Nationale Agricole’s attempts to steal their lands; the police suppressed their mobilization. One can thus say that the uprising began with an informal street vendor and a peasant deprived of the (agricultural) means of production, who refused to give in to the rules of the market that forced him into employment and into the reserve army of capital.

يمكن القول إذًا إنّ الانتفاضة بدأت على يد عامل يومي غير نظامي، من وسطٍ فلاحي مُفقَّر، أو بعبارة أخرى: فلاحٌ محروم من الأرض وممارسة الفلاحة، رفض الانضباط لقواعد السوق التي تُوجب عليه أن يكون مُعطّلًا عن العمل وأحد جنود جيش الاحتياط لدى رأس المال المتمركز بإحدى الولايات الساحلية. وسرعان ما امتدّ لهيب الانتفاضة إلى بقية معتمديات ولاية سيدي بوزيد مثل منزل بوزيان والمكناسي والرقاب حيث سقط شهداء آخرون، ثمّ إلى ولايات القصرين وسليانة والكاف المجاورة، حيث نجد تقريبًا الفئات الاجتماعية نفسها: شباب مُعطَّل عن العمل ومحروم من وسائل ممارسة الفلاحة، النشاط الرئيسي لمنطقتهم في ظلّ افتقارها لأنشطة صناعيّة، وَجدَ في الاحتجاج على قتل شبّان آخرين فرصةً للتعبير عن رفضه لنفس سياسات التهميش المُسَلَّطَة عليه أيضًا.

وسرعان ما احتُضِن احتجاج الفلاحين المُفقّرين المحرومين من الأرض ومن العمل من طرف مناضلين سياسيين محلّيين ونقابيين من المنتسبين إلى الفروع الجهوية للاتحاد العام التونسي للشغل. وهو أكبر وأهمّ منظمة نقابية في البلاد، تدافع أساسًا عن مصالح الطبقة الوسطى المرتبطة بالوظيفة العمومية (نقابات التعليم الأساسي والثانوي من أهمّها) في تعبيرٍ عن تدهور ظروف عيش هذا القطاع من الطبقة الوُسطى. وساعد الوعي السياسي والطموحات الديمقراطية للعديد من القيادات المحلّية لهذه النقابات في إعطاء هذه الانتفاضة شعاراتها (من أهمّها وأوّلها "التشغيل استحقاق يا عصابة السُرّاق!").

ومع إصرار النظام على القمع الدموي (خاصّة مساء 8 جانفي/كانون الثاني وسقوط خمسة شهداء في مدينة تالة في ولاية القصرين)، عمّ الغضب أرجاء البلاد وكثّفت أحزاب "المعارضة الديمقراطية" (أساسًا حزب العمّال الشيوعي والحزب الديمقراطي التقدّمي وحركة التجديد3...) ومناضلو الاتحاد العام لطلبة تونس والنقابيّون والمحامون المُسيّسون والمناضلون الحقوقيون، تحرّكاتهم المساندة في الجامعة (قبل أن تُغلَق بقرار عطلة استثنائية) ثمّ في شوارع العاصمة وساحاتها. إذ وجدت هذه الأحزاب (التي تمثّل بأغلبها شرائح برجوازية صغيرة مثقّفة) الفرصة سانحة للتخلّص من الاستبداد السياسي، ورديفه القمع الأمني، الذي سُلِّط بدرجات وأشكال مختلفة طيلة عقود على مختلف الطبقات الاجتماعية تقريبًا.

وسرعان ما كانت هذه التحرّكات تُقمَع أو تحاصَر من قوّات البوليس. إلاّ أنّ ما عدّل الكفّة لصالح الانتفاضة كان بلا شكّ انضمام شباب الأحياء الشعبيّة المحيطة بالمدن. فهذه الفئة الاجتماعية المُهمَّشة، والتي تُعدُّ من أكبر ضحايا النظام اقتصاديًا واجتماعيًا ورمزيًا ولا تخشى على ثروة أو امتيازات تخسرها، هي من تَحَدّت بوليس النظام وبادرت إلى حرق مقرّاته مقدّمةً عشرات الشهداء في الأحياء المحيطة بوسط العاصمة –مثل باب الخضراء وباب الجديد والملّاسين والكبّارية– أو في الأحياء الشعبية في الضاحية الجنوبية –مثل حمّام الأنف أو الضاحية الشمالية (تحديدًا الكرم الغربي الذي لعب شبابه دورًا محوريًا في تهديد بن علي يوم "هروبه" في 14 جانفي/كانون الثاني 4)– أو الأحياء الشعبية لمدن سوسة (وكذلك القرى المهمّشة بولايات الساحل) وصفاقس وغيرها.

تضافر اندفاع شباب الأحياء الشعبية واستبسال شباب الجهات المُهمّشة مع التقاط بعض قيادات اتحاد الشغل –تحت ضغط قواعدها– لمعنى اللحظة التاريخية. فبادر اتحاد المنظمة الجهوي في مدينة صفاقس (ثاني أكبر مدينة في البلاد وتُعدُّ عاصمتها الاقتصادية) إلى الدعوة إلى إضراب عامّ يوم 12 جانفي/كانون الثاني. مثّل هذا الإضراب العامّ الناجح وما شهده من مظاهرة ضخمة غير مسبوقة ومواجهات عنيفة مع البوليس منعرجًا حاسمًا، وهزّ الحدث أركان النظام. تلا ذلك دعوة مماثلة من الاتحاد الجهوي للمنظمة نفسها إلى إضراب عامّ جهوي في العاصمة يوم 14 جانفي/كانون الثاني. وفي الأثناء ارتكب بن علي (متأثّرًا بنصائح بعض بطانته) خطأً مميتًا عندما حاول تهدئة التونسيين في خطاب ليلة 13 جانفي/كانون الثاني. فإلى جانب محاولته رشوة بعض المعارضة الديمقراطية بعرضه عليها المشاركة في حكومة انتقاليّة (وهو ما قبل به بعضها في الكواليس منذ 12 جانفي/كانون الثاني)، فقد بدَا مرتبكًا وهو يخاطب الشعب لأوّل مرّة باللهجة الدارجة مدّعيًا أنّه "فهم الجميع من المعارض إلى البطّال –أي المُعَطَّل عن العمل– إلى رجل الأعمال"، بعد أن كان في خطابيه السابقين إثر اندلاع الأحداث يتوخّى لهجة التهديد و"الحزم". زعم الديكتاتور أنّ البعض قد "غالطه"، مبرئًا ذمّته من إطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين، ووعد بإطلاق الحرّيات العامّة وبعدم الترشّح مجدّدًا لرئاسة البلاد وبمحاسبة "الفاسدين". كما أرفق بن علي هذا الخطاب بإعلانه وتنفيذه جملة من الإجراءات الهادفة إلى تخفيف الغضب الشعبي، مثل رفعه الحظر عن المواقع الإلكترونية السياسية والإعلامية المعارضة والمدوّنات وصفحات الفيسبوك المحجوبة his speech on 13 January. In addition to trying to bribe some of the democratic opposition by offering them positions in the transitional government (which some accepted after 12 January), Ben Ali seemed confused when addressing the Tunisian people in the vernacular for the first time. While in his two previous speeches he had used threats and referred to ‘decisiveness’, now he claimed that he ‘understood everyone, be they opposition, unemployed, or a businessman’. The dictator claimed that some people had ‘misled’ him, absolving himself of responsibility for the firing of live bullets on protesters, and he promised public liberties, not to run for the presidency again, and to hold the ‘corrupt’ accountable. Ben Ali followed this speech by announcing and executing a number of measures reducing media censorship that aimed to alleviate popular anger.

ولم تنجح المحاولات البائسة لاحتواء الموقف من خلال خروج أنصار بن علي وحزبه للاحتفاء بالخطاب وتنظيم بعض البرامج التلفزية "الحواريّة" التي استُدعيت إليها بعض الشخصيات المعارضة الليّنة. بدأ صباح يوم 14 جانفي/كانون الثاني المشهود بتدفّق المتظاهرين –الذين لبّوا دعوات انتشرت على فيسبوك للتجمّع في ساحة محمد علي الحامي (مقرّ الاتحاد العام التونسي للشغل) – في وسط العاصمة. وقد شجّع انسحاب قوّات الشرطة واستبدالها بقوّات الجيش نزول الناس أكثر إلى أن امتلأ شارع بورقيبة –الجادة الرئيسية في العاصمة– في مشهد تاريخي غير مسبوق. وهناك اعتصم الآلاف أمام مقرّ وزارة الداخلية –رمز قمع الدولة وجبروتها– هاتفين بـ "إسقاط النظام" ورحيل بن علي. وقد دامت المظاهرة –التي قادها المحامون وبعض المناضلين السياسيّين– كامل النهار تقريبًا قبل أن تتحوّل إلى مواجهات مع قوّات البوليس التي خرجت من مقرّها بعد أن استشعرت على ما يبدو خطر اقتحامها مع وصول موكب جنازة أحد شهداء الأحياء الشعبية.

تكرّر المشهد نفسه تقريبًا في جلّ مدن البلاد، حيث تحوّلت إلى ساحات كرّ وفرّ بين المتظاهرين وقوّات البوليس. وكان من أبرز أحداثها هجوم المتظاهرين على بيوت بعض أصهار بن علي وإحراقها. وفي ظلّ هذا المشهد المتفجّر بدأت عائلة بن علي وأصهاره من عائلة الطرابلسي في الهروب من البلاد خوفًا على أرواحهم. وحسب ما تسرّب لاحقًا من تحقيقات5 مع مسؤولين أمنيّين وعسكريّين ومن مؤلفّات حاولت فهم ما حصل ذلك اليوم، يبدو أنّ بعض المحيطين ببن علي –ومن ضمنهم صهره مروان المبروك 6ورئيس جهاز الأمن الرئاسي علي السرياطي– ساهموا في إرباكه وتخويفه (نقلًا عن مصادر استخباراتيّة غربية) عبر إبلاغه بهجمات وشيكة محتملة على القصر. وهو ما دفع بالديكتاتور إلى ركوب الطائرة مع عائلته نحو السعوديّة آملًا العودة منها بسرعة لقيادة عملية السيطرة على الأوضاع. leaked interrogations with security and military officials and literature examining the events of that day, it seems that some of Ben Ali’s entourage, including his in-law Marouane Mabrouk and head of the presidential guard Ali Seriati, informed him of imminent attacks on the palace. This pushed the dictator to flee with his family to Saudi Arabia, in hopes of returning soon and regaining control over the situation.

كيف وقع إجهاض الثورة؟

يشير ما سبق سرده من أحداث إلى أنّ الانتفاضة الشعبية قد خلقت ارتباكًا وشرخًا داخل أجهزة الدولة، ممّا أدّى ببعض أركانها إلى محاولة إنقاذ النظام عبر التخلّص من رأسه مُمثّلًا في بن علي وعائلته، أي الرموز التي تختزل غضب ونقمة التونسيين. وقد مثّل تاريخ 14 جانفي/كانون الثاني لحظة ارتباك حقيقي لطبقة البرجوازية الكمبرادورية المهيمنة على المجتمع التونسي، لحاجتها الماسّة إلى الاستقرار لتأمين مصالحها المتشابكة مع السوق الأوروبية.

فهذه الطبقة –المتمركزة تاريخيًا على الشريط الساحلي الشرقي (العاصمة ومنطقة الساحل وصفاقس) والمرتبطة مصلحيًا بالسلطة السياسية ودولتها المخزنية–7 تكيّفت لاحقًا مع الاستعمار الفرنسي وارتبطت به اقتصادًا وثقافة وسياسة حتى بعد الاستقلال الرسمي للبلاد عام 1956. وبعد أن استفادت من السياسة الليبرالية لرئيس الحكومة الأسبق الهادي نويرة –الذي فتح بداية السبعينيات باب التفويت في الشركات العمومية للقطاع الخاصّ8 إثر إجهاض تجربة التعاضد"الاشتراكيّة"– استغلّت هذه الطبقة أسبقيتها للاستفادة من اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لاحقًا.3 later adapted and was politically connected to French colonialism on every level, even after Tunisia’s formal independence in 1956. Having benefited from the liberal policies adopted by the former head of government Hédi Amara Nouira, who, in the early 1970s, enabled the privatization of public sector companies following the aborted ‘socialist’ cooperatives experiment, this class later used its position to benefit from the Association Agreement with the European Union.

ابتعدت هذه البرجوازية عن القطاعات المنتجة –ذات الطاقة التشغيلية العالية والضامنة لسيادة البلاد– مثل الفلاحة والصناعة الثقيلة أو تلك الموجّهة للسوق الداخليّة الضيّقة. ومع تدمير الاتفاق مع أوروبا لصناعة النسيج تقريبًا9 –في ظلّ عدم حماية الدولة لها– اتجّه الرأسماليون التونسيون نحو القطاعات سريعة الربح وذات القيمة التقنية الضعيفة واليد العاملة منخفضة التكلفة. فنشطوا في المقاولة لرأس المال الأجنبي –الباحث عن تخفيض مصاريفه– في بعض حلقات سلسلة الإنتاج (مثل مكوّنات السيّارات والطائرات والكوابل وإلخ) أو في بعض الصناعات التحويلية الموجّهة للتصدير بالأساس (مثل النسيج والصناعات الكيمياوية والغذائية وإلخ)، مع توجّه متزايد نحو قطاع الخدمات (السياحة، والاتصالات، والبنوك، والمساحات التجارية، وخدمات شركات النفط، وإلخ) وفي بعض القطاعات التوريديّة لمختلف المواد الاستهلاكية الكماليّة (مثل توريد السيّارات الذي تحتكره فئة صغيرة). كما تَخَصّص جزءٌ منها في تصدير المواد الأوّلية (لا سيما في مجال الفلاحة التصديرية10 كالتمور وزيت الزيتون والقوارص) بتشجيع من الدولة الساعية دومًا وراء العملة الصعبة. وقد أدّى هذا المنوال –على مرّ عقود– إلى تفاقم العجز التجاري، وساهم في تكريس التبعية الاقتصادية الهيكلية للاتحاد الأوروبي وتعاظم الارتهان للمؤسسات المالية المانحة وشروطها المجحفة الّتي تخدم رأس المال المصرفي في المراكز الإمبرياليّة.4 which the state failed to protect, and so Tunisian capitalists turned to quick profit-generating, low-technical capacity, low-cost labour sectors instead. Aiming to reduce their expenses, they became entrepreneurs for foreign capital in different parts of the production chain (like automotive and plane components, cables, etc), or in export-oriented manufacturing industries, such as the textile, chemical and food industries. They also increased their dealings with the service sector through tourism, communications, banks, commercial spaces, and oilfield services, and with some supply sectors for luxury goods, like car imports, which were monopolized by a small group. Encouraged by the state, some of these capitalists specialized in exporting raw materials, especially agrarian exports, such as dates, olive oil, and citrus fruits. In this manner, and over decades, the country’s trade deficit was exacerbated. Similarly, structural economic dependency on the European Union and international financial institutions was accelerated for the benefit of financial capital in the imperial cores.

إلّا أنّ هذه البرجوازية رأت كذلك في الثورة فرصة حقيقيّة لتنعتق بدورها من قبضة بن علي وأصهاره. لكن ارتياح هذه الطبقة وتفاؤلها كان مختلطًا بالخوف من تجذّر المسار الثوري بعد ما رأته من عزم وتصميم أبناء الجهات المهمّشة على مواصلة حراكها الّذي بدأته، مسنودةً ببعض المجموعات اليسارية الثورية والنقابيين الجذريين.

إذ بادر شباب تلك الجهات (وتحديدًا ولايتي سيدي بوزيد والقصرين) إلى التنقل إلى العاصمة تونس والاعتصام أمام مقرّ رئاسة الحكومة، في ساحة القصبة في العاصمة (حيث تعاطف معهم أبناء الأحياء الشعبية في المدينة القديمة)، مطالبين بخروج بعض رموز سلطة بن علي الذين بقوا في الحكم، مثل وزيره الأوّل محمّد الغنوشي (الذي أسس حكومة انتقالية مع بعض أحزاب المعارضة الإصلاحية: الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد) وأحمد فريعة وزير الداخلية. وقد وقع قمع اعتصام القصبة الأوّل في 29 جانفي/كانون الثاني بعد ستة أيام على انطلاقه، لكن الاحتجاجات لم تتوقف في مختلف أنحاء البلاد وعاد المعتصمون مجدّدًا إلى القصبة يوم 20 فيفري/شباط.

لم يكتف المعتصمون هذه المرّة بمطلب استقالة حكومة محمد الغنوشي، بل طالبوا أيضًا بحلّ حزب التجمّع الحاكم السابق وبتنظيم انتخابات لمجلس تأسيسي، إلى جانب بقية المطالب المعروفة كمحاسبة قتلة الشهداء وتحقيق التنمية للجهات المحرومة. وكان لافتًا هذه المرّة مشاركة شباب من أحزاب معارضة أخرى كانت على خلاف مع الحكومة الانتقالية (حزب العمّال وبدرجة أقلّ عناصر من حركة النهضة)، وخاصّةً الدعم اللوجستي من قيادة اتحاد الشغل والهيئة الوطنية للمحامين.

وفي المقابل شهدت منطقة المنزه المحاذية للعاصمة –حيث يعيش أبناء الطبقات البرجوازية والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة– ما عُرف باعتصام "القُبّة" (وهو اسم قاعة للرياضات الجماعيّة)، حيث تجمّع بضع مئات من أبناء الطبقة الوسطى (وصفوا أنفسهم بـ"الأغلبية الصامتة") يوميًا بعد دوام عملهم لمساندة حكومة محمّد الغنّوشي. إذ طالبوا باستعادة "الأمن والاستقرار" وبتنظيم انتخابات رئاسيّة، عوضًا عن انتخاب المجلس التأسيسي الذي طالب به معتصمو القصبة. ورفضوا كذلك "المجلس الوطني لحماية الثورة" الذي أسّسته بعض الأحزاب اليسارية، إلى جانب حركة النهضة واتحاد الشغل، في سياق ضغطها على الحكومة.

مثّلت تلك اللحظة تكثيفًا سياسيًا واضحًا للصراع الطبقي في تونس. فمن جهة، عبّرت ساحة القصبة عن أبناء الطبقات الشعبية والجهات المُهمّشة المفتقدة للقيادة والرؤية السياسية الواضحة، ما سهّل قيادتَها من طرف الشرائح الدنيا من البرجوازية الصغيرة ممثّلة في أحزاب يمينية (النهضة التي كانت مستمرّة بالسّعي إلى ترميم أوضاعها بعد عقدين من القمع) وأخرى يسارية صغيرة (كحزب العمّال الشيوعي والحلقات الوطنية الديمقراطية الخارجين من سنوات العمل السرّي والواجهات النقابيّة والجمعياتية) ومنظمات تسيطر عليها البرجوازية الصغيرة الانتهازية الساعية لتحسين مكاسبها ضمن التوافق الطبقي وبعض الإصلاحات السياسية (قيادة اتحاد الشغل والهيئة الوطنية للمحامين).

وفي الجهة المقابلة في ساحة القُبّة، كانت هناك البرجوازية التقليدية (وتحديدًا برجوازية الساحل والعاصمة) الخائفة على مصالحها –بعد سقوط حزب التجمّع الذي كان يحميها ويكبّلها في آن– ومعها الشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة المعنيّة أكثر بالاستقرار وبقيم "الحداثة" و"العلمانية" النسبيّة، اللتان تُعَدّان من مكاسب الدولة البورقيبيّة (وقد عبّر عنها في تلك اللحظة بالأساس حزبيْ الديمقراطي التقدّمي والتجديد).

نجح المعتصمون في تحقيق مطلبيْ رحيل حكومة الغنوشي والمجلس التأسيسي الذي سيضع دستورًا جديدًا إثر مسيرة حاشدة يوم 25 فيفري/شباط 2011. إذ استقال الغنوشي بعد يومين ليأتي مكانه وجه قديم من المنظومة (لم يتورّط كثيرًا مع نظام بن علي) هو الباجي قائد السبسي. مثّل ذلك ضربة موفّقة من البرجوازية التقليدية التي عرفت كيف تطمئن الجميع: قيادة اتحاد الشغل الخائفة من ملفّات الفساد التي قد تؤدّي بها إلى المحاسبة وهيئة المحامين (التي سيطر عليها الإسلاميون في ذلك الوقت)، وكذلك بقية الفئات الباحثة عن استرجاع الأمن والهدوء، وخاصّة السفارات الغربية المتوجّسة من تصاعد المسار الثوري. وكان الاتفاق على فضّ الاعتصام وتشكيل "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" برئاسة أستاذ القانون الدستوري عياض ابن عاشور. وقد كانت هيئة انتقالية –من مهامها الرئيسية اقتراح قانون انتخابي جديد– وضمّت ممثّلين عن كلّ أحزاب المعارضة السابقة والجمعيات والمنظمات التي لعبت دورًا في معارضة بن علي إلى جانب بعض المستقلّين. وتمّ التوافق على المُضيّ إلى انتخابات المجلس التأسيسي لصياغة دستور جديد وانتخاب حكومة جديدة، وهو ما حصل في 23 أكتوبر/تشرين الأوّل 2011.

لم تكتف الطبقات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة بالالتفاف على انتفاضة الطبقات الشعبية (أيْ العمّال النظاميّين، وغير النظاميّين، وصغار الفلاحين والفلاحين بلا أرض وعموم المهمّشين). بل فتحت كذلك الباب واسعًا لتدخّل القوى الإمبرياليّة وفرض وصايتها على مسار "الانتقال الديمقراطي". هذا التدخّل كان واضحًا منذ الفترة الأولى تقريبًا. فبعد أن تفاجأت القوى الإمبريالية المؤثّرة في تونس (فرنسا والولايات المتحدة) بالانتفاضة، سارعت لاحقًا إلى مجاراتها واحتوائها (ابتداءً من بيان وزارة الخارجية الأمريكية في 9 جانفي/كانون الثاني 2011 الذي دعا إلى احترام إرادة الشعب التونسي). ويُرجّح أنّ الأمريكيين كانوا وراء الإيعاز للسعوديّين بالاحتفاظ ببن علي ومنعه من العودة إلى تونس (ولاحقًا تقييد حركته ومنعه من التواصل مع الإعلام). إذ رأت واشنطن فيما يجري فرصة لتجربة مقولاتها عن "الشرق الأوسط الجديد"11 وعن "تشجيع الديمقراطية" الليبرالية (كما أشار إلى ذلك أوباما في خطابه الشهير في القاهرة عام 2009) التي تحفظ هيمنتهم على المنطقة. ولذلك لم يكن غريبًا أن تُسارع حكومة محمد الغنوشي بعد يومين من خلع بن علي إلى تعيين النيوليبرالي مصطفى كمال النابلي، الموظف السابق في البنك الدولي، محافظًا جديدًا للبنك المركزي. وقد تصدّى النابلي منذ البداية لمطالبة مجموعات يسارية بالتدقيق في الديون الكريهة لنظام بن علي ورفض تسديدها. كما لم يكن مفاجئًا أن تبادر مجموعة الدول الثمانية إلى تنظيم مؤتمر دوفيل في فرنسا في ماي/أيار 2011. خلال هذا المؤتمر سعت القوى الامبريالية الرئيسية إلى احتواء بلدان "الربيع العربي" (تونس، مصر، اليمن...) عبر إغراق حكوماتها المؤقتة بالقروض ووعود وهميّة بإرجاع أموالها المنهوبة وبتقديم المساعدات والاستثمارات، وإلى طمأنة أنظمة أخرى تابعة لها، بدأت تشهد بدورها احتجاجات اجتماعية وسياسية (المغرب الأقصى والأردن). إلّا أنّ الأخطر كان التوريط المبكّر للدول التي شهدت ثورات شعبيّة في الوصفات "الإصلاحية" للمؤسسات المالية الدوليّة، والمشروطة بسياسات التقشّف والاقتراض.12 وهو ما ترتّبت عليه التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السلبيّة التي نشهدها اليوم.New Middle East5 and to ‘encourage’ a liberal ‘democracy’, as noted by Obama in his famous speech in Cairo in 2009, in order to preserve US hegemony in the region. It was therefore not surprising that Ghannouchi’s government rushed, two days later, to remove Ben Ali and appoint the neoliberal Mustapha Kamel Nabli, former Senior Adviser at the World Bank, as a new governor of the central bank. Right from the beginning, Nabli blocked leftist demands to audit Ben Ali’s odious debts and to refuse to pay them. It was equally unsurprising that the G8 would organize the Deauville Conference in France in May 2011. During this conference, major imperial powers sought to contain the ‘Arab Spring’ countries (Tunisia, Egypt, Yemen, etc) by flooding their provisional governments with loans, false promises to return their looted money, and offers of aid and investments. They also sought to reassure other subordinate regimes, which had also started to witness social and political unrest, such as Morocco and Jordan. Most alarmingly, the early embroiling of these countries in the ‘reform’ recipes that were proposed by global financial institutions, conditioned on austerity measures and loans,6 has resulted in the negative economic, social and political repercussions that we see today.

مثّل إخلاء ساحة القصبة يوم 3 مارس/آذار وتقلّد قائد السبسي رئاسة الحكومة وإشرافه على المرحلة الانتقالية تاريخ بداية هزيمة الانتفاضة وإجهاض تحوّلها إلى ثورة (أو هزيمة الثورة كما يرى البعض)، أو بعبارة أخرى بداية انتصار قوى الثورة المضادّة. عجز معتصمو الجهات المهمّشة والأحياء المفقّرة عن تقديم ممثّلين سياسيّين عنهم، ما أفسح المجال لاكتساح المشهد السياسي من عشرات الأحزاب السياسيّة المتعطّشة للنشاط القانوني. وكانت ضمنها أحزاب يساريّة ضعيفة عجزت عن القراءة السليمة لأولويات المرحلة (من ذلك انخراط جزء منها في الصراع الهويّاتي بين العلمانيين والإسلاميين13 الذي أجّجته وسائل الإعلام البرجوازي كقناة نسمة) والتأثير في ميزان القوى، فانخرطت في وهم "التغيير عبر صندوق الانتخابات". ومنذ ذلك الوقت بدأ النظام باستعادة توازنه وترميم شوكته الأمنية. وتوقّف الحراك الجماهيري ذو الأهداف السياسية في العاصمة، ليتذرّر الزخم ويتحوّل إلى احتجاجات اجتماعيّة متفرّقة ومنفصلة عن بعضها في الجهات الداخلية – حول أولويات اقتصادية واجتماعية محلّية أو فئويّة (مثل تحرّكات عمّال شركات المناولة الذين نجح اتحاد الشغل في إدماجهم ببعض الشركات العمومية كشركة فسفاط قفصة). وحتى ملفّ حقوق عائلات شهداء وجرحى الثورة، الذي كان يفترض أن يكون جامعًا على مستوى وطني، فقد تضرّر خلال تلك الفترة من الانقسامات نتيجة توظيفها انتخابيًا من بعض الأحزاب. ومع بداية مسار "تأسيس الجمهورية الثانية"، تراجع حراك الشارع ليفسح المجال للتنافس الحزبي الانتخابي ولولادة "المجتمع المدني"14 ذي التمويل الخارجي بالأساس. وهكذا انتقلت تونس من مرحلة الانتفاض ذي الأفق الثوري إلى "الانتقال الديمقراطي" بوصاية إمبرياليّة نحو مزيدٍ من التبعيّة والنيوليبراليّة.7 that had been ignited by bourgeois media outlets. Further, these parties had no influence on the balance of power as they bought into the illusion of ‘change through the ballot’. From this time on, the regime began to regain its balance and reconstruct its security forces. The mass movement in the capital came to a stop: the momentum dissipated and the mass movement disintegrated into scattered and detached social protests in inland regions, focusing on local or sectoral socioeconomic questions. As the founding of the ‘second republic’ began, the grassroots movement retreated, making way for partisan competition and the birth of a ‘civil society’8 that is mainly funded by foreign actors. Tunisia thus moved from an uprising with a revolutionary horizon to a ‘democratic transition’ under imperial tutelage, which led to further dependence and neoliberalism.

مرحلة التأسيس الديمقراطي: فترة الترويكا المضطربة و"الإرهاب" في خدمة النيوليبرالية

شهدت انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأوّل 2011 فوز حركة النهضة التي نجحت سريعًا في تنظيم صفوفها بعد عقدين من الملاحقة الأمنية (لا شكّ أنّ الدعم المالي من قطر والسياسي من تركيا لعب دورًا أساسيًا في ذلك)، مستفيدةً لا من سهولة انتشار خطابها الديني فحسب، بل كذلك من صفتها أبرزَ ضحايا الديكتاتورية. وتحالفت الحركة مع حزبيْن محسوبين على وسط اليسار –تبيّن أنّهما أقرب لوسط اليمين– هما "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية" (الذي حصل زعيمه المنصف المرزوقي على رئاسة الجمهورية من دون صلاحيات تُذكر ودون سعي منه للحصول على وزارات اقتصاديّة) وحزب التكتل من أجل العمل والحرّيات (الذي تبوّأ زعيمه مصطفى بن جعفر رئاسة المجلس التأسيسي المُخوّل بوضع دستور جديد للبلاد).

بقيت النهضة في الحكم حتى ديسمبر/كانون الأوّل 2014. وقد عرفت تلك المرحلة زخمًا عاليًا من الأحداث يمكن تلخيص أهمّها وأكثرها دلالة في ما يلي:

  • محاولة حركة النهضة في البداية مواجهة بقايا حزب التجمّع الدستوري السابق وامتداداته في الدولة، إلّا أنّها سرعان ما عدلت عن خطاب "التطهير الثوري" لتختار العمل على عقد صفقات مع جزء من المنظومة السابقة في مجالات السياسة والإعلام والأمن والاقتصاد.15
  • بالتوازي مع ذلك انخرطت في معركة خطرة مع جزء من المجتمع يتمسّك بما راكمته تونس من قيم علمانية ومكاسب اجتماعيّة –خاصّة للنساء– وذلك من خلال تلويحها بمسودّة أولى للدستور تضمّنت بنودًا ذات مضمون رجعي.16 كما عمدت الحركة إلى فتح الباب للتيّارات السلفيّة (التي استفادت من مناخ الحرّيات الجديد وضعف الدولة) والعمل على توظيفها في صراعها ضدّ خصومها من اليسار والليبراليين.

– In parallel, the party engaged in a dangerous battle with that part of society that held onto Tunisia’s acquired legacy of secularism and social wins (especially for women), by proposing a first draft of the constitution that contained reactionary articles. The movement also opened the door to Salafist currents, which took advantage of new-found liberties and the state’s weakness, and it utilized these currents in its struggle against leftist and liberal opponents.

وفيما كانت الأحزاب السياسية المعبّرة عن البرجوازية الكمبرادورية التقليدية (مثل حزب المبادرة وحزب الوطن) تشكو من التشتّت بعد حلّ حزب التجمّع، وفي ظلّ فشل الأحزاب الليبرالية الجديدة (حركة آفاق، الحزب الجمهوري...) في تمثيل مصالح جميع أقسام البرجوازية الكمبرادوريّة، حاولت بعض أحزاب اليسار والتيّار القومي التقدّمي توحيد صفوفها في إطار "الجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة"، ومن خلال سعيها إلى الالتحام بالاحتجاجات الاجتماعية المتصاعدة في بعض المناطق.17 وسرعان ما تصاعد التوتّر بين النهضة من جهة (بمساندة شقّ من السلفيين ومنظمة رديفة أطلق عليها تسمية "روابط حماية الثورة")، ومن جهة ثانية حزب نداء تونس (الذي أسّسه الباجي قائد السبسي وجمع فيه شتات "التجمّعيين") المتحالف ضمنيًا مع اتحاد الشغل.18 فيما تقاطع طريق الجبهة الشعبيّة مع الفريق الثاني تارةً للدفاع عن الحرّيات وحقوق النساء، وتارةً لرفض توجّهات الحكّام الجدُد النوليبرالية. أمّا اتحاد الصناعة والتجارة (المنظّمة الرئيسيّة للبرجوازية التقليدية تاريخيًا) فبَدا أنّه اختار الحياد في البداية. مثّلت القضايا الهويّاتية والثقافيّة العناوين الأبرز لهذا التوتّر، لكنّه كان في العمق صراعًا على السلطة بين نُخبة جديدة تسعى للسيطرة على مفاصل الدولة ونُخبة قديمة تأبى التخلّي عن امتيازاتها ومواقعها.

أثّرت الأوضاع الجديدة على مؤسّسات الدولة، ومنها الأجهزة الأمنية والاستخباريّة، ما أتاح للمجموعات السلفية المتشدّدة التنظّم والتسلّح (خاصةً من ليبيا المجاورة التي كانت تشهد حربًا أهلية إثر إسقاط حلف النيتو لنظام القذافي) وتنفيذ بعض العمليات الإرهابية.19 وتُعدّ عملية السفارة الأمريكية، الّتي اقتحمها المحتجّون السلفيون –إثر عرض فيلم مسيء للرسول محمّد– علامةً فارقة. وقد مثّل اغتيال شكري بلعيد، القيادي البارز في الجبهة الشعبيّة، في 6 فيفري/شباط2013 منعرجًا مهمًا طَبَع هذه المرحلة. إذ برز القيادي اليساري قبل اغتياله بخطابه الصدامي ضدّ حركة النهضة وبنشاطه الكثيف في مساندة الاحتجاجات الاجتماعية (يضاف إلى ذلك تاريخ حافل بالعداء بين التيّار الوطني الديمقراطي الذي ينتمي إليه الشهيد وحركة النهضة منذ فترة الجامعة). وهو ما جعل أصابع الاتّهام (لا سيما من عائلته وقيادات حزبه وجزء هامّ من اليساريين والعلمانيين) تتجّه مباشرة إلى قيادة النهضة وتحمّلها مسؤولية اغتياله.

US Embassy by Salafist protesters following a film screening that mocked the Prophet Mohammad was a turning point, as was the assassination of Chokri Belaid, a prominent leader of the Popular Front, on 6 February 2013. Before his assassination, the leftist leader had stood out for his confrontational discourse against the Ennahda Movement and his strong activism in support of social protests. Fingers were thus automatically pointed at Ennahda’s leadership, holding it responsible for his assassination.

شهدت البلاد احتجاجات عارمة إثر اغتيال بلعيد، ما أربك النهضة ودفع رئيس حكومتها، والقيادي في الحركة، حمّادي الجبالي قبوله بمطالب المعارضة (بتشكيل "حكومة تكنوقراط" برئاسته، دون موافقة زعيمها راشد الغنّوشي، الذي عدّ ذلك "انقلابًا على الشرعيّة". عيّنت قيادة النهضة وزير الداخلية القيادي علي العريّض مكان الجبالي لرئاسة الحكومة وقبلت بضمّ بعض الوزراء "التكنوقراط". لم ينجح هذا التغيير في التخفيف من حدّة توتّر البلاد. فتواصلت الاحتجاجات النقابية (كان لافتًا تشجيع قيادة الاتحاد نقاباتها في القطاع الخاصّ على التحرك في تلك الفترة) والاجتماعية، (مثلًا ما عرف بـ "الانتفاضة ضدّ الإتاوة" احتجاجًا على فرض ضريبة مسّت سوّاق سيارات الأجرة ونقل البضائع، وقد ساهمت النقابات المنضوية في اتحاد الأعراف في تأجيجها. وفي 25 جويلية/تموز 2013 حصل المنعرج الحاسم باغتيال –نُسب مجدّدًا إلى تنظيم "أنصار الشريعة" السلفي الجهادي وقد اعترف أعضاء منه بذلك لاحقًا– قياديّ ثانٍ في الجبهة الشعبية: محمّد البراهمي، وهو زعيم التيّار الشعبي – قومي تقدّمي.

وفي سياق إقليمي معادٍ (انقلاب السيسي على الإخوان المسلمين في مصر قبل ثلاثة أسابيع) وتحت ضغط جماهيري عبر "اعتصام الرحيل" (الذي نظمّته "جبهة الإنقاذ"، وهي تحالف ضمّ الجبهة الشعبية إلى نداء تونس وبقيادة الأخير، وبدعم من البرجوازية "الحداثية"20 ووسائل إعلامها) أمام مقرّ المجلس التأسيسي طيلة شهر ونيف، اضطرّت حركة النهضة أخيرًا إلى التنازل. إذ اجتمع الغنوشي بقائد السبسي في باريس (بوساطة بعض رجال الأعمال والسياسيين اليمينيّين وبمباركة فرنسيّة) واتّفقا على صفقة تنازلت بموجبها النهضة عن الحكومة، مقابل المصادقة على دستور توافقي وإنهاء مهام المجلس التأسيسي في أقرب الآجال. وهكذا من خلال "الحوار الوطني" (الذي رعته محليا منظمات وطنية: اتحاد الشغل، اتحاد الأعراف، رابطة حقوق الانسان وهيئة المحامين، وخارجيًا سفراء مجموعة الثمانية) تمّ التوافق على "التكنوقراطي" مهدي جمعة (وزير الصناعة السابق في حكومة العريّض) رئيسًا للحكومة حتى انتخابات عام 2014.

departure sit-in’ organized by the ‘Salvation Front’, an alliance of Nidaa Tounes and the Popular Front supported by the ‘modernist’ bourgeoisie9 and its media outlets. The sit-in before the constituent assembly lasted for more than a month, finally forcing Ennahda to concede. Ghannouchi met with Caid Essebsi in Paris, under the mediation of some businessmen and right-wing politicians, and with the blessings of the French government, and agreed on a deal by which Ennahda gave up control of the government, in exchange for approving a consensus-based constitution and ending the constituent assembly’s functions as soon as possible. Thus, through a ‘national dialogue’ (locally sponsored by national organizations and internationally sponsored by the G8), it was agreed that a ‘technocrat’, Mehdi Jomaa, a former director of Hutchinson (affiliated with the French company Total), would be Prime mMnister until the 2014 elections.

بإبرام هذا الاتفاق، الذي احتُفيَ به محلّيًا ودوليًا، على أنّه إنجاز تاريخي استحقّ مهندسوه التونسيون جائزة نوبل للسلام، وقع إنقاذ مسار "الانتقال الديمقراطي"وتمّ أخيرًا التوافق على الدستور الجديد. إلّا أنّ واقع الطبقات الشعبيّة وسيادة البلاد لم يتحسّنا، بل ازدادا سوءًا. فبوصول المهدي جمعة، المدير السابق لشركة هوتشينسون (التابعة لشركة طوطال الفرنسية) الذي رشّحته رئيسة اتحاد الأعراف،21 توقّفت "بقدرة قادر" الإضرابات العمّالية المؤطَّرة من اتحاد الشغل وتحديدًا في القطاع الخاصّ، ومُرّرت قوانين واتفاقيات خطيرة كرّست تبعيّة تونس لرأس المال الأجنبي (تحديدًا قانون خصخصة إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية)وغيرها من الملفات، ومن ضمنها التحضير للتفاوض على اتفاقية التبادل الحرّ الشامل والمعمّق بين تونس والاتحاد الأوروبي. كما ضغطت المؤسسات المالية الدولية وبعض جمعيات المجتمع المدني الليبرالي من أجل حشو الدستور الجديد بفصول تمسّ بسيادة البلاد وشعبها. لعلّ أخطرها كان الفصل المتعلّق بالتوازن المالي.22 وقد مهدّت هذه الفترة الانتقالية القصيرة لما ستليها من مرحلة التوافق اليميني بمباركة إمبريالية.

solar power production) and other cases, including negotiating a comprehensive free trade agreement between Tunisia and the EU. Global financial institutions and liberal civil society organizations brought pressure to bear to ensure the new constitution included certain chapters, which undermined the country’s, and its people’s, sovereignty. Perhaps the most alarming of these was the chapter about the fiscal balance.10 With imperialist blessings, this short transitional period paved the way for the next phase of right-wing coalitions.

وهنا لا يمكننا العبور عن نظريّة "عقيدة الصدمة" التي شرحتها الأكاديميّة اليساريّة ناعومي كلاين في بعض أعمالها. اذ أوضحت كيف تستغلّ القوى الامبرياليّة ومؤسساتها المالية الدولية –بتواطؤ مع البرجوازيات المحلّية– وقوع أحداث مزلزلة في بلد ما (كوارث، انقلاب، حرب وإلخ) من أجل الدفع بـ"تكنوقراط" ينفّذون سياسات نيوليبرالية لم تكن مقبولة سابقًا من الشعب. فمثلما استغلّ "صبيان شيكاغو" انقلاب بينوشيه في شيلي والغزو العسكري للعراق، استُغلّت الاغتيالات والإرهاب في تونس. ويثير ذلك أسئلة مشروعة عن الارتباطات المحتملة بين الحركات الإرهابيّة في منطقتنا والقوى الامبرياليّة.

2014- 2019: تحالف اليمينيْن وتصاعد الاحتجاجات الاجتماعية

انتهت فترة المهدي جمعة بتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية، شهدت انتصارًا لافتًا لحزب نداء تونس الليبرالي (حزب ليبرالي معتمد على الخلفية البورقيبية لمؤسّسه وعلى شبكات حزب التجمّع المنحلّ) الّذي فاز بأغلبيّة مقاعد البرلمان وبرئاسة الجمهورية لزعيمه الباجي قائد السبسي. وحصلت حركة النهضة على المركز الثاني في البرلمان، فيما حلّت الجبهة الشعبية بعيدًا وراءهما في المركز الثالث بـ 15 مقعدًا. وأخلت خطابات التنافس والشيطنة الانتخابية بين حزبَي النداء والنهضة مكانها لتجسيد ما عُرف بـ"صفقة الشيْخيْن" (أي السبسي والغنوشي)، ليتحالف الغريمين السابقين في حكومة اختار رئيسها قائد السبسي.

شهدت هذه المرحلة انتصار الدولة على الحركات الإرهابية (بعد عدّة عمليّات دامية، كان أخطرها محاولة تأسيس إمارة سلفية في بنقردان الحدودية مع ليبيا)، فيما عرفت الاحتجاجات الاجتماعية تحوّلًا لافتًا كمًّا ونوعًا. إذ طغت عليها خلال هذه السنوات اعتصامات الشباب المُعطّل عن العمل (لا سيما من أصحاب الشهادات الجامعية) في مقرّات السيادة من معتمديّات وولايات (على سبيل الذكر، في شتاء 2016 ظلّ المحتجّون معتصمين في مقرّ ولاية القصرين طيلة سنة كاملة دون جدوى) ووزارات لمطالبة الدولة بتوفير الشغل والتنمية لجهاتهم المُهمّشة. ولكن منذ عام 2015، بدأت النضالات الاجتماعية تشهد تنوّعًا في الموضوع وكذلك الأسلوب. إذ برزت قضية جمنة،23 (في الجنوب الغربي، ولاية قبلّي) وهي المدينة الصّغيرة التي خاض سكّانها معركة هامّة بمساندة مجموعات وتنظيمات يسارية بالأساس من أجل استرجاع أرضٍ كانت لهم، واستولت عليها الدولة وسوّغتها لرأس المال الخاصّ، أداروها بصورة جماعيّة عادت بالنفع على عموم مواطني المدينة. وهو ما فتح الباب لأوّل مرّة للنقاش العامّ والواسع حول وضع الفلاحة ومواضيع السيادة الغذائية ونمط الإنتاج (أو المنوال التنموي في الخطاب السائد إعلاميًا). ثمّ طرح الشباب المُعطَّل في جزيرة قرقنة قضيّة التشغيل من زاوية جديدة، أضاءت على ملفّ التصرّف في الثروة الطاقية من خلال معركتهم البطولية ضدّ شركة بتروفاك لانتاج الغاز.24 وقد سبقتها قبل فترة حملة "وينو البترول؟" التي طالب فيها ناشطون بالشفافية في مجال استخراج المحروقات. وفي نفس السياق شهد عام 2017 معركة (مازالت فصولها متواصلة بشكل متقطّع الى اليوم) في ولاية تطاوين الجنوبية، وذلك عندما اعتصم شباب الولاية وسط الصحراء، في منطقة تُعرف بـ"الكامور"25 على تقاطع طريق تمرّ منه شاحنات نقل تابعة لشركات المحروقات الأجنبية. ومجدّدًا أثار الشباب قضيّة حقّ أبناء الجهة في الاستفادة من الثروات الطاقية التي تستغلّها تلك الشركات الأجنبية، مطالبين بالتشغيل والتنمية لكن بشعارات تعبوية جديدة من نوع "تأميم الثروات" مسترجعين موروث أجدادهم التاريخي وصراعهم ضدّ المستعمر الفرنسي. وقد استبسل شباب تطاوين في صمودهم طيلة شهور وعدم تراجعهم رغم التشويه الإعلامي والقمع البوليسي رافعين شعار "الرخّ لا!" (أي لا للتراخي).

Jemna, a small southwestern city, whose population fought an important battle, with the help of leftist groups and organizations, was a case that stood out. The people of Jemna reclaimed the oasis land that the state had previously taken over (in order to offer it to private capital), and they began to collectively manage it for the benefit of the general population. This enabled, for the first time, a discussion to take place about the state of agriculture, food sovereignty, and modes of production (or the ‘developmental model’ in dominant media discourse) in the country. Similarly, through their heroic battle against Petrofac, a gas production company, unemployed youth in Kerkannah Islands raised the question of employment from a new perspective, shedding light on the way energy wealth is managed and distributed. Similarly, as part of the ‘Where’s the Oil?’ campaign, activists demanded transparency in regard to the country’s fossil fuel extraction. To give another example, despite media distortion and police brutality, an ongoing battle took place in Tataouine governorate in 2017: youth there rallied in the middle of the desert in an area known as ‘El Kamour’, located by a road intersection through which foreign oil company trucks pass, raising the issue of the right of the local population to benefit from the natural resources in their own region, which are exploited by foreign companies. These protesters and others started to use new mobilization slogans, like ‘wealth nationalization’, recalling their ancestors’ historic legacy and the struggle against the French colonizers.

ورغم ذلك لم تأبه الحكومتين اللتين أعقبتا انتخابات 2014 (حكومة الحبيب الصيد لسنة ونصف ثمّ يوسف الشاهد طيلة ثلاث سنوات ونصف) بمطالب الشباب المُعطّل والجهات المهمّشة. بل استمرّت السلطة في الخيارات النيوليبرالية نفسها وفي الاستجابة لإملاءات القوى الامبرياليّة ومؤسّساتها المالية الدولية. إذ واصلت في سياسات الاقتراض الخارجي والتقشّف والتفويت في مؤسسات القطاع العمومي. وشهدت فترة حكومة يوسف الشاهد اتخاذ بعض أخطر القرارات على سيادة البلاد وحقوق طبقاتها الشعبيّة، إذ صودق أثناءها على القانون الجديد للبنك المركزي، الذي كرّس "استقلاليته" عن الدولة، كما عرفت البداية الرسمية للمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول اتفاقيّة "الأليكا". new central bank law, which further entrenched the bank’s ‘independence’ from the state, as well as the commencement of official EU–Tunisian negotiations over the trade deal (ALECA).

مثّلت هذه المرحلة منعرجًا هامًا في الصراع الطبقي بالبلاد، إذ تعلّمت الطبقات الشعبية من تجربتها ونضالاتها في السنوات السابقة أنّه لا يمكن تحقيق مكاسب إلاّ باستهداف رأس المال مباشرةً وعدم الاكتفاء بالضغط على هياكل الدولة العاجزة المرتهنة للبرجوازية الكمبرادورية في الداخل وللقوى الاستعمارية والمؤسسات المالية الدولية في الخارج.

رغم انخراط شباب اليسار في دعم مختَلَف هذه التحرّكات، إلّا أنّ قيادة الجبهة الشعبية اليساريّة كانت دائمًا متردّدة ومتأخّرة في دعمها (لابتعاد هذه التحرّكات عن التصوّر اليساري التقليدي للنضال الطبقي الذي يقوده العمّال). في المقابل سخّرت أغلب جهودها لأولوية البروز في وسائل الإعلام البرجوازي ومعارضة الحكومة في البرلمان، وللمنافسة في الانتخابات، مُهملَةً العمل القاعدي والاقتراب أكثر من النضالات اليومية للطبقات الشعبية.

2019: انتخاب قيس سعيّد: محاولة تغيير من داخل المنظومة قد تنتهي بالعودة إلى الديكتاتورية

في ظلّ عجز اليسار التقليدي (مُمثّلًا في الجبهة الشعبية التي انحلّت نتيجة صراعات داخلية قبيل انتخابات 2019)26 على الالتحام بنضالات الطبقات الشعبية والتعبير عنها سياسيًا، كان فشله في الحصول على ثقة الناخبين أمرًا منطقيًّا (علمًا أنّ جزءًا هامًا من الطبقات تلك لم يعد يبالِ بالانتخابات)27 في التشريعيّات والرئاسيات الأخيرة. وأمام إحباطها وتزايد كرهها لمختلف الأحزاب السياسية، بل ولـ"الديمقراطية" برمّتها لعجزها عن تحسين ظروف عيشها المتدهورة أصلًا، كان من الطبيعي أن تضع الطبقات الشعبية ثقتها في من مثّل في عينيْها "معاداة المنظومة" و"الاستقلالية عن الأحزاب الفاسدة" و"نظافة اليد". وهكذا حدثت مفاجأة وصول أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد إلى رئاسة الجمهورية في أكتوبر 2019.

وإلى جانب إحباط الطبقات الشعبية وبحثها عن "المنقذ النظيف" و"الحازم العادل" الذي سيرأف بحالها ويعيد "عطف الدولة" إليها، يُمكن تفسير صعود هذا الغريب عن عالم السياسة وأحزابها التقليديّة بكونه تعبيرًا عن "الأمل الأخير" لجزء من البرجوازية الصغيرة المحافظة وتحديدًا تلك التي تحنّ إلى استعادة "دولة الرعاية الاجتماعية" و"مصعدها الاجتماعي المُعطّل" منذ نهاية السبعينيات (أي منذ بداية ظهور نتائج انخراط تونس في الخيارات الليبرالية).

ومنذ وصوله للرئاسة، انخرط سعيّد في صراع محموم ضدّ الأغلبية البرلمانية بقيادة حركة النهضة وحليفيها اليمينيّين ائتلاف الكرامة (وهو تجمّع لسياسيين ديماغوجيين محافظين ثقافيًا) وحركة قلب تونس (تجمّع لانتهازيين يقودهم رجل الأعمل الفاسد نبيل القروي)، فيما حاول الحزب الدستوري الحرّ بقيادة عبير موسي (محامية خدمَت نظام بن علي) وراثة بقايا حزب نداء تونس الذي اندثر إثر وفاة مؤسّسه قائد السبسي في 25 جويلية/تموز 282019 ومن ثمّ المزايدة على سعيّد في الصراع مع النهضة.

بالتوازي مع ذلك واصلت الاحتجاجات الاجتماعية انتشارها وتنوّعها، لتشهد مزيدًا من انخراط صغار الفلاحين (مثلًا معركتي الهوايدية29 وأولاد جاب الله30 إلى جانب ما تعرفه البلاد شتاء كلّ عام من مواجهات بين شباب الأحياء الشعبيّة المُفقّرة وقوّات البوليس. ومثّل شتاء عام 2020-2021 علامة فارقة لما شهده (بمناسبة مرور عقد كامل على الثورة) من تحرّكات واسعة للأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة (حيّ التضامن، سيدي حسين) وبعض الجهات الداخلية المُهمّشة (سبيطلة في ولاية القصرين)، حيث يتراكم سخط الشباب المُحبط من دولة لا تقدّم له شيئًا غير قمع البوليس. وقد رافقت هذه المواجهات تحرّكات مساندة هامّة من مجموعات يسارية وشبابية.

Jaballah), alongside the yearly winter clashes between the impoverished youth of the popular neighbourhoods and police forces. The winter of 2020/2021 – marking a decade since the revolution – was a notable moment of widespread unrest among popular neighbourhoods adjacent to the capital and some marginalized interior regions, which saw significant support from leftist and youth groups.

إلّا أنّ حكومة هشام المشيّشي (وهو إداري عديم الكفاءة اختاره سعيّد لينقلب عليه ويتحوّل إلى بيدق في يد النهضة وحلفائها) فاقمت غضب التونسيّين من خلال فشلها الذريع في إدارة أزمة وباء كوفيد 31.19 إذ بات موت العشرات خبرًا يوميًا في ظلّ انهيار المنظومة الصحّية العمومية وعدم تجرّأ الحكومة على تسخير المصحّات الخاصّة أو فرض حجر صحّي شامل قد تضطرّ من خلاله إلى المسّ بمصالح البرجوازية.11 The death of dozens became daily news, amidst a collapsed public healthcare system and a government that dared not use private healthcare facilities or impose a full lockdown that would harm bourgeois interests.

انفجر هذا المزيج من الغضب والإحباط والخوف من المستقبل يوم 25 جويلية/تموز المنقضي (2021) في تحرّكات احتجاجية طالبت بحلّ البرلمان وتميّزت باستهداف حركة النهضة وتحميلها مسؤولية الأوضاع (من خلال حرق مقرّاتها في عديد الجهات). وفي ظلّ عدم توفّر بديل ثوري قادر على تأطير هذا الحراك، كانت الفرصة سانحة لقيس سعيّد كي يصفّي حسابه مع الائتلاف الحاكم ويُعلن مساء نفس اليوم حالة "الخطر الداهم"،32 سمح لنفسه بموجبها بتأويل متعسّف للفصل 80 من الدستور، فأقال الحكومة وجمّد البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه وتحكّم بالسلطتين التشريعية والتنفيذية (وحتى بجزء من القضائية) مع وعده بعدم المسّ بالحرّيات. وعكست حالة الفرح والارتياح الشعبي لهذه القرارات الاستثنائية (والمتواصلة حتى تاريخ كتابة هذا المقال، أواخر أوت/آب 2021) مدى فشل "الاستثناء التونسي" الديمقراطي المزعوم. إذ أكّدت مرّة أخرى أنّ الحديث عن الحرّية هو بمثابة سراب في ظلّ ديمقراطية تمثيلية تتحكّم بها رؤوس الأموال والقوى الإمبريالية وتفتقد لأيّ مضمون اجتماعي أو سيادي.

بـ. عودة العلاقات الرسمية مع الكيان الصهيوني

حاولتُ أن أوضح أنّ الانتفاضة الشعبيّة العظيمة التي أطلقها يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 مُهمَّشو الجهات المحرومة وشباب الأحياء المفقّرة لم تنجح في التحوّل إلى ثورة، بمعنى تغيير جذري لنمط الإنتاج الاقتصادي يليه بناء منظومات سياسية وقيميّة وثقافية مغايرة. أو فلنقل إنّها كانت ثورة اندلعت بشعارات اجتماعيّة تعبّر عن مصالح الطبقات الشعبيّة وانتهت بمطالب سياسيّة تهمّ النخب البرجوازية الصغيرة بالأساس، وهو ما أدّى إلى هزيمتها. بدأ اجهاض تحوّل الانتفاضة الى ثورة –أو هزيمة الثورة– يوم نجحت قوى الثورة المضادّة في إخلاء ساحة القصبة من المعتصمين، بعد أن تكفّلت البيروقراطية النقابية وبعض الأحزاب اليسارية بإقناعهم بالفتات الديمقراطي الليبرالي. وتُوّج ذلك بتنظيم انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 في ظلّ هيمنة رأس المال وإعلامه، وتحت وصاية إمبريالية جسّدتها قرارات مؤتمر دوفيل وتوصيات وفود صندوق النقد الدولي. ومنذ تلك اللحظة انتهى "المسار الثوري" ليحلّ محلّه "مسار الانتقال الديمقراطي" نحو مزيدٍ من النيوليبرالية والتبعيّة للمراكز الإمبرياليّة.

ماذا عن المستقبل؟ يصعب التنبّؤ بما سيحدث في المرحلة المقبلة. ففي ظلّ انقسام المشهد السياسي (بما في ذلك اليسار) بين من يندّدون بـ"الانقلاب" وبين من يرونه "تصحيحًا للمسار" أو "استجابة جزئية للإرادة الشعبية تستحق الدعم النقدي"، مازال زمام المبادرة في يد قيس سعيّد وحده حتّى الآن. وهو لا يكترث كثيرًا بآراء الأحزاب السياسية أو المجتمع المدني، بل يبدو منتشيًا بالتأييد الشعبي ومقتنعًا بأنّه مكلّف برسالة ربّانية أو بمهمّة تاريخية تتمثّل في تحقيق إرادة الشعب. إلّا أنّه باستثناء شعاره الانتخابي "الشعب يريد" ومشروعه لتغيير النظام السياسي من الديمقراطية البرلمانية المعدّلة إلى ديمقراطية تنطلق من المحلّي نحو المركز عبر انتخابات على قوائم فردية وليست حزبية ممزوجة بحكم رئاسي، لا يبدو أنّ الرئيس يملك تصوّرًا لما هو مطلوب من خيارات اقتصادية وسياديّة لإنقاذ البلاد. وهو ما يفتح الباب –في ظلّ صعوبة الأوضاع الاقتصادية والمالية– للتدخّل الأجنبي (خاصّة ما يبدو من مساندة محور السعودية/الإمارات33 المتحالفيْن مع الكيان الصهيوني). كما أنّ افتقار الرئيس لتنظيم سياسي مُمَأسَس قادر على جسّ نبض المجتمع ومساعدته في المناورة الميدانية يجعله معتمدًا على مؤسّسات الدولة وتقارير أجهزتها الأمنية بصورة شبه كلّيّة. وفي حال عَجِز سعيّد عن إيجاد حلول بالسرعة الكافية للأولويات المعيشية والصحّية للطبقات الشعبية، فإنّه قد يُفسح المجال لخصومه المتضرّرين من أوضاع ما بعد 25 جويلية/تموز الإطاحة به (والأخطر أن يستغلّ الفرصة أنصار ما قبل 14 جانفي/كانون الثاني للانقلاب عليه)، أو أنّه قد ينزلق نحو الاستبداد والاعتماد على الأجهزة لقمع أبناء تلك الطبقات التي رأت فيه "الأمل الأخير" في الدولة.12 which is allied with the Zionist entity).

Moreover, the president’s lack of an institutionalized political organization that is capable of feeling out society and helping him on the ground renders him almost completely dependent on the reports of state institutions and security services. Should he fail to find quick enough solutions to provide living and healthcare essentials for the popular classes, Saied might pave the way for his opponents – who have been harmed by the post-25 July situation – to overthrow him. More dangerously, this moment could be exploited to carry out a coup against him, or he might slip into tyranny and overdependence on state apparatuses to suppress those classes that see in him the country’s ‘last hope’.

أمّا بخصوص اليسار، فلا بديل لديه بعد أن أضاعَ فرصًا ثمينة للانتشار الجماهيري في السنوات الماضية، سوى نزع أوهامه الثقافويّة والتفكير جدّيًا في سُبل الانغراس وسط الطبقات الشعبيّة.

نبذة عن الكاتب/ة

غسّان بن خليفة صحفي، مترجم ومناضل اشتراكي ثوري من تونس. منسّق تحرير موقع inhiyez.com ، الذي يعمل أساسا على تغطية نضالات الطبقات الشعبية. المنسّق السابق للحملة الوطنية لإسناد النضالات الاجتماعية وللحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني.

تشكّرات

ملاحظة: أتقدّم بجزيل الشكر والامتنان إلى الصديقين حمزة حموشان ومها بن قدحة على مراجعتهما هذا المقال وعلى ما قدّماه لي من ملاحظات قيّمة ساهمت في إثرائه.

تدقيق لغوي: ياسمين حاج

Revised and edited by Meriam Mabrouk

Copy-edited by Ashley Inglis

صور بيانية: فرات شهال الركابي

تمّ دعم هذه النشرية من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ من خلال الدعم المقدم لها من وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية للجمهورية الاتحادية الألمانية . يمكن الاقتباس من هذه النشرية أو أي جزء منها مجانا طالما تتم الاشارة إلى النشرية الأصلية.

محتوى هذه النشرية هو المسؤولية الحصرية للمؤلف ولا يعكس مواقف مؤسسة روزا لوكسمبورغ

هوامش

1 1 في إشارة إلى بيتيْن شهيرين للشاعر التونسي أبي القاسم الشابّي، كُتِبا في سياق النضال ضدّ الاستعمار الفرنسي، أُضيفا إلى كلمات النشيد الوطني التونسي الذي كتبه المصري مصطفى صادق الرافعي: "إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بُدّ أن يستجيب القدَر/ ولا بدّ للّيل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسِر”.

2 في حين بلغ معدل البطالة 13.3 في المئة على المستوى الوطني عام 2013، وصل معدل البطالة إلى 37 في المئة في ولاية تطاوين بالجنوب الشرقي. وبالمثل، ظلّ متوسّط معدلات الفقر أربع مرات أعلى في المناطق الداخلية للبلاد، مقارنةً بالمناطق الساحلية. للاستزادة انظر-ي العربي صديقي. (2019) "التنمية الإقليمية في تونس: تداعيات التهميش المركّب" http://urlr.me/bnZX2

3 تنتمي أغلب الأحزاب هذه نظريًا إلى اليسار لكن باستثناء حزب العمّال الشيوعي، الذي كان يتبنّى فعليًا خطًا يساريًا جذريًا عمومًا، فإنّ بقيّة الأحزاب كانت تزعم أنّها من وسط اليسار، إلّا أنّ خطابها وممارستها إثر 14 جانفي/كانون الثاني كشف أنّها أقرب لليمين الليبرالي.

4 تشير محاضر التحقيقات مع ضباط الأمن الرئاسي التي أجريت ونُشرت بعد الثورة إلى الدور الحاسم الذي لعبه أبناء هذه الأحياء في قرار بن علي بإخلاء قصر قرطاج ومغادرة البلاد يوم 14 جانفي/كانون الثاني. https://www.alarabiya.net/articles/20120114188323

5 نفس المصدر السابق.

6 كان لافتًا للانتباه أنّه على عكس بقيّة أصهار بن علي نجح مروان المبروك في استرجاع الأملاك التي صودرت منه إبّان الثورة. وكان ذلك بتواطؤ من مسوؤلين سياسيين وقضائيين كبار: http://urlr.me/jLxhT

7 انظر-ي الصغيّر الصالحي. (2017) "الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة".

8 انظر-ي مصطفى الجويلي. (2020) "المؤسسات العمومية: التدمير المنهج ومغالطات خطاب الخوصصة" http://urlr.me/kPzsg

9 يذكر الخبير الاقتصادي جمال العويديدي في هذا الملفّ الصحفي أنّ تونس فقدت بسبب هذه الاتفاقية حوالي 55% من نسيجها الصناعي المحلّي، فيما فقد حوالي 400 ألف عامل في قطاع النسيج موارد رزقهم: http://lexpertjournal.net/?p=3613

10 مقال تلخيصي لدراسة "غذاؤنا، فلاحتنا، سيادتنا، تحليل للسياسات الفلاحية التونسية على ضوء مفهوم السيادة الغذائية"، لمجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية http://urlr.me/18nys

11 يُعزى هذا التعبير لوزيرة الخارجية الأمريكيّة السابقة كونداليزا رايس، وقد ذكرته أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، قالت حينها إنّنا "نشهد آلام ولادة شرق أوسط جديد"، كما تحدّثت عن إيجابيات "الفوضى الخلاّقة" في المنطقة، في إشارة إلى التداعيات الممكنة لانتصار إسرائيلي منتظر –لم يحصل– على حزب الله: http://urlr.me/8cGjP . هو أيضًا عنوان لكتاب لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز، والذي دعا فيه إلى "السلام" بين دول المنطقة قائم على الهيمنة الاقتصادية للكيان الصهيوني: http://urlr.me/ZVdWT وكثيرًا ما يُستعمل هذا المصطلح رديفًا لتعبير "الشرق الأوسط الكبير" الذي تحدّث عنه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إثر احتلال العراق عام 2003. وهي رؤية قائمة في الأصل على مقال لضابط أمريكي متقاعد دعا فيه إلى إعادة تقسيم دول المنطقة على أسس إثنية ودينيّة http://urlr.me/Q3v6R. ثمّ اعتُمدت لاحقًا التسمية عنوانًا لمشروع "إصلاحي" لأوضاع بلدان المنطقة، وقد تبنّته مجموعة الدول الثمانية. وارتكز أساسًا على المطالبة بلبرلة الاقتصاد والتجارة أكثر وإجراء انتخابات ديمقراطية http://urlr.me/PRQB4

12 ترصد هذه الورقة التحليليّة الّتي نشرها المرصد التونسي للاقتصاد الشروط الاقتصادية المجحفة التي كبّلت بها مجموعة الثمانية في دوفيل تونس ومصر: http://www.economie-tunisie.org/fr/observatoire/analysiseconomics/actes-conference-partenariat-deauville-politiques-economiques-tunisie

13 لم ينقضِ شهر على تخلصّ التونسيين من بن علي حتى بدأت أحداث تتمحور حول مسألة الدين والعلمانية. ففي 14 فيفري/شباط 2011 تظاهر بعض السلفيّين للمطالبة بإغلاق بيوت الدعارة. بعدها بأربعة أيّام قُتل قسّ مسيحي بولوني (تبيّن لاحقًا أنّه لم يُقتَل بخلفيّة تطرّف ديني: http://urlr.me/FnfjD)، فيما تظاهر علمانيون بعدها بأيّام مطالبين بدولة علمانيّة: http://urlr.me/ZNxkc. انخرط جزء هامّ من التيّار الإسلامي والليبرالي (ومعهم أحيانًا بعض اليساريّين) في أنشطة مماثلة (كقضيّة عرض فيلم "لا ربّي لا سيدي" للفرنكوتونسيّة نادية الفاني: http://urlr.me/J8w4h) أجّجت الصراع الثقافي والهُويّاتي على حساب قضايا العدالة الاجتماعية والجهوية التي انتفضت من أجلها الطبقات الشعبيّة.

14 تستحقّ هذه الظاهرة التي شهدتها تونس خلال العقد الأخير دراسة تفصيلية معمّقة. إذ اكتسحت القوى الدولية الاستعمارية والإقليمية "المجتمع المدني" التونسي عبر ضخّ تمويلاتها. ففرضت عليها أجنداتها الليبيرالية ما ساهم في إفراغ الشارع من قيادات تحركات عدّة وفي خلق شريحة اجتماعية من "ناشطي المجتمع المدني"، منفصلة عن واقع الطبقات الشعبيّة الذين يحصلون على أجور مرتفعة مقابل عملهم على مشاريع مرتبطة بعملية الانتقال الديمقراطي، يقرّر المموّلون أولوياتها من نوع تعزيز قدرات الشباب، وتمكين النساء، ومحاربة التطرف والراديكالية، وتعزيز مرونة المجتمعات المحلية وإدماجها اقتصاديًا، ومحاربة الفساد، واللامركزية والحكم المحلّي وإلخ. للاستزادة انظر-ي مقال الباحثة الأكاديمية هالة اليوسفي: http://urlr.me/1WPKz

15 كان من أبرز مظاهر ذلك إسقاط حركة النهضة لقانون العزل السياسي (وهو قانون كان سيحرم المسؤولين السابقين في حزب بن علي، التجمّع الدستوري الديمقراطي المنحلّ، من المشاركة في الانتخابات كما جرى في 2011) قبيل انتخابات 2014 تمهيدًا لتحالفه اللاحق مع حزب "نداء تونس"، الذي ضمّ شتات التجمّعيين. كما انتشرت أخبار –لا يمكن إثباتها– عن صفقات ابتزاز مالي عقدها قياديون مقرّبون من الغنوشي مع بعض المسؤولين السابقين مقابل خروجهم من السجن وتبرئتهم قضائيًا.

16 من أبرز النقاط التي أثارت الجدل محاولة النهضة التنصيص على "الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للتشريع" في الدستور. إلّا أنّ ذلك قوبل برفض عارم من قبل أحزاب المعارضة، وحتى من قبل الحزبيْن المشكّلين لتحالف "الترويكا" الحاكمة مع حركة النهضة. ويرى بعض المحلّلين أنّ النهضة حاولت بطرح ذلك الفصل إثبات صعوبة الأمر لشقّها الأكثر تشدّدًا واسترضاء جزء من السلفيّين، فيما يرى آخرون أنّها قايضت حذف هذا الفصل بضمان أن يكون النظام السياسي برلمانيًا مُعدَّلًا.

17 أسابيع قليلة إثر تأسيس الجبهة الشعبية في أكتوبر/تشرين الأول 2012، اندلع تحرّك احتجاجي بولاية منوبة الفلاحية المحاذية للعاصمة، حيث طالب أهالي قرية الدخيلة باسترجاع أرض فلاحية سوّغتها الدولة لبرجوازي أهمل الأرض وحرم الناس من العمل فيها. وقد ردّت السلطة بقوّة على هذا التحرّك: https://www.turess.com/assabah/79615 . وكان حضور بعض قيادات الجبهة الشعبيّة (تحديدًا الشهيد شكري بلعيد: http://urlr.me/b8gSF) ومناضليها والجمعيات القريبة منها لمساندة الأهالي لافتًا في تلك الأحداث. وبعد ذلك بأيّام قليلة اندلعت كذلك في ولاية سليانة احتجاجات مطالبة بالتنمية وبإقالة الوالي المحسوب على حركة النهضة فجوبهت بقمع شديد وبإطلاق أعيرة "الرشّ" على المتظاهرين. وهنا أيضا وجّهت النهضة مسؤولية تأجيج الأحداث للجبهة الشعبيّة، وتحديدًا لشكري بلعيد: http://urlr.me/DCJBL

18 على خلفية اتهام أنصار النهضة لاتحاد الشغل بتعطيل مسيرة الحكومة وتأجيج الاضراب العماليّ، هاجمت يوم 4 ديسمبر/كانون الأول ما كان يُعرف بـ"روابط حماية الثورة" الموالية لحركة النهضة المقرّ المركزي للمنظمة النقابية، أثناء استعداد المئات من أعضائه إحياء ذكرى اغتيال الزعيم النقابي الشهيد فرحات حشاد. وقد أسفر الاعتداء عن إصابات عديدة: https://www.youtube.com/watch?v=VN3oMbnxK7o. وقبل ذلك بأسابيع قليلة تورطت هذه الروابط في مواجهات في مدينة تطاوين الجنوبية أسفرت عن وفاة لطفي نقض، المنسق المحلّي لحركة نداء تونس (التي أسّسها قائد السبسي لمنافسة النهضة): http://urlr.me/pVgdn

19 أسهمت عوامل عديدة في تنامي الأعمال الإرهابية في تونس بعد 2011، منها ما هو اقتصادي اجتماعي وثقافي وسياسي وأمني. ترصد هذه الدراسة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مختلف زوايا هذه الظاهرة عبر تحليل الملفات القضائية لعدد من المنتسبين للتيار السلفي الجهادي: http://urlr.me/5X8Rc

20 المقصود بها الأوساط البرجوازية العلمانيّة والمتأثّرة إلى حدّ كبير بالثقافة الغربية –الفرنسية تحديدًا– وتتعامل بشكل سلبي عمومًا مع التعبيرات الثقافية والسياسية ذات الخلفية العربية الإسلامية.

21 ذكرت هذه المعلومة في عدد من وسائل الإعلام، من بينها هذا المقال المخصّص لكشف تجاوزات قانونية لشركات مملوكة لعائلة وداد بوشمّاوي الرئيسة السابقة لاتحاد الصناعة والتجارة: https://nawaat.org/2014/01/09/le-cas-bouchamaoui-et-le-ministere-de-lindustrie-la-gestion-bananiere-des-ressources-naturelles-de-letat-tunisien/

22 الفصل 63: مقترحات القوانين ومقترحات التعديل التي يقدّمها النواب لا تُقبَل إذا كان إقرارها يخلّ بالتوازنات المالية للدولة التي ضُبطت في قوانين المالية. يكبّل هذا الفصل –وفق منتقديه– أيادي المشرّع في حال قرّر تخصيص جزء من الميزانية (ولو بشكل استثنائي) لمساعدة الطبقات الاجتماعية الأضعف. فهو يحتوي على إقرار ضمني بدستورية مبدأ توازن المالية (وكذلك عدم الإخلال به) بدون تعريف دقيق لمبدأ التوازن، أو الحدود القصوى للنفقات التي يمكن أن تخلّ بالتوازنات هذه، ما يجعل تقنيي الإدارة الذين يقدّمون جداول الميزانية (وعرّابيهم من ممثّلي المؤسسات المانحة)، هم الذين يقرّرون فعليًا أيّ قوانين أو تعديلات يجوز تمريرها.

23 غسان بن خليفة. (2015) "هنشير ستيل في جمنة: المصلحة العامة قبل الربح الخاصّ"، موقع نواة، http://urlr.me/BPmYT

24 حمزة حموشان. (2016) "قرقنة على خط المواجهة في مقاومة صناعة البترول"، http://urlr.me/C2XF3

25 غسان بن خليفة. (2017) "اعتصام الكامور والحركات الاجتماعية وآفاق الصراع الطبقي في تونس"، http://urlr.me/SncHC

26 في حين كان يُنتظر من قيادة الجبهة الشعبيّة تطوير أدائها والسّعي إلى تحسين نتائجها في انتخابات 2019، حالت الصراعات الداخلية دون ذلك. ويمكن تلخيص الصراعات هذه في مسألتين أساسيّتين: أوّلًا، التباين الكبير أحيانًا في قراءة الواقع السياسي وصياغة الموقف الملائم بين أهمّ مكوّنين للجبهة (حزب الوطنيون الديمقراطيون الموحّد وحزب العمّال)، وقد أثار القيادي بالوطد المنجي الرحوي الجدل مرّات عدّة بمواقفه الخارجة عن خطّ الجبهة والمنتقدة علانية لقيادتها؛ ثانيًا، ضعف الديمقراطية الداخليّة وعدم تفعيل الهياكل الجهوية والمحلّية للجبهة، ما أدّى إلى تذمّر واسع في صفوف بعض المكوّنات، وحتّى مستقلّين، من هيمنة وتفرّد المجلس المركزي للجبهة بالقرار، وتحديدًا ناطقها الرسمي حمّه الهمّامي زعيم حزب العمّال، الذي اتُّهم بمحاولة فرض نفسه مرشّحًا لرئاسيات 2019. وقد كانت تلك القطرة التي أفاضت الكأس وأدّت بداية إلى استقالة 9 أعضاء من الكتلة البرلمانية للجبهة، ثمّ إلى انقسام الجبهة إلى نصفين تنازعا لفترة على ملكيّة اسمها وشاركا كلٌّ على حِدَةٍ في انتخابات 2019. وقد مُنيَ فيها الجميع بنتائج مخيّبة وهزيلة جدًا.

27 شهد الموعدان الانتخابيّان الأخيران انخفاضًا ملحوظًا في نسبة المشاركة، بما يعكس إحباط جزء هامّ من التونسيين من قدرة الانتخابات على تغيير واقعهم المعقّد وظروفهم المعيشيّة متزايدة الصعوبة. إذ شارك في الانتخابات التشريعية 2014 ما يناهز 61.8% من المسجّلين (علمًا أنّ ثلث النّاخبين عزفوا عن التسجيل)، أمّا الانتخابات البلدية عام 2018 فلم تسجّل مشاركة أكثر من 33.7%، فيما بلغت النسبة هذه في تشريعيّات 2019 الـ42% مقابل 48.98% في الدور الأوّل للرئاسية لترتفع إلى 55.02% في الدور الثاني.

28 توفّي قائد السبسي قبل ثلاث شهور من انتهاء عهدته الانتخابية، ما أدّى إلى فترة انتقالية قصيرة ترّأس الدولة خلالها رئيس البرلمان محمد الناصر وأعقبها تنظيم انتخابات رئاسية مبكّرة في 15 سبتمبر/أيلول 2019.

29 غسان بن خليفة ووجدي مسلّمي. (2019) "الهوايدية: عين الماء أم مقطع الحجارة؟" https://www.inhiyez.com/archives/2762

30 علي كنيس. (2021) "معركة قرية أولاد جاب الله: الدولة تواجه صغار الفلّاحة" http://urlr.me/NykWg

31 بعد أن نجحت تونس خلال السنة الأولى في احتواء انتشار وباء كوفيد 19 بفضل جدّية حكومة الياس الفخفاخ (قبل فتح الحدود للسياحة) والتزام المواطنين بالإجراءات الوقائية، شهدت لاحقًا انهيارًا مريعًا مع حكومة المشّيشي، ما أدّى إلى تسجيل أعداد قياسية في الوفيات وفي سرعة انتشار الفيروس: https://cutt.ly/QEuoQis/ https://cutt.ly/5EuoFU8

32 غسّان بن خليفة. (2021) "قيس سعيّد: "قيصر" تصحيح المسار أم انقلابيّ مغامر؟" https://cutt.ly/kEuoNwu

33 تجلّت المساندة المشبوهة هذه بوضوح في العدد الهامّ من الزيارات المتتالية لمسؤولين سعوديين كبار إلى قيس سعيّد واحتفاء وسائل الإعلام التابعة لهذا المحور بما حدث في 25 جويلية/تموز وتحريضها على القضاء على حركة النهضة: https://cutt.ly/fEup2xN

2 While the national unemployment rate reached 13.3 per cent, it reached as high as 37 per cent in Tataouine, in the southeast. Similarly, poverty rates remained four times higher in Tunisia’s inlands when compared with the coastal areas. See Al-Arabi Sadiqi (2019) ‘Regional development in Tunisia: The implications of complex marginalisation’, http://urlr.me/bnZX2

3 See Salehi, S. (2017) Internal Colonialism and Unequal Development. [In Arabic].

4 An economic expert, Jamal Oueididi, notes that Tunisia lost around 55 per cent of its local industrial textile because of this agreement. In parallel, nearly 400,000 textile workers lost their source of income: http://lexpertjournal.net/?p=3613

5 This is an expression that was used by former Secretary of State Condoleezza Rice during the Israeli war on Lebanon in 2006. Rice also spoke of the advantages of ‘creative chaos’ in the region, in reference to the potential implications of an expected Israeli victory over Hezbollah, which did not happen. It is also the title of a book by former Israeli Prime Minister Shimon Peres, in which he called for a ‘peace’ in the region that would be based on Zionist economic hegemony. The expression is also often used synonymously with the ‘Greater Middle East’ that former US President George Bush Jr. mentioned during the occupation of Iraq from 2003.

6 This analytical paper, published by the Tunisian Observatory of Economy, gives an overview of the unjust economic conditions with which the G8 group shackled Tunisia and Egypt in Deauville: http://www.economie-tunisie.org/fr/observatoire/analysiseconomics/actes-conference-partenariat-deauville-politiques-economiques-tunisie.

7 Less than one month after Ben Ali’s removal, questions of religion and secularism began to rise. On 14 February 2011, some Salafists protested, calling for the closure of brothels. Four days later, a Polish Christian priest was killed (it was later revealed that his death was unrelated to religious extremism), and this was then followed by protests by secularists calling for a secular state. An important part of the Islamist and liberal stream (along with some leftists at times) became involved in similar activities that ignited cultural and identitarian conflicts, at the expense of the pursuit of social and economic justice, for which the popular classes had risen up.

8 This phenomenon witnessed in Tunisia during the past decade requires a thorough, detailed study. The colonial and regional international powers have pervaded Tunisian ‘civil society’ through the injection of funding. The former have forced on the latter their liberal agenda, which has helped remove from the streets many movement leaders and has created a social class of ‘civil society activists’ who are detached from the reality of the popular classes and who receive elevated wages in return for their work on projects related to the process of a ‘democratic transition’. Funders determine the priorities, such as capacity building for youth, women’s empowerment, fighting extremism and radicalism, strengthening local communities’ resilience and their economic integration, fighting corruption, decentralization, and local governance. For more, see Hela Yousfi’s research: http://urlr.me/1WPKz.

9 In reference to the secular bourgeoisie, influenced to a large extent by Western (particularly French) culture, and which generally perceives cultural and political expressions that are influenced by Arab-Islamic discourse in a negative light.

10 According to critics, this chapter hinders legislators who might wish to allocate a part of the budget (even if exceptionally) to help the poorer social classes.

11 After Tunisia managed to contain the spread of the Covid-19 pandemic in its first year, thanks to the serious efforts of Elyes Fakhfakh’s government (prior to reopening borders to tourism), the situation experienced a terrible deterioration under Mechichi’s government, seeing record death tolls and viral transmissions.

12 This support was clearly revealed in the important number of consecutive visits by senior Saudi officials to Kais Saied, and in Saudi/Emirati media celebrations of what happened on 25 July, and their incitement that aims to achieve the elimination of the Ennahda Movement.