27 أكتوبر \ تشرين الأول 2021
تضرب انتفاضتا لبنان والعراق في أكتوبر/تشرين الأول 2019 بجذورهما في دورات سابقة من حراكات متلازمة –وإن كانت منفصلة– بلغت ذروتها عام 2015. في 16 يوليو/تموز 2015 تجمّع المتظاهرون في مدينة البصرة جنوبيّ العراق احتجاجًا على انقطاع الكهرباء المتواصل وتلوّث المياه وبطالة الشباب والفساد. وأثناء المظاهرات، قُتل منتظر الحلفي، المتظاهر البالغ من العُمر 18 عامًا، ما أدّى إلى موجة احتجاجات جماعية[1] سرعان ما انتشرت في أنحاء البلاد وصولًا إلى العاصمة بغداد حيث ردّد آلاف الأشخاص الهتاف الشهير «باسم الدين باكونا الحرامية»[2] (باسم الدين سرقنا اللصوص). في اليوم التالي (17 يوليو/تموز 2015) وعلى بعد 1215 كيلومترًا، قطع سكان مدينة الناعمة في جنوب لبنان الطريق المؤدية إلى موقع معالجة القمامة الرئيسي في البلاد بسبب أزمة القمامة التي لوثت معظم مناطق بيروت وجبل لبنان. وكما حدث في العراق، سرعان ما خرجت المظاهرات في العاصمة بيروت حيث تجمّع آلاف المتظاهرين في ساحة الشهداء وراحوا يرددون «كِلُّنْ يعني كٍلُّنْ»، في إدانة صريحة وواضحة لكافة أطراف السلطة الطائفية ورفضًا لها.
لم تكن هاتان الموجتان المتزامنتان من الاحتجاجات الجماعية في لبنان والعراق ظاهرةً جديدة.[3] إذ شهد كلا البلديْن انعطافة كبرى عام 2011 حين اندلعت المظاهرات الجماعية في سياق الانتفاضات العربية. لكنّ حراك عام 2015 مثّل نقطة تحول مهمة في تاريخ الحراك الجماعي ضد النظام في كُلٍ من العراق ولبنان: إذ تَشكَّل ما عُرف بحملات «المجتمع المدني» وترشح بعض أفرادها في الانتخابات البلدية والنيابية.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019 عاد كل من لبنان والعراق إلى الأضواء. فتردّد شعار 2011 الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام» مجدّدًا في المظاهرات الجديدة في البلدين اللّذَين دخلا رسميًا الموجة الثانية من الانتفاضات العربية ، التي انطلقت من السودان والجزائر في أواخر عام 2018.
بخلاف التقارب الجغرافي والثقافي، ما المشترك بين العراق ولبنان؟ يحكُم البلديْن نظامٌ سياسي واقتصادي أفضل ما يمكن وصفه به هو «النيوليبرالية الطائفية». وهو مزيج غريب من تقاسم السلطة بناءً على الهُويّة –ويُعرف أيضًا بـ«الديمقراطية التوافقية»– ونظام اقتصادي نيوليبرالي شرس يعتمد على الريْع والرأسمالية المالية إلى حدّ بعيد وعلى تخفيف الضوابط عن أسواق العمل. في هذا السياق، استهدفت الانتفاضتان في لبنان والعراق هيكل الدولة المُعَقَّد في البلديْن. وفي الوقت نفسه -وبعكس سائر الدول العربية الأخرى- ما من «رأسٍ» واضحٍ في نظامَيْ الدولتيْن يمكن إسقاطه، إنمّا قادة طوائف عدّة يتغذّون على الأيديولوجية الدينية والزبائنية والمحاباة الطائفية، ويشتقون سلطتهم السياسية من تحالفاتهم مع قوى إقليمية مثل إيران والسعودية. أدّى هذا التكوين الجيو-سياسي –إضافةً إلى إرث العنف الطائفي والأزمات الاقتصادية الاجتماعية والبيئية الكبيرة– إلى اندلاع الاحتجاجات في كُلٍ من لبنان والعراق عام 2019. وفي كٍلا البلديْن سرعان ما سُمّيَت تلك الانتفاضات الجديدة بمسمّى «الثورة»، ومثلت بداية فصل جديد في تاريخهما.
بدأت انتفاضتا أكتوبر/تشرين الأول 2019 بالتحرك حول مطالب تخص مشكلات اجتماعية-اقتصادية وأخرى تتعلّق بسوء الإدارة والحُكم. في لبنان -وبعد أسبوع من حرائق الغابات التي اندلعت في مناطق عدّة من البلاد وفي سياق أزمة مالية- كان قرار الحكومة بسنّ ضرائب جديدة في 17 أكتوبر/تشرين الأول –بما يشمل ضريبة الواتس-آب سيئة الذكر– بمثابة الشرارة التي أشعلت الثورة الجديدة هذه. وسارت الأمور في العراق في الطريق نفسه، حيث اندلعت «الثورة» العراقية إبّان حدثيْن رئيسيَّيْن في أواخر سبتمبر/أيلول 2019: الاحتجاج على بطالة الخريجّين الجامعيين وخفض رتبة اللواء عبد الوهاب السعدي، وهو ضابطٌ حسن السمعة لعب دورًا رئيسيًا في هزيمة الدولة الإسلامية «داعش». ومع تنامي الغضب ضد الحكومة العراقية كانت دعوات التظاهر في 1 أكتوبر/تشرين الأول بداية ما وُصف بـ«ثورة تشرين». وفي كل من العراق ولبنان تمكن المتظاهرون من إسقاط رئيس الوزراء، متسبّبين في مأزق سياسي حاول النظام هنا وهناك التعامل معه من خلال تكوين ما سُمّيَ بـ«حكومة التكنوقراط». وللأسف تعطّلت هذه الموجة الثورية الهائلة في البلدين بسبب جائحة كوفيد-19 العالمية وما ترتّب عليها من تدهور مالي سريع.
يتألّف النقاش التالي من ثلاثة أقسام. يناقش الأول ما إذا كانت الانتفاضتان «ثورتيْن» أم انتفاضتان «ثوريّتان» في المقام الأول. ويركّز القسم الثاني على التناقضات الداخلية في هاتين الثورتين ويتمعّن في خطاب الفساد والوحدة الوطنية وسياسة التكنوقراط والفردية. وأخيرًا يتناول القسم الثالث الانتقال من يوتوبيا وآمال أواخر 2019 الكبيرة إلى ديستوبيا وتشاؤم بدايات 2020، مع قدوم كوفيد-19 وتعمّق الأزمات المالية والسياسية.
ثورة، «ثورية» أم لا؟ إعادة النظر في مفاهيمنا
تردّد شعار«ثورة ثورة» مدويًا في معظم ساحات وشوارع مدن لبنان والعراق في أكتوبر/تشرين الأول 2019، حين خرج مئات الآلاف إلى الشوارع لإعلان بداية ما رأوه ثورة. أقنع وضوح تلك اللحظة الحدّيّة الناس بأنّهم بصدد مشهد ثوري. لكن لم تتفق القوى جميعها على هذا التوصيف، مع تبنّي الكثيرين لموقف متشكّك. فالنقاش الذي ظهر عام 2011 حول مدى دقة مصطلح «الثورة» -في إشارة إلى الأحداث التي طرأت على الساحة العربية- عاود الظهور عام 2019. أثناء موجة الانتفاضات الأولى حذّرَنا بعض الباحثين والمثقفين من أن هذه ليست ثورات، إنما مجرد تمردات، أو هبّات، أو انتفاضات، أو حتى «ثور-صلاحية». أعلن آخرون أن تلك الأحداث تمثل «ثورات بلا ثُوّار».[4] وبالفعل، قد لا تندرج الأحداث تلك ضمن التعريف الراسخ لـ«الثورات» الذي نجده في أدبيات الحركات الاجتماعية، لكن من المهم التفكير فيها من حيث كونها «سيرورات » ثورية[5] لا «أحداث» ثورية تنجح أو تفشل. من المهمّ أيضًا فهم البُعد الزمني الذي يحكم تعريف الثورات. فيُشار إلى الثورات بهذا المسمّى بأثر رجعي، بعد أن تنجح في إسقاط طبقة حاكمة أو نظام حاكم. قد تستغرق العملية هذه سنوات أو حتّى عقودًا، وكثيرًا ما تبوء بالفشل. حتى الثورات الأشهر والأبرز لم تحدث إلا في سياق دورات من المدّ والجزر، كما أنّها استغرقت عشرات السنين. على سبيل المثال، استغرقت الثورة الفرنسية –بكل ما يصاحبها من احتفاء– نحو ثمانين عامًا لتكتمل، ومرّت بدورات عدّة من النزاع والتعرّض لهبّات الثورة المضادة قبل تأسيس الجمهورية الأولى. حتى الثورة الروسية عام 1917 يمكن فهمها بصفتها عملية سياسية أوسع بدأت عام 1905 ومرّت بحلقات عدّة قبل الضربة الأخيرة ضد النظام القيصري عام 1917. إذًا فأثناء التفكير في أحداث أكتوبر/تشرين الأول 2019 في كل من لبنان والعراق بوصفتها انتفاضات ثورية، لابدّ من تحديث ما في جُعبتنا من مفاهيم لإفساح المجال أمام العثور على ماهو ثوريفي الثورة».[6] من المهمّ إذً ألّا نقلّل من شأن هذه الخبرات. إذ أنّ المسارات طويلة الأمد تشكّل مخيّلة الناس السياسية وتُحوّلها في حياتهم اليومية. إنّ هذه الطاقة اليوتوبية والثورية الساعية إلى بديل والتي تحاول تَخَيُّل ذلك البديل –ما بعد الطائفية والديكتاتورية والتسليم بواقع الرأسمالية– هي التي يجب أن تكون في جوهر فهمنا لهذه اللحظات التاريخية. كان السوسيولوجي جيفري بيج محقًا عندما قال: «الثورة لها مستقبل حتى وإن غاب هذا المستقبل عن بعض التعاريف النظرية للثورة».[7] من هنا، علينا ألّا نَعْلَق في النقاشات الجامدة وشديدة المعياريّة ، والتي أحيانًا ما تكون في غير محلها، حول ما إذا كانت تلك الأحداث الآنية ثورات أم لا. والأهم ألّا نُحجم قطّ عن اعتماد مصطلح «ثوريّة» و«ثوري» في وصف التطورات التاريخية التي تحدث في لبنان والعراق منذ 2019. فباستخدام كلمات «ثورة» و«ثوري» نحيّي في المقام الأول تجارب الملايين ونحتفي بها. أولئك الذين آمنوا بإمكانية الثورة في اللحظة المذكورة والذين وصفوا -هم أنفسهم- تلك الأحداث بـ «الثورة» واعتبروا أنفسهم «ثوارًا»، حتى ولو للحظة وجيزة. ثانيًا، نحثّ بهذه الطريقة على إعادة التفكير نظريًا في معنى وقوام «الثورة» في ظلّ الرأسمالية النيوليبرالية في القرن الحادي والعشرين بشكل أعمّ. ليست هذه دعوة للابتعاد عن المناقشات النظرية حول كنه الثورات إذن، بل دعوة لإعادة التفكير في مفاهيمنا المعتمَدة، وبأن نكيّفها مع واقع العهد النيوليبرالي في القرن الحادي والعشرين. هذا مهم للغاية في حالة لبنان والعراق، إذ قد يساعدنا في فهم مدى ما تنطوي عليه هذه اللحظات الثورية من تناقضات داخلية: رفض النظام النيوليبرالي-الطائفي مع تبنّي خطاباته ومنطلقاته الأيديولوجية أحيانًا (كما نناقش في القسم التالي.
مواجهة النيوليبرالية الطائفية باستخدام ثقافتها السياسية الليبرالية؟
عادةً ما تزخر اللحظات الثورية بسمات وآليات متناقضة. كما أنّ من يواجه النيوليبرالية الطائفية قد يتبنى كليشيهاتها وشعاراتها الأساسيّة. تكشفُ النظرة المُدَقِّقة في ثورتَي 2019 في لبنان والعراق عن هذه التناقضات. هل يعني خطاب الوطنية و«التعايش» إدانة الطائفية بالضرورة؟ هل المشكلة مشكلة فساد بحدّ ذاته، أم هي مشكلة الرأسمالية النيوليبرالية؟ هل يمكن أن نعتبر المطالب السياسية التكنوقراطية مطالب ثورية؟ هل تمهد الفردانيّة والنهج الحقوقي الطريق للثورة أم هي مقاربات إصلاحية تصبّ في مصلحة إعادة إنتاج الوضع الراهن؟ فيما يلي ندقق النظر في هذه التوجهات، ولا سيما كيف تعكس مُخلَّفات ثقافة سياسية غذّتها عقودٌ من الرأسمالية الطائفية.
القوميّة في مواجهة الطائفية؟
كان التلويح بالعلم الوطني وترديد كلمات وألحان النشيد الوطني شائعًا –ومهيمنًا في بعض الأحيان– في الساحات العامة في كُلٍ من لبنان والعراق عام 2019. يُعَدّ هذا التركيز على الهوية القوميّةي اللبنانية أو العراقية وسيلة للتعبير عن رفض الطائفية والانقسامات الإثنيّة، ويُسلٍّط الضوء على «التعايش» و«الوحدة الوطنية»، وهي ظاهرة لا تُعدّ جديدة ولا استثنائية. لقد شوهد التركيز على الهوية القوميّة والمشاعر الوطنية في كثير من الدول الأخرى (مثل الجزائر ومصر)، حيث ظلت المسألة القوميّة مركزية في تشكيل المُخيَّلة السياسية للثوار. وفي دول أخرى مثل سوريا وليبيا تبنّى المتظاهرون رايات استقلال مُعدَّلَة، إشارةً إلى الخروج على النظم الديكتاتورية (حزب البعث ومعمر القذافي) وراياتها. ظهر هذا التنويع على العلاقة بين الراية والنشيد الوطني والنظام في أغلب ساحات وشوارع المنطقة العربية منذ عام 2011.
لكن في لبنان والعراق تبنّى المتظاهرون بشكل غالب نهجًا وطنيًا لا للتعبير عن إرث النضال الوطني أو الفخر بالأمة القوية أو رفضًا لراية معيّنة مرتبطة بالنظام، إنما من أجل إبراز سعيهم إلى خلق وطنٍ حقيقي نابع من محاولاتهم دحر الانقسامات الطائفية. لكن هل القوميّة «ضٍدٌ» للطائفية بالضرورة؟ تُظهر الأدبيات التي برزت على مدار عقود عن الطائفية والقوميّة أنّ هاتيْن الظاهرتيْن هما وجهان لعملة واحدة في معظم الحالات. فكثيرًا ما يُروَّج للقوميّة بنكهة طائفية في لبنان والعراق، على النقيض من الوضع في نضالات تحرّر وطني عدّة، حيث تُمثّل القوميّة عقيدة سياسية تواجه الاستعمار أو الاحتلال. ويقدّم تاريخ المنطقة أمثلة دالة. لنأخذ مثالين: ارتبطت القومية العربية تاريخيًا بطابع سُنّي فيما ارتبطت القوميّة اللبنانية بطابع مسيحي. لكن مازال شائعًا استخدام المواطنين العاديين في المجتمع الخطابَ الوطني للإشارة إلى رفضهم للطائفية. على ضوء المذكور، يمكننا القول إن الانتفاضتين في كل من العراق ولبنان حاولتا التصدي لمسألة الطائفية بوضوح، وذلك عبر رفع مطالب «وطن متخيَّل» تعويضًا عن المشاكل التي تواجه البلدين.
في انتفاضة العراق عام 2019 كانت الشعارات الرئيسية في الساحات هي «الشعب يريد إسقاط النظام» (شعار احتجاجات 2011 الشهير في المنطقة العربية) و«نريد وطنـ[اً]». اقترن هذا بشعارات ولافتات تندد بالطائفية وتشدد على الأخوّة بين العراقيين السنّة والشيعة. وعن طريق المطالبة بـ «وطن»[8] ونبذ الطائفية لوّح المتظاهرون برغبتهم في الدولة الحديثة القادرة على خدمة مواطنيها وإتاحة إحساس بانتماء يتجاوز التشظي الطائفي والإثني.
وفي لبنان ظهرت عملية مشابهة من إعادة تخيّل «الوطن» بما يسمو على التشظي الطائفي. إذ احتشدت رايات العلم اللبناني سريعًا في الساحات، وسُمع النشيد الوطني اللبناني كثيرًا عبر مكبرات الصوت التي نصبها المتظاهرون. في حين شملت الشعارات الرئيسية أيضاً شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» الشهير، أضيف شعار آخر صُنع خصيصاً للحظة: «كِلُّنْ يعني كِلُّنْ»، إشارة إلى رفض نظام المحاصَصة الطائفية للسلطة وتنديدًا بكافة الزعماء بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية. وكما في العراق، عُبِّرَ عن رفض الطائفية السياسية عَبرَ إظهار الرغبة في التخلص من الزعامات الطائفية كافّةً، وذلك لبناء «وطن» و«دولة» و«أمة» تحمي المواطنين وتُعاملهم بمساواة وإنصاف.
على أن الطائفية لم تكن المشكلة الوحيدة التي تتطلّب المواجهة في البلدين. إذ كان الوضع الاقتصادي الصعب مهيمنًا كذلك بقوة على اللحظة. كما اقترن خطاب الوحدة الوطنية والتعايش بشعارات عن الوضع الاقتصادي غالبًا ما اتخذت صيغة خطاب «مكافحة الفساد».
أهو الفساد أم النيوليبرالية الطائفية؟
كان التوجه الذي ظهر في الثورتيْن –وبدا مناقضًا للجانب الجذري للحظة– هو هيمنة الخطاب الليبرالي الذي ركّز على «الفساد». يُعدّ الفساد بالطبع مشكلة كبرى في كُلٍ من لبنان والعراق. إلّا أنّ معدلات بطالة الشباب المقلقة للغاية ونزع ضوابط تنظيم سوق العمل وتوسّع القطاع الاقتصادي غير الرسمي وسياسات التقشف وغياب تنمية القطاعات الاقتصادية المنتجة والاعتماد المفرط على الاستيراد لتلبية الاحتياجات الأساسية (مثل الغذاء والكهرباء) وأزمة الديون والاعتماد على الرأسمال المالي (القطاع المصرفي) والعوائد النفطية، جميعها ظواهر ومشاكل لا يمكن اعتبارها ناتجة عن الفساد وحده. هذه وبكل وضوح مؤشرات على أزمة أعمق، هي أزمة النظام الرأسمالي النيوليبرالي الذي –في حالة كل من لبنان والعراق– تقاطع مع نظام سياسي طائفي وعسكرة ثقيلة لبعض الأحزاب السياسية، ما أسفر عن شكل من أشكال «الدولة المافيا»، حيث تتحرك النُخب الحاكمة لضمان أن تخدمهم الدولة وتحقّق لهم مصالحهم الاقتصادية ومصالح مَحاسيبِهم في دوائر الأعمال والقطاع المصرفي ممّن يخدمون بقاءهم في السلطة.
لقد سَمح انتعاش هذه الأوليجارشية التي تسيطر على الدولة وتستخدمها لتحقيق مصالحها –في ظلّ الحماية من المحاسبة ومنع سيادة القانون– بازدهار شبكات رعاية وسياسة زبائنية تخدم ما يوصف بـ«سياسة لا-دولة الرفاه» وتشكّله.[9] في هذا السياق راح الثوار في شوارع لبنان والعراق –الذين كانوا يتظاهرون كذلك ضد البطالة والأزمة المالية– يحتجون أيضًا ولو بشكل غير مباشر على الرأسمالية النيوليبرالية وطبعتها المحلية من النيوليبرالية الطائفية. لكن ظلّ تأطير المتظاهرين للوضع يركز أساسًا على مكافحة الفساد ولم يتصدَّ لبُنى النظام الاقتصادي. وهكذا راحت الأزمة تُختزل بشكل متزايد في فساد قلة من «الزعماء الفاسدين» ووجوب استبدالهم بآخرين من التكنوقراط أفضل وأكثر أخلاقية. كان هذا التوجه الذي شكلته لغة وأسلوبية منظمات المجتمع المدني المعنية بمكافحة الفساد –التي تحُول دون سقف التصدي للرأسمالية بصفتها مشكلة جذرية– بمثابة السُحب والغيوم المتراكمة التي حجبت سماء الحالة الجذريّة التي شهدتها الأيام الأولى من التظاهر. ففي الأيام الأولى تلك، تمثّلت المطالب في تغييرٍ كاملٍ للنظام وليس في استبدال الساسة الفاسدين وحسب.
من هذه الزاوية، يبدو أنّ التحدّي الرئيسي الذي يواجه الانتفاضتين العراقية واللبنانية هو تجاوز السياسة الليبرالية وتصويب أهداف النضال نحو ركيزتَيْ النظام النيوليبرالي الطائفي على وجه التحديد: أي إبقاء التركيز على المطالبة بالعدالة الاجتماعية-الاقتصادية بما يتجاوز الرأسمالية النيوليبرالية، وكذلك رفض نظام المحاصصة الطائفي وسياسات الهوية وثيقَي الصّلة بالنظام الرأسمالي المذكور.
سياسة التكنوقراط وغياب القيادة
لقد أصبحت المطالب الشعبية بحكومة تكنوقراط –التي ظهرت في أعقاب استقالة رئيسيْ الوزراء في لبنان والعراق– بمثابة سترة النجاة للنظامين. كيف انتقل المتظاهرون من الرغبة في اقتلاع النظام بكامله إلى مطالبة النظامين بتشكيل حكومات تكنوقراط؟
تكشّف هذا التناقض الثالث لانتفاضتي 2019 في لبنان والعراق في صورة الهوة العميقة بين المطالب الجذريّة بالتغيير الكامل من جهة وانتشار الاحتفاء بانعدام القيادة والمطالب السياسية التكنوقراطية من جهة أخرى. نظرًا للوضع القائم في البلدين اعتبرت شرائح كبيرة من المجتمع انعدامَ القيادة وغيابَ التنظيم السياسي ضدًا للفساد والإجرام. فقد نشأ الجيل الجديد على اعتبار الأحزاب السياسية كيانات فاسدة، ونأى بنفسه عن التنظيم السياسي والطموح إلى القيادة السياسية. بالنسبة لأغلب الناس، أن يكون المرء وطنيًا وشريفًا فهذا معناه بالضرورة الابتعاد عن السياسة برُمّتها. يُترجَم النهج «الضد-سياسي» هذا في حالات كثيرة –رغم أنه يضرب بجذوره في رفض السياسة التقليدية– إلى رفض كافة أشكال التنظيم والقيادة. أدى هذا إلى تناقض عميق أثناء أيام الانتفاض الأولى: عندما كانت الإرادة الشعبية الساعية إلى خلع النظام على أشُدِّها، في حين كانت القدرة الشعبية على تقديم بديل سياسي ضعيفة للغاية. أدت أزمة التنظيم السياسي هذه إلى رفع الجموع لمطالب بدت تارةً أناركية/لا سُلطويّة (رفض كل حُكم وكل قيادة) وطورًا ليبرالية (المطالبة بتشكيل حكومة تكنوقراط).
ها هنا من جديد لم تنجح المطالب في الاستفادة من الإمكانات الجذريّة والثورية لِلَّحظة. لا بُدّ أن نفهم هذا الوضع بصفته نتيجةً لضعف التنظيم السياسي اليساري ولاستيلاء الدولة على النقابات والاتحادات العمالية وتدجينها. وهكذا اقتيدَت اللحظة الثورية من قِبل اتجاهات سياسية خففت من جذريّة المسار السياسي الثوري بدلًا من تعزيزها. على النقيض من الحال في السودان أو تونس –حيث تمكنت النقابات والتنظيمات اليسارية من النهوض باللحظة الثورية الأولى (رغم تطورات الثورة المضادة لاحقًا)– فإن الثورة في لبنان والعراق اندلعت في وقت كانت فيه هذه التنظيمات ضعيفة لدرجة عدم القدرة على القيادة.
نظرًا لضعف النقابات في البلدين استُخدمت تكتيكات قطع الطريق بصورة موسعة لإيقاف الحركة في البلدين، بشكل غير مباشر، من أجل فرض إضراب عام بحُكم الأمر الواقع. سمح الإغلاق المفروض على الأعمال والمؤسسات لحشود كبيرة بالتجمّع في الشوارع وتهيئة لحظة ثورية. وبالمثل لعبت الحركات الطلابية دورًا هامًا في استمرار الانتفاضة في لبنان والعراق عبر دعواتها بالإضراب والحشد للتظاهر. لكن رغم الجهود الجماعية الهائلة هذه لمئات الآلاف الذين قدموا أفضل ما لديهم لضمان نجاح اللحظة الثورية فإن غياب التنظيم والقيادة –وعقودًا من ضرب التنظيم السياسي وصعود منظمات المجتمع المدني في لبنان منذ مطلع التسعينيات وفي العراق منذ عام 2003– أدّيا إلى وضع سقف سياسي للثورة كان أدنى بكثير من المطامح الشعبية التي أطلقتها.
ثورتي أم ثورتنا؟ بحثاً عن «نحن» الجماعة
يُذكّرنا تمفصل وتغيّر ديناميّات الانتفاضة في العراق ولبنان بأنّ النيوليبرالية أكبر من كونها هياكل وبنى مالية فحسب، إنّما هي تجسّدات أيديولوجية كذلك. إنّ التناقض بين «جماعيّة» اللحظة الثورية و«فردانيّة» الأطر السياسية التي ظهرت من قلب هذا الفعل الجماعي لدليلٌ مُمَيّز على عصرنا النيوليبرالي. برز هذا في تأطير بعض المبادرات السياسية الكبرى أثناء تلك الفترة في قالب فردي ذاتي (لا موضوعي) بالأساس. لنأخذ «بيروت مدينتي» مثالًا: خرجت الحملة الانتخابية الرئيسية هذه من رحم حراك 2015 في لبنان ونشطت خلال انتفاضة 2019. بدلاً من التشديد على الجماعية باستخدام شعار «مدينتنا» بحيث نعيد النظر في المدينة بصفتها مساحة مشتركة للجميع، شدّد الاسم الذي اعتمدته الحملة على العلاقة الفردية بالمدينة. وبالمثل في أعقاب الانهيار المالي عام 2019 رسم النشطاء في الحراك اللبناني بالجرافيتي على نوافذ المصارف شعارات «أعطوني نقودي» وليس «أعطونا نقودنا». في حين كان الغضب الجمْعي ضد المصارف واضحًا كل الوضوح، فإنّ الثقافة السياسية التي شكلت الناشطيّة في تلك الفترة كانت ما تزال نتاجًا لنفس النظام الذي تقاومه.
كما شدّدت حملات كثيرة على النهج القانوني والحقوقي الذي يبدو منفصلًا عن واقع الأحوال في كل من لبنان والعراق. في البلدين ازدهرت النيوليبرالية الطائفية في فترة ما بعد الحرب في سياق من ضعفِ ووهنِ المنظومة القانونية والقضائية. كما أنّ لغة وأسلوبية «الحقوق» لا تحتلّ مساحة مركزية في المخيال السياسي للناس، الذين تعلموا ألا يثقوا بالمسار القانوني. على أنّ حركات سياسية وحملات بارزة عدّة ركزت على «الحقوق» الفردية هدفًا أساسيًّا لناشطيها. أحد الأمثلة هي الحملة السياسية التي أشعلت فتيل الانتفاض في العراق، تحت شعار «نازل آخد حقي»، ومجموعة «لِحَقي» (من أجل حقي) السياسية التي نشطت بقوة في الانتفاضة اللبنانية.
يُظهر هذا التركيز على الحقوق الفردية في التنظيمات والحملات السياسية السعي الحثيث إلى دولة مُتَخَيَّلة تُحترم فيها سيادة القانون. لكن وكما أوضحنا أعلاه، يبدو تغلغُل الثقافة النيوليبرالية التي تقدّس الفردانيّة والحقوق الفردية متناقضًا مع السياسة التقدمية للجماعية التي نراها في ساحات الثورات، حتى ولو لفترة قصيرة.
من اليوتوبيا إلى الديستوبيا: البرزخية وكوفيد-19 والثورة المضادة
«لم نرغب في النوم لأن الحلم الذي كنا نعيشه أثناء اليقظة كان أجمل بكثير».
هكذا كانت تجربة أن يعيش المرء خلال الأيام الأولى لـ «ثورة» 2019 كما وصفها شاب من قضاء الشوف في جبل لبنان. تجربة الثورة البرزخية[10] -أي اعتبار الثورة حالة من الحلم أو «البرزخ الزماني»[11] أو القطيعة الواضحة مع «الوضع الطبيعي» السابق للثورة- أدت بالمتظاهرين إلى الإيمان بأنها لحظة قد تتحقق فيها كل الإمكانات والاحتمالات. كانت التحولات السريعة في تجارب الناس المعيشية اليومية في لبنان والعراق وظهور «الكوميونات» بشكل تلقائي حيث تهيمن الجماعية والرفاقية على الساحات ظاهرة يصعب أن تخطئها العين في أيام الثورة الأولى. التعاون والرفاقية والاجتماع في الخيام والمناقشات السياسية الجماعية والأجواء الاحتفالية هي ظواهر شكّلت طبيعة الحياة في الساحات. لكن عكَّر صفوَ تلك اللحظة العنفُ الثقيل والقمع الشديد من قِبل أجهزة الدولة الأمنيّة وميليشياتها. في حين ارتدّت الهجمة إلى صدر النظام في البداية، إذ دفعت الكثيرين إلى الاحتشاد غضبًا من استهداف المتظاهرين. وفي نهاية عام 2019 بدأت الثورة في البلدين تدخُل نفقًا مظلمًا، وذلك في ظل غياب البدائل السياسية وعدم القدرة على الاستمرار في الإضرابات وإعادة النظام تموضعه بعد الصدمة الأولى التي تلقاها في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
مع بداية عام 2020 تكاثفت جملة من الظروف الاستثنائية لإيقاف العملية الثورية: جائحة عالمية وانهيار مالي عميق. وفي لبنان طرأ أيضًا انفجار مرفأ بيروت الهائل الذي حطّم المدينة وهشّم معنويات سكانّها. اقترنت الظروف الخارجية هذه بموجة من محاولة احتواء الثورة وصعود الثورة المضادة، وهو الوضع الذي تعمّق وتجذّر في نهاية عام 2019. أصبح تشكيل حكومات التكنوقراط هو وسيلة «النظم القديمة» (تلك التي خرجت ضدها الثورة) للاستمرار في الحكم، وذلك رغم صعوبة هذه المهمة بعد أكتوبر/تشرين الأول 2019 في البلدين.
لكن وفود كوفيد-19 إلى المنطقة لم يقتصر على تهديد الصحة العامة، إنما اقترن أيضًا بانعطافة في الأحداث باتجاه تحقيق مصالح الثورة المضادة. أُخليَت الساحات قسرًا وتوقف الحشد عن التظاهر في الشوارع. استغلت الدولة الفرصة لقمع المعارضة تحت شعار حماية الصحة العامة. أصبح من الصعب أن تستمر الانتفاضة، وذلك رغم الأزمات السياسية والاقتصادية المستمرة والمتزايدة. أدّى الانتقال المفاجئ من التجربة الجماعية الكثيفة للثورة إلى عزلة الجائحة العارمة إلى إحساس عامٍ بالهزيمة.
سرعان ما ولّت يوتوبيا أيام الثورة الأولى تحت وطأة ديستوبيا الجائحة وما تلاها من أحداث. صعّب التراجع والانحسار في البلدين -تحت وطأة الأزمة الاقتصادية- مهمّة التنظيم. في لبنان أدى انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب (الذي يُعدّ ثالث أكبر انفجار غير نووي في التاريخ) إلى تدمير المدينة وتزامن مع موجة هجرة جماعية هائلة إلى خارج البلاد. وشهد العراق سلسلة من الاغتيالات السياسية، وبدرجة أقلّ في لبنان، ما سلّط الضوء على واقع أن المعارضة السياسية مقرونة بالخطر والتهديد الحقيقي بالقتل في أي وقت. لكن ها هي الجائحة بدأت في الانحسار، ومع تعمّق وتجذر الأزمات المالية والسياسية من المرجّح أن تستمرّ العمليات الثورية التي بدأت في لبنان والعراق في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وإن اتخذت أشكالاً وقوالب جديدة.
الخلاصة
قدّم هذا المقال حُجَجًا لعدم إمكانية قراءة الانتفاضتين الثوريّتين اللتين انطلقتا في أكتوبر/تشرين الأول 2019 في لبنان والعراق إلا باعتبارهما جزءًا من عملية ثورية أوسع وأكبر بدأت في عام 2011 واشتدت في البلدين في عام 2015، قبل أن تصل إلى ذروتها عام 2019 في سياق الموجة الثانية من الانتفاضات في المنطقة العربية. وفيما قد لا تندرج هاتان الانتفاضتان تحت التصنيف التقليدي للثورات –بما أنهما لم تتمكنا من إسقاط النظام– من المهم أن نفكر فيهما بصفتهما جزءًا من سيرورة ثورية. ولا يعود ذلك لوجوب تجنّبنا اقتصار الثورات على الأحداث الثورية أو تحجيمها في ثنائيات سياسية فحسب (فازت أو هُزمت)، إنما أيضًا لضرورة إعادة النظر في معنى وأشكال الثورة في ظلّ الرأسمالية النيوليبرالية العالمية في القرن الحادي والعشرين.
كما ناقش المقال التناقضات الداخلية التي وسمت الانتفاضتين في لبنان والعراق في عام 2019، مع هيمنة الخطاب الليبرالي المتمثل في التركيز على التعايش الوطني ومكافحة الفساد والحقوق الفردية وسياسة التكنوقراط، وهو الخطاب الذي لا يرقى إلى الإمكانات الجذريّة الكامنة في لحظة الانفجار الثوري. يضيف التحليل أن إحدى التبعات الهامة للنظام النيوليبرالي الطائفي الذي يحكم البلدين –والذي يفضّل المُحاوٍرٍين الفرديّين – كانت إضعاف التنظيم السياسي والعمل النقابي، أي إضعاف البنى والهياكل القادرة على دعم الانتقال إلى نظام سياسي جديد. هذه التنظيمات ضرورية أيضًا لمواجهة النُظم ثنائية الأقطاب في البلدين، حيث تغذّي الطائفية والنيوليبرالية بعضهما لإعادة إنتاج الوضع الراهن وضمان استمراره.
مع انتشار كوفيد-19 مؤخرًا في البلدين، يُعدّ ظهور وتنظيم حالة «نحن» الجماعية المفقودة أولوية أساسية لهزيمة نظام غير قادر بكل وضوح على حماية المجتمع لا من الكوارث الاقتصادية ولاالجوائح الصحية. إن أشكال التنظيم الجديدة –سواء في أماكن العمل أو في مستوى الحي السكني– والتنظيمات القادرة على جمع العاطلين عن العمل والعمال المهاجرين وعاملات المنازل والعاملين في القطاع غير الرسمي هي جميعها ضرورية لبناء حركة أقوى قادرة على تجاوز النيوليبرالية الطائفية والسموّ عليها بصفتها هيكلًا اقتصاديًا وجهازًا أيديولوجيًا في آن، تشكّل مخيالنا السياسي وتَحُدُّ ممّا نعتبره في عداد «الممكن السياسي».
لن تسود الانتفاضات الثورية هذه إلا عن طريق ربط نضالاتنا معًا داخل مجتمعاتنا وعبر الحدود الاستعماريّة للدولة الأمة. التضامن مع فلسطين ودعم عمال شركة «أمازون» في الولايات المتحدة والدفاع عن حقوق اللاجئين والعمال المهاجرين ودعم مطامح الحركة النسوية: هذا هو الطريق المؤدي إلى تحقيق الانتفاضتين اللبنانية والعراقية بكامل إمكاناتها الثورية، سواء أيديولوجيًا أو سياسيًا وبما يتجاوز النيوليبرالية الطائفية.